১৯ শতকের শুরুতে মিশর (১৮০১-১৮১১) (প্রথম খণ্ড)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
জনগুলি
وقد رفض «دروفتي» أن يظل مكتوف اليدين بينما يتدخل غريمه «مسيت» تدخلا إيجابيا وينشئ حزبا مملوكيا مواليا للإنجليز، يتزعمه الألفي أعلى البكوات همة وأشدهم مراسا، وكان على «دروفتي» وقد اعتزم نبذ السلبية التي هددت بزوال كل نفوذ لفرنسا أن يختار بين أمرين: إما مؤازرة الحزب الفرنسي ورئيسه العامل عثمان البرديسي، ثم سائر البكوات كعثمان بك حسن وغيره من الذين يغضبهم استعلاء الألفي ولا يرضون برئاسته عليهم، وإما مؤازرة محمد علي. ولقد أوحت الحوادث إلى «دروفتي» وبعد تجربة، بأن من الخير له الإقبال على مناصرة محمد علي لا ضد الألفي فحسب، بل وضد البرديسي وجماعته كذلك، على أن هذا التحول الذي شكل سياسة «دروفتي» لم يحدث فجأة، بل مر في أدوار وعلى مراحل، وحدث بعد إمعان وترو، وتقليب لوجوه النظر فيما صار يجد من وقائع، لا سيما بعد حادث انقلاب 13 مايو 1805، واتخذ أول ما اتخذ مظهر المحاولة لمنع أي اتفاق بين الألفي ومحمد علي، خوفا من أن يؤدي ذلك إلى انتصار السياسة الإيجابية الإنجليزية في مصر، حتى إذا استبان «دروفتي» أن محمد علي يعتزم التحرر من كل نفوذ أجنبي ويرفض أن يشاركه الحكم أحد من البكوات لا الألفي ولا غيره، وأن القوة وحدها هي التي تستطيع زحزحته من الولاية وإخراجه من مصر، ثم شهد تخاذل المماليك بسبب خلافاتهم وانقساماتهم وتعذر تكوين جبهة متحدة منهم سواء بزعامة الألفي أو بزعامة البرديسي، وانتفاء كل رجاء لذلك في قيام حكومة مملوكية في مصر، ثم انهيار مثل هذه الحكومة إذا تسنى إنشاؤها لظروف طارئة كتلك التي حدثت في 1803-1804 فضلا عن إيثار بكوات الصعيد العيش في تلك الأقاليم النائية ينهبون ويسلبون، على البقاء بالقرب من مراكز النشاط السياسي ثم العسكري المنتظر في الوجه البحري، وتركهم الميدان فسيحا للألفي حليف الإنجليز، نقول: إن «دروفتي» حينما اتضح له ذلك كله لم يجد مناصا من مؤازرة حكومة محمد علي، ثم إنه ما إن وصل إلى تقرير هذه الخطة حتى أقبل على تنفيذها دون تردد في جرأة وشجاعة حققتا لها الانتصار لا من حيث المساعدة على إنقاذ ولاية محمد علي من الأخطار التي تهددتها وكادت تطيح بها بين عامي 1805، 1807 فحسب، بل ومن حيث إرساء قواعد ذلك التفاهم الذي قرب بين محمد علي وفرنسا، وأوجد تلك الصداقة التي جعلت باشا مصر يعتمد على ما صار يتوقعه من مناصرة هذه الدولة حتى آخر أيام حياته.
ويبدأ هذا التحول في السياسة الفرنسية المحلية في مصر عند المناداة بولاية محمد علي، ويتم أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم لا تلبث أن تظهر ثماره المباشرة عند مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، ويرتبط باعتبارات معينة منها ضرورة الاطمئنان إلى موقف الباب العالي من فرنسا في النضال الأوروبي القائم حتى لا ينحاز إلى عدوتيها: إنجلترة وروسيا، ثم اتخاذ الحيطة من ناحية نشاط الوكلاء الإنجليز مع حلفائهم من المماليك الذين تزعمهم الألفي، وذلك حتى يتسنى تدبير الوسائل التي تكفل دفع الغزو الإنجليزي عند وقوعه، وقد كان الفرنسيون يتوقعون نزول حملة إنجليزية في هذه البلاد، كما كان غرماؤهم يتوقعون غزوة فرنسية عليها، وأخيرا التأكد من أن محمد علي هو القوة الداخلية في مصر ذاتها، وزوال أي اشتباه في قدرته على تذليل ما يصادفه من صعوبات، ورسوخ الاعتقاد بأن أسباب الدفاع عن البلاد ضد الغزو الإنجليزي المنتظر إنما تتركز في حكومته وتتوقف على بقاء ولايته.
المرحلة الأولى: بوادر التحول إلى الإيجابية
وقد بدأ «دروفتي» عمله في منصبه الجديد - مكان «ماثيو لسبس» - بتسجيل ما صار يلاحظه بيقظة وانتباه من حوادث لا معدى عن تأثيرها على المصالح الفرنسية من جهة، وعلى الوضع القائم في مصر من جهة أخرى، أبرزها نشاط القنصل الإنجليزي «مسيت» في الثغر، والنضال القائم بين حكومة خورشيد وبين البكوات سواء في الفيوم أو في الصعيد، ثم استقدام خورشيد لجنوده الدلاة، فقد زار الإسكندرية أسطول إنجليزي بقيادة «نلسن» في فبراير 1805، كما زارت الميناء فرقاطة إنجليزية بعد ذهاب الأسطول، وأكد الإنجليز، ولا سيما «مسيت» أن أسطولا فرنسيا قد غادر طولون من المتوقع أن يغزو مصر، فنشطت السلطات الحاكمة في الثغر لتحصين الإسكندرية تحت إشراف القنصل البريطاني الذي يعمل كل يوم على تمرين الجنود وبعض العربان، ويجري مناورات تشترك فيها المدفعية، وبعث خورشيد باشا لذلك بأحد ضباطه يحمل نداء إلى الإسكندريين يدعوهم فيه للتسلح من أجل الدفاع عن البلاد، ثم لاحظ «دروفتي» بعد أن سجل وقائع القتال الدائر بين جند خورشيد بقيادة محمد علي وبين البكوات، ثم سقوط المنيا في يد الأول في أبريل 1805 أن لا وجود لأي تفاهم أو سلام بين البكوات المماليك، وأن الباب العالي إذا أولى الأمر قليلا من عنايته استطاع في وقت قريب أن يصبح سيد البلاد تماما، ومنذ 4 أبريل كشف «دروفتي» لحكومته عن الآثار المتوقعة من استقدام الدلاة إلى مصر، وهم الذين قال عنهم: إنهم وصلوا إلى القاهرة في 29 مارس، فأوضح كيف أنه من الطبيعي أن يزعج وجودهم الأرنئود الذين صاروا يرون اليوم أنفسهم مهددين بفقد ذلك التفوق الذي أحرزوه بسبب أعدادهم الكثيرة عندما وجدت في الميدان قوات جديدة تعادلهم، وقال «دروفتي»: إن خورشيد يبغي من استقدامهم تأليف حزب من الدلاة يعاونه على التحرر من سيطرة الأرنئود، ثم نقل إلى حكومته ما يذيعه المتشائمون من أن وجود هاتين القوتين: الدلاة والأرنئود، سوف يفضي إلى وقوع الاصطدام بين رئيس الدلاة وبين محمد علي لتنازعهما المنتظر على القيادة العليا، ولما كان الدلاة قد صاروا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر لقمع البكوات وطرد الأرنئود، ومن المنتظر بسبب هذه الأقوال غير الحكيمة أن يتغير الأرنئود على حكومة خورشيد ، فقد أنذر «دروفتي» منذ 11 أبريل بتوقع حدوث الاصطدام بين خورشيد ومحمد علي، فقال: ولن يكون مثار دهشة إذا أعلن محمد علي في هذه الظروف تذمره وغضبه وهو الذي ليس هناك ما يدعوه لانتظار رضا الباب العالي وثنائه عليه، وأما خورشيد فإن مركزه سوف يتحرج حتما إذا لم ينشط في حكمة واعتدال لتهدئة الدلاة والأرنئود وفرض النظام والطاعة على الجماعتين. وفي 16 أبريل كتب «دروفتي» إلى «تاليران» أن سحب الثورة تتجمع في سماء القاهرة، وأن أحدا لا يعرف مشروعات محمد علي الطموح والجريء، وأن موقف الأهلين من هذه الأزمة لا يزال مجهولا، ثم انتقد «دروفتي» تصرف خورشيد؛ لأنه أعطى قيادة القلعة إلى صالح أغا قوش أحد الأرنئود وجمع حوله بالقلعة طائفة منهم، فكان من رأي «دروفتي» إذا اتضح أن لمحمد علي أطماعا تجعله يريد الاستيلاء على القاهرة، فإن خورشيد سوف يلقى نفسه في مركز على غاية من الحروجة للأسباب المتقدمة، وبالرغم مما يبدو من اعتقاد خورشيد وهو نفسه من الأرنئود بأن في وسعه التأثير على صالح قوش وسائر الأرنئود الذين معه بالقلعة، والصعوبة الكبرى التي يصادفها خورشيد وسط هذه الأحداث هي حاجته الملحة إلى المال، وعجزه الظاهر عن دفع مرتبات الجند.
ومع أن الاصطدام الذي خشي «دروفتي» وقوعه بين الدلاة وبين محمد علي لم يحدث؛ لنجاح الأخير في كسبهم إلى جانبه، ودخل محمد علي القاهرة ووافق خورشيد على أن يدفع بعد مهلة قصيرة جدا مبلغا من المال لدفع مرتبات الجند، فقد توقع «دروفتي» في 23 أبريل أن يظل الموقف في مصر متحرجا، وكان من رأيه أن الاتفاق الأخير بين خورشيد وبين محمد علي لا يبعث على الاطمئنان؛ لأن محمد علي إنما يريد الاستحواذ على باشوية القاهرة، وقد زود «مانجان» في الأيام التالية بمعلومات كثيرة عن حقيقة الحالة في القاهرة، وعن ازدياد نفوذ محمد علي على الجند والأهلين، وأوضح «دروفتي» لتاليران في 28 أبريل أن الأمور سوف تتأزم لا محالة بسبب خلو الخزانة من المال، وتوقع أن يحدث في مصر نفس ما حدث أيام خسرو باشا، ثم إنه لم تفته ملاحظة نشاط «مسيت» الذي لم يعنه شيء من أمر الأزمة التي كانت على وشك الانفجار في القاهرة، فراح يشيع الخوف بين أهل الإسكندرية وحكامها من الغزو الفرنسي المنتظر، فقد دخل إبريق إنجليزي إلى الميناء في 27 أبريل، حضر من مالطة، فذهب أحد الضباط الإنجليز بصحبة «مسيت» لمقابلة أمين أغا حاكم الإسكندرية والقبطان بك متولي قيادة السفن العثمانية في الميناء ليعلنا إليهما خروج أسطول فرنسي من طولون حتى يحتاطا للأمر، وخرجت فرقاطة عثمانية على الأثر من الميناء القديم للقيام بجولة أمام الإسكندرية، وفي 3 مايو كتب «دروفتي» إلى «باراندييه»: أن الإنجليز الذين تذرعوا دائما بحجة الدفاع عن هذه البلاد ضد الفرنسيين يحاولون وضع حامية بالإسكندرية تتألف من الفرقة العاشرة وجنود آخرين من المشاة الذين هم على ظهر سفينتين إنجليزيتين موجودتين بهذا الميناء، وأرادوا أن يتعاون معهم في إنجاز هذه العملية غير الحكيمة ضباط الباب العالي من غير أن ينال هؤلاء الأخيرون موافقة حكومتهم على ذلك، واعتقد «دروفتي» لذلك أن الإنجليز إنما يريدون الاستيلاء على الإسكندرية منتهزين فرصة عدم الاستقرار السائد في مصر لتنفيذ مآربهم، بينما قد بلغ اليأس بأهل البلاد كلهم تقريبا بسبب استمرار الثورات التي تكاد تقع يوميا والتي أتعبتهم وأنهكت قواهم حدا جعلهم يطلبون الفرج على يد نجدة تأتي لإنقاذهم من المظالم التي يقاسونها، سواء جاءت هذه النجدة من فرنسا أو من إنجلترة.
ثم ظل «دروفتي» يرقب بيقظة وانتباه ما يجري من حوادث في القاهرة، فسجل تدخل الدفتردار جانم أفندي والمشايخ بين خورشيد ومحمد علي لإنهاء الأزمة، وتوصل هؤلاء لاتفاق بين هذين، حصل في منزل جانم أفندي، قد يفضي إلى تمتع القاهرة بالهدوء إذا أمكن تنفيذه، وهذا ما لم يكن «دروفتي» يتوقعه، فقد كتب إلى «تاليران» في 6 مايو يطلب تعليمات جديدة، فقال: إنه بالرغم من الأخبار التي بلغته عن إجراء الصلح نهائيا بين خورشيد ومحمد علي على أساس أن يدفع الأول مرتبات ستة شهور للأرنئود، وأن يبعث الأخير بالقسم الأكبر من جنده إلى الصعيد لمواصلة القتال ضد البكوات هناك، فهو يعتقد أن الموقف يتطلب منه أن يسأل «تاليران» إرسال تعليمات جديدة إليه بشأن ما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا استولى محمد علي على زمام الحكم، أو إذا ترتب على حدوث ثورة أخرى أن سلبت السلطة من ممثلي الباب العالي الشرعيين في هذه البلاد.
ولقد كان لدى «دروفتي» ما يحمله على الاعتقاد - ومنذ 6 مايو - أن الأمور في القاهرة سوف تجري في غير صالح خورشيد باشا، حتى إنه وجد من الضروري عدم انتظار وصول تعليمات «تاليران» إليه، ورأى أن الواجب يقتضيه سؤال «باراندييه» القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية أن يبعث إليه بتعليمات مؤقتة يعمل بها حتى تأتيه توجيهات حكومة باريس، وقد صح تقدير «دروفتي»؛ لأن الحوادث سرعان ما وقعت متلاحقة في أثر بعضها بعضا بالصورة التي عرفناها والتي انتهت بالمناداة بولاية محمد علي في 13 مايو 1805، وقد سجل «دروفتي» و«مانجان» وقائع هذه الحوادث بين يومي 4، 13 مايو، وأصدر الوكيل الفرنسي إلى نائبه في القاهرة تعليماته بضرورة زيارة محمد علي واستطلاع آرائه من حيث رعاية المصالح الفرنسية عند استيلائه على حكومة القاهرة، فكتب «مانجان»: إن هذا القائد الأرنئودي (أي محمد علي) قد أبدى له ما يكنه من مشاعر المحبة العظيمة للأمة الفرنسية وحكومتها.
وقد عني «دروفتي» بدراسة الموقف في القاهرة عقب انقلاب 13 مايو واعتصام خورشيد بالقلعة، واستخلص من دراسته هذه حقائق معينة جعلته يصدر تعليمات إلى «مانجان» فيما يجب أن يكون عليه مسلكه مع محمد علي، وقد بسط «دروفتي» ذلك كله في رسالة هامة بعث بها إلى «باراندييه» من الإسكندرية في 16 مايو 1805، فقال: «ولو أن خورشيد قد نجح في طلب النجاة بالاعتصام بالقلعة، فليس هناك ما يدل على أنه سيبقى في حكومة مصر، فعليه أن يناضل ضد تدابير رجل صاحب أطماع ونشاط كبيرين - يعني محمد علي - ويحذق فن التآمر، ويناصره الرأي العام كما أن لديه القوة والسلاح، وهذا الرجل اللبق قد عرف كيف يسترضي المشايخ وأهل القاهرة، وأن يجعلهم يصدقون أن السبب الفرد في سوء الحالة المالية مرده إلى سوء الإدارة والحكم الذي هو مبعث كل الاضطرابات التي أزعجت القاهرة وحركتها على الثورة؛ وعلى ذلك؛ فقد أشاع بينهم روح السخط والتذمر، واستطاع أن يشق لنفسه طريقا إلى الولاية دون أن يبدو منه ما يشعر أنه يريد الحكم، فهو مسيطر في هذه اللحظة تماما على رؤساء الأهلين الظاهرين، وما عليه إلا أن يبدي إرادته حتى يظفر بنيل مأربه، ولكن هذا الرجل صاحب الأساليب المكيافيلية دائما إنما يبغي ما يظهر أن يكون وصوله إلى السلطة عن طريق الشعب، وبهذه الوسيلة لا يفوز بتأييد المشايخ والأهلين لكل مشاريعه فحسب، بل ويجعل نفسه كذلك وبصورة من الصور رجلا أو حاكما لا معدى عن حاجة الحكومة العثمانية إليه، ومع أن أنصار المماليك قد أعلنوا منذ انسحابه من الصعيد ومجيئه إلى القاهرة أن محمد علي إنما يعمل بالاتفاق مع البكوات، إلا أن مسلك هؤلاء الأخيرين لا يدل في الحقيقة على وجود خطة مثل هذه، فمحمد علي يستخدم كل الوسائل الممكنة التي تجذب إليه قلوب أهل القاهرة، بينما يعمل المماليك على تخريب الوجه البحري والجهات المجاورة للقاهرة ذاتها، ويقطعون المواصلات ولا يدعون الإمدادات والمؤن تأتي العاصمة من الصعيد، بل ويجوعون القاهرة وينشرون بها المجاعة مما أثار الأهلين عليهم، وقد يكون تصرفهم مخالفا لما يفعلونه لو أنهم سلكوا نفس الطريق الذي اتبعه محمد علي، والحقائق المتصلة بالموقف هي ما يأتي: الانقسام التام يفرق بين حزبي البرديسي والألفي، والأخير قد يرى فيما لحق بعثمان البرديسي من هزيمة انتقاما له منه وقع على أيدي الأرنئود، بينما قد طرد الأرنئود البرديسي من القاهرة، وقد توصل الإنجليز سابقا في عقد صلح بين خورشيد والألفي، وقد سعوا لدى الباب العالي في صالح الألفي، ويهمهم أن يروا حزب البرديسي وقد تحطم بينما يلازم النجاح والانتصار الألفي وحزبه ، وأخيرا، فإن الألفي رابض بالقرب من القاهرة في انتظار ما تسفر عنه الحوادث، وعلى كل حال، فمن المتعذر أن يرضى محمد علي بمشاركة الألفي له في ممارسة شئون السلطة العليا، وقد وجدت من واجبي مهما يكن الأمر أن أبعث بتعليمات إلى «مانجان» بالقاهرة حتى يبذل قصارى جهده لإحباط كل مشروع يضع في الحكم صنيعة الإنجليز (أي الألفي)، وعندما أوضحت لمانجان المهمة التي عليه القيام بها لدى محمد علي، أوصيته باجتناب كل إجراء يستثير عمال أو ضباط الباب العالي ويغضبهم، وهم الذين يجب علينا علاوة على ذلك في علاقاتنا معهم المحافظة على مصالحنا بأن نحول دون أن يكون للإنجليز أي نوع من النفوذ في حكومة مصر.»
وعلى ذلك، فقد أصدر «دروفتي» تعليماته إلى «مانجان» في اليوم نفسه (16 مايو)، يوصيه بأن يثابر على جهوده لكسب صداقة محمد علي مع مراعاة الحكمة؛ نظرا لما كان متوقعا من استئناف العلاقات الودية القديمة بين فرنسا والباب العالي نتيجة للتغيير الوزاري الذي حدث وقتئذ في تركيا، ثم ذكر لمانجان رأيه في أغراض محمد علي وذلك بما لا يخرج عما ذكره في رسالته السابقة إلى «باراندييه»، ولما كان «دروفتي» قد جزم بأن الاستئثار بالحكم عن طريق الشعب، وجعل الباب العالي في حاجة ملحة إلى بقائه في هذا الحكم، هما غرضا محمد علي، فقد عدد «دروفتي» الصعوبات التي تعترض سبيله، ومنها جعل الجند يطيعون أوامره؛ لأن هؤلاء - كما قال - يصرون على عدم الخروج لقتال المماليك الذين يتجولون في مديريات الوجهين البحري والقبلي كغزاة فاتحين، ينهبون القرى ويجوعون القاهرة، مما من شأنه إذا استمر الحال على ذلك إثارة تذمر الشعب من الحاكم الجديد وكذلك سوف يثور التجار - وهم طبقة من الناس ينبغي رعاية جانبهم - إذا وجدوا المماليك والعربان المسيطرين على شواطئ النيل يقطعون المواصلات، ثم تساءل «دروفتي» وماذا يحدث للدلاة؟ لا شك في أن هذه كذلك مسألة شائكة عويصة؛ وعلى ذلك، فقد أوصى «مانجان» بأن يجتمع بمحمد علي وأن يتحدث معه في هذه الشئون جميعها، ولكن دون أن يبدو منه ما يدل على أنه يريد التحدث إليه في مشاريعه، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وأما إذا لاحت الفرصة، فعلى «مانجان» أن يذكر لمحمد علي أن «دروفتي» قد خلف مؤقتا «ماثيو لسبس»، وأن هذا قد عهد إليه بأسرار بعثته أو مهمته في مصر، وأن «دروفتي» قد وقف على سر محمد علي من زمن طويل - قل له: إننا نحبه؛ لأننا نعلم أنه يحب أمتنا وحكومتنا، ولكن قبل كل شيء تأكد من ولاء تراجمتنا قبل أن تصل إلى المرحلة التي تدلي فيها بهذه التصريحات، وإنه لمما يهمنا أن نعرف بالتمام آراء محمد علي وغاياته، ولكن الواجب يقتضينا عدم المجازفة بالتورط بأية صورة من الصور، فاعمل إذن بمنتهى ما يمكن من الحكمة، وأنت تعرف أن الإطراء والمداهنة ضروريان قبل أي شيء آخر إذا أريد عرفان أسرار الترك، والزم عند حديثك مع محمد علي أسلوب الأسئلة غير المحددة والمفرغة في صيغ شرطية، واجتهد حتى تعرف ما إذا كانت له علاقات مع البكوات.
وفي 20 مايو بعث «دروفتي» بتعليمات جديدة على ضوء ما بلغه عن حوادث القاهرة: استمرار النضال بين خورشيد ومحمد علي، وقوف الألفي قريبا من القاهرة يستعد لدخولها، وتجري المفاوضات بينه وبين محمد علي بشأن ذلك، ويحاول الأخير بمساعدة عمر مكرم خديعة الألفي وشل حركته، بقاء البرديسي وإبراهيم وسائر البكوات القبالي بالصعيد إلى غير ذلك من المسائل التي عرف «دروفتي» بعضا منها، لا سيما محاولة الألفي الاتفاق مع محمد علي: الأمر الذي استأثر بكل اهتمام «دروفتي» في هذه الأزمة، فقال «دروفتي»: إن الموقف يتطلب من «مانجان» إظهار مهارة فائقة، وحكمة بالغة حتى لا يستثير ضده أية جماعة من الجماعات المتناضلة، ثم تحدث طويلا عن مسألة الألفي، فقال: إن الإشاعات رائجة في الإسكندرية بأن الألفي متفق مع محمد علي وأنه على وشك دخول القاهرة إن لم يكن قد دخلها فعلا؛ ولذلك فواجب «مانجان» أن يسعى لمقابلة محمد علي وأن يطلب منه تصريحا في هذه المسألة، فإذا وجد «مانجان» أن محمد علي قد قرر مراعاة خاطر الألفي ومحاباته؛ فعليه حينئذ أن يبذل قصارى جهده لمنعه من ذلك، بأن يبين له أن هذا العطف على الألفي يجلب عليه غضب الباب العالي، بينما هو في استطاعته أن ينشئ علاقات طيبة مع الباب العالي، حيث قد تسلم الحكم بفضل تأييد الشعب له. ثم عمد «دروفتي» إلى لهجة الوعيد الخفي والتهديد المستتر فطلب من «مانجان» أن يجعل محمد علي يشعر بأنه من الممكن أن يأتي جيش فرنسي إلى مصر، وأن البكوات الموالين للإنجليز والذين هم تحت حماية هؤلاء سوف ينالون جزاءهم، ثم استطرد يقول: «وأخبره (يعني محمد علي) أن الإمبراطور نابليون يعلم إخلاصه وولاءه للأمة الفرنسية، وأنه لمن الأوفق له (أي لمحمد علي) تحت كل الأحوال والظروف أن يسلك طريقا لا يتعارض مع تلك التصريحات التي أدلى بها على عهد القومسيير العام «لسبس».
অজানা পৃষ্ঠা