309

১৯ শতকের শুরুতে মিশর (১৮০১-১৮১১) (প্রথম খণ্ড)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

জনগুলি

ولا جدال في أن المشايخ قد كسبوا نفوذا جديدا من جراء مساهمتهم في انقلاب مايو 1805، وحق لهم أن يتطلعوا إلى مشاورة الباشا لهم، ولم يبد من جانب محمد علي ما يجعلهم يشعرون في العامين التاليين أنه لا يريد مشاورتهم، بل على النقيض من ذلك، كانت هذه المشاورة في نظر محمد علي نفسه ضرورية لا غنى عنها لاجتياز الأزمات العصيبة التي اعترضت الحكم وقتئذ، لتوسط المشايخ في جمع الإتاوات وعقد السلف والقروض لسد حاجته الملحة إلى المال دائما ، ولتهدئة القاهريين الذين تعرضوا لإيذاء الجند، وللاعتماد عليهم في إقناع الباب العالي بضرورة بقائه في الولاية، وقد مهد محمد علي للظفر من المشايخ بتلبية مطالبه منهم، وإبداء الرأي والمشورة على النحو الذي يريده، بإرخاء العنان لهم، في التكالب على إنماء ثرواتهم الخاصة، وقد تقدم كيف تركهم يستكثرون من شراء حصص الالتزام، ويستغلون لنفعهم الشخصي مسموح المشايخ، يعيشون في بذخ وترف، ويجمعون حولهم الخدام والأتباع، فلم يلبث هؤلاء أن صاروا أدوات طيعة في يده، يلبون كل إشارة تبدر منه، ويسعون - سواء شاءوا أو لم يريدوا ذلك - لتعزيز ملكه وسلطانه، فهو يستكتبهم العرائض للباب العالي، ويوسطهم لدى البكوات المماليك، ويعتمد عليهم في استكمال أسباب الدفاع عن القاهرة (أيام حملة فريزر خصوصا).

وقد ترتب على هذا أن توهم المشايخ، والسيد عمر مكرم على وجه الخصوص، وهو صاحب اليد الطولى في إنهاء الأزمات التي سبقت انقلاب 1805، لصالح محمد علي، ثم في أثناء انقلاب 1805 نفسه، وما تبع هذا الانقلاب من أزمات أخرى؛ ترتب على هذا أن راح هؤلاء يفسرون مبدأ المشاورة بأنه إلزام للباشا بالرضوخ لكل رأي قد يشيرون عليه به، فإذا أبى المشورة، هددوا بإثارة القاهريين وتحريك الثورة ضده لطرده من الباشوية كما طردوا خورشيد باشا، فكان في هذا الوهم نكبتهم لأسباب عدة، أهمها: أن الشعب الذي شاهد الباشا يجتاز بنجاح الأزمات التي صادفته، وتتدعم أركان حكومته كلما طال بحكمه الأمد صار يفطن إلى أنه قد صار بالبلاد حاكم واحد، ويدرك أن هذا الحاكم يعتزم البقاء في باشويته، أضف إلى هذا أن الشعب الذي بدأ يفقد ثقته في المشايخ المتصدرين من أيام الاحتلال الفرنسي، ثم شاهدهم متكالبين على الدنيا، تسود الخلافات والمشاحنات بينهم، ولا يعنون إلا بخدمة مصالحهم الخاصة، ويجعلون من أنفسهم أدوات في أيدي الباشا وعمالا له لتوزيع الفرض والإتاوات على الأهلين، وجمع السلف والقروض الإجبارية منهم، بدلا من الاعتراض عليها، صار لا يأبه لهم، وضاعت مكانتهم عنده، حتى إذا أراد فريق منهم مقاومة حكومة الباشا بعد فوات الفرصة، انفض الشعب عنهم ولم يؤازرهم، فكان المشايخ أنفسهم المسئولين عن فقد ذلك النفوذ الذي بدأ يكون لهم من جديد ابتداء من حادث انقلاب عام 1805، والذي أكسبتهم إياه حوادث الأزمات التالية، والذي كان في وسعهم أن يستندوا عليه في فرض مشورتهم على الباشا، وإلزامه باتباعها إلزاما لو أنهم قنعوا بالقيام على شئون الدين، وعزفوا عن الجاه الزائف، وحرصوا على التكتل في جبهة واحدة رائدها التوسط حقيقة لرفع المظالم عن الشعب.

ولكنه ما مرت شهور قليلة على انقلاب 1805، حتى شاعت الفرقة بين المشايخ ووقعت بين أهل الأزهر منافسات، قال الشيخ الجبرتي إنها كانت بسبب أمور وأغراض نفسانية يطول شرحها، فتحزبوا حزبين: أحدهما يناصر الشيخ عبد الله الشرقاوي، والآخر الشيخ محمد الأمير، ودار الخلاف على نظارة الجامع الأزهر، وكان من أنصار الشيخ الأمير، عمر مكرم والشيخ محمد السادات، فكتبوا له تقريرا بذلك من القاضي، وختم عليه المشايخ، وقد استمر الخلاف قائما بسبب مشيخة الجامع ونظر أوقافه وأوقاف عبد الرحمن كتخدا مدة طويلة، وفشلت جهود الشيخ عبد الرحمن السجيني في مايو 1806 في إزالة أسباب التنافر، وسعى المشايخ: محمد الدواخلي، وسعيد الشامي، وكذلك عمر مكرم في حق الشيخ عبد الله الشرقاوي، بسبب أمور وضغائن ومنافسات فأغروا الباشا به، فأمره بلزوم داره، وألا يخرج منها ولا إلى صلاة الجمعة، حتى تدخل القاضي عارف أفندي في شأنه مع الباشا للإفراج عنه، والإذن له في الركوب والخروج من داره حيث يريد، فقال الباشا: أنا لا ذنب لي في التحجير عليه، وإنما ذلك من تفاقمهم مع بعضهم، فاستأذنه في مصالحتهم، فأذن له في ذلك، فعمل لهم القاضي وليمة ودعاهم، وتغدوا عنده، وصالحهم، وقرءوا بينهم الفاتحة، وذهبوا إلى دورهم، والذي في القلب مستقر فيه.

وقد استمرت الخلافات والمنافسات وتزايدت الحزازات بين المشايخ حتى ذهبت ريحهم تماما وأتاحت هذه الضغائن والانقسامات الفرصة للباشا للعمل على زيادة التفرقة بينهم، والإمعان في إضعافهم، حتى تسنى له إهمال أمرهم ثم إخماد كل معارضة من جانبهم والقضاء على ما تبقى من نفوذهم الذي كان قد وهن كثيرا، والانفراد وحده بكل أسباب السلطة في باشويته.

وكان من أهم العوامل في إضعاف شأن المشايخ، ما سبقت الإشارة إليه مرارا وتكرارا من انصراف هؤلاء عن الدين والعبادة، وتأدية وظائفهم التقليدية في المجتمع المصري، من حيث وعظ الناس وإرشادهم، والاهتمام بأمورهم والتوسط لقضاء حاجاتهم والشفاعة للمظلومين منهم عند الحكام، كل ذلك كواجب حتمي، لا ينتظرون من أدائه أجرا ولا شكورا، فصاروا متكالبين على الدنيا، لا يبغون من الوساطة إلا تعزيز مكانتهم هم أنفسهم لدى السلطات الحاكمة، وصاروا يأخذون عن هذه الوساطة الأجور العالية في صورة الهدايا والعطايا الجزيلة من الفلاحين وسائر الأهلين الذين يتوسطون لهم، وقد ظهرت أنانية المشايخ، وتقديم مصالحهم ومنافعهم الذاتية على مصالح الأهلين، في حادث فتنة الجند الكبيرة في أكتوبر ونوفمبر 1807، وقد سبق الكلام مفصلا عن الترتيب الذي وضع عندئذ لجمع المال المطلوب دفع مرتبات الجند منه لإنهاء الفتنة، وكيف أن المشايخ جعلوا العبء الأكبر يقع على صغار التجار وأهل الحرف ومن إليهم، وعلى الفلاحين المشتغلين في حصصهم، كما سبق الكلام عن استغلال المشايخ السيئ لهؤلاء الفلاحين المشتغلين في حصصهم، واتضح لسواد الشعب أن هؤلاء المشايخ المتصدرين، لا يريدون من هذه الصدارة سوى الظفر بالمغانم لأنفسهم، وانتهاز الفرص عن طريق تقربهم من الهيئة الحاكمة، والإذعان لمشيئة الحكام، للاستكثار من الأراضي والأموال، والعيش في بذخ وترف، حتى سماهم الشيخ الجبرتي «بمشايخ الوقت»؛ أي الانتهازيين الذين يدورون مع الريح أينما دارت.

وقد وصف الشيخ الجبرتي ما ترتب على استكثار هؤلاء من البلاد والحصص التي دخلت تحت مسموح المشايخ والتي أعفيت من المغارم والشهريات والفرض التي صار الباشا يفرضها على القرى، ومظالم الكشوفية وغير ذلك، فقال: «إن المشايخ اغتروا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المنجاحين بدون القيمة»، ثم راح يصف تكالبهم على الدنيا، والفساد الذي استشرى في صفوفهم، فقال: «وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم، إلا بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج المعروفة بزب الفيل، واستخدموا كتبة الأقباط، وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب، مع عدم سماع شكاوى الفلاحين، ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية، والحصص والالتزام، وحساب الميري والفائظ والمضاف، والرماية والمرافعات والمراسلات، والتشكي والتناجي مع الأقباط، واستدعاء عظمائهم في جمعياتهم وولائمهم والاعتناء بشأنهم، والتفاخر بتردادهم والترداد عليهم، والمهاداة فيما بينهم، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.

وأوقع مع ذلك زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة، والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور، وحظوظ النفس على الأشياء الواهية، مع ما جبلوا عليه من الشح والشكوى والاستجداء، وفراغ الأعين، والتطلع للأكل في ولائم الأغنياء والفقراء، والمعاتبة عليها إن لم يدعوا إليها، والتعريض بالطلب، وإظهار الاحتياج لكثرة العيال والأتباع، واتساع الدائرة، وارتكابهم الأمور المخلة بالمروءة المسقطة للعدالة، كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة، وإعطاء الجوائز والنقوط لمناداة الخلبوص، وقوله وإعلامه في السامر، وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم، برفع الصوت الذي يسمعه القاصي والداني وهو يخاطب رئيسة المغاني: يا ستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين، مفيد الطالبين، العلامة فلان، منه كذا وكذا، من النصفيات الذهب، قدر مسماه كثير، وجرمه قليل، نتيجة للتفاخر الكذب، والازدراء بمقام العلم بين العوام وأوباش الناس، الذين اقتدوا بهم في فعل المحرمات الواجب عليهم النهي عنها، كل ذلك من غير احتشام ولا مبالاة، مع التضاحك والقهقهة المسموعة من البعد في كل مجمع، ومواظبتهم على الهزليات والمضحكات، وألفاظ الكفاية المعبر عنها عند أولاد البلد بالأنقاط، والتنافس في الأحداث، إلى غير ذلك.»

فلم يكن من المنتظر، وقد انحط الحال بالمشايخ إلى هذا الدرك، أن يأبه الباشا لهم، وأن يستجيب لنصحهم ومشورتهم، تلك النصيحة أو المشورة التي خيل إليهم أن قد صار من حقهم إلزام الباشا باتباعها إلزاما، وراح يسعى الآن فريق منهم، اعتمادا على هذا المبدأ لمشاركته في الحكم، والحد من سلطانه، بل إن الباشا لم يلبث أن عمد بعد فراغه من أمر الإنجليز وانسحاب جيش فريزر من الإسكندرية، إلى إبطال مسموح المشايخ، والفقهاء ومعافي البلاد التي التزموا بها، ومع أن هذا الإجراء أنزل خسارة مادية جسيمة بالمشايخ المتصدرين؛ لأنهم - كما عرفنا - كانوا من كبار الملتزمين وقتئذ، ويملكون حصصا كثيرة، فإن أحدا منهم لم يجرؤ على معارضة الباشا؛ لضعفهم وتخاذلهم وانقسامهم على أنفسهم من جهة؛ ولأنه لم يكن في مقدورهم استثارة الأهلين أو فلاحيهم لمقاومة هذا الإجراء، ومناصرتهم، لضياع هيبتهم عموما في نظر الأولين، ولنفور فلاحيهم منهم، بعد أن عسفوا بهم، وأرهقوهم بمظالمهم.

وحدث أول احتكاك بين المشايخ ومحمد علي في أغسطس 1808، ظهر منه استخذاؤهم، أمام تهديده لهم بتجريدهم من حصصهم، وكان الباشا قد قرر ضريبة، أربعة في المائة على كل الحبوب والمأكولات المباعة في الشوارع والميادين والأسواق، وأزعجت هذه الضريبة القاهريين إزعاجا كبيرا، ثم زاد البلاء عندما جاء فيضان النيل في هذا العام قليلا، فنقص النيل نحو خمسة أصابع، وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس، ورفعوا الغلال من الرقع والعرصات، والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شحة النيل في العام الماضي، وهيفان الزرع، وتنوع المظالم، وخراب الريف، وجلاء أهله.

فاجتمع المشايخ يوم 20 أغسطس، وطلعوا عند الباشا، للنظر فيما يجب فعله، لرفع المظالم وتفريج كربة الناس، فأشار الباشا بعمل استسقاء، وبأن يأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء، وأن يدعوا الله، وعندئذ انبرى الشيخ عبد الله الشرقاوي لنصح الباشا، فقال: ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم؛ حيث إن تخفيض الضرائب قد يكون في هذه الظروف أجدى نفعا في إزالة الضائقة، فكان جواب محمد علي: «أنا لست بظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكراما لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولا بد أني أفحص عن ذلك، وكل من وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة من فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا: لك ذلك»، وسكتوا أمام هذا التهديد، وراحوا ينشرون بين الناس ضرورة الخروج والسقيا، واتفق رأيهم على الذهاب إلى جامع عمرو بن العاص؛ لكونه محل الصحابة والسلف الصالح، يصلون به صلاة الاستسقاء، ويدعون الله ويستغفرونه، ويتضرعون إليه في زيادة النيل.

অজানা পৃষ্ঠা