وما زالوا في المسير ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى خان يونس في حدود سوريا بعد ثلاثة أيام. فرأوا أن خمسة من الجمال الحاملة النقود قد ذهبت فريسة بيد القبائل البدوية، وأن عددا من رجاله فروا، ومعهم «يوسف الخزندار». وفي اليوم التالي دخل «علي بك» غزة، ثم واصل السير حتى أتى «عكا» بعد ثمانية أيام، فرحب به أميرها وكانت بينهما مودة شديدة، فاطمأن «علي بك» هناك. غير أن ما تكبده من المشاق في الأسفار مع ما أثر في نفسه من الغيظ الشديد غير صحته، فلم يصل «عكا» إلا وهو في حالة الخطر من شدة المرض.
وفي أثناء ذلك وصل ميناء عكا أسطول روسي، فلما علمت حاميته بما حل «بعلي بك» عقدوا معه معاهدة ثانية وقدموا له كل ما يحتاج إليه من المؤن والذخائر. وكان في خدمة ذلك الأسطول فرقة من الألبانيين مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل، فأمدوه بهم. فلما رأى «علي بك» ما كان من نجدة الروسيين مع ما يمكنه الحصول عليه من جنود الشيخ «ضاهر» عزم على مناوأة «أبي الذهب» لكنه لم يكن يستطيع مباشرة ذلك بنفسه لانحراف صحته، فعهد إلى «علي بك الطنطاوي» بعد ثلاثة أشهر أن يسيروا أولا لاسترجاع المدن السورية التي دخلت في حوزة «محمد أبي الذهب» فسار واستولى على «صور» و«صيدا» وقرى أخرى من سواحل سوريا كانت قد احتلتها جنود عثمانية بعد انسحاب جنود «أبي الذهب».
ثم سار «علي» بنفسه مع من بقي من الجند إلى «يافا» وافتتحها بعد محاصرة خمسة أشهر استولى في أثنائها على «غزة» عنوة وعلى «الرملة» و«اللد» تسليما. فأعاد «يافا» إلى حكومة الشيخ «ضاهر» وجعل على «اللد» «حسن بك» الجداوي، وعلى الرملة «سليم بك». (7) محمد بك أبو الذهب
وفي 9 القعدة سنة 1186ه، كان «علي بك» في «يافا» فجاءته رسل من القاهرة بمهمة سرية من وجاق الإنكشارية والوجاقات الأخرى، وسائر أعيان القاهرة: أن «محمد أبا الذهب» دخل القاهرة حالما خرج هو منها، وسمى نفسه شيخ البلد، وجعل يعيث في البلاد عيثا لم يسبقه إلى مثله أحد ممن تولى مصر قبله، فجعل الضرائب ضعفين، وبعضها ثلاثة أضعاف، ثم اختلق قانونا غريبا دعاه: قانون رفع المظالم، والمقصود منه بحسب الظاهر إنقاذ ملتزمي الأموال الأميرية من الإجراءات الاستبدادية التي كان يسومهم إياها الكشاف إلى ذلك العهد واستبدالها بما يعود بالمنفعة. والحقيقة أن الضرائب ما انفكت أشد وطأة من ذي قبل، والإجراءات لم تزد إلا استبدادا فضلا عما رافق ذلك من الفتك بالعباد قتلا ونهبا.
ثم قالوا إن مصر بجملتها لما رأت ما وصلت إليه من الانحطاط، وما لحق بأهلها من المظالم التي ما أنزل الله بها من سلطان قد أنابتهم أن يبلغوا «علي بك» أنها بصوت واحد تلتمس رجوعه ليحكم فيها لأنه هو منقذها الوحيد، وأن مدينة القاهرة مستعدة أن تفتح أبوابها لاستقبال أميرها القديم وأن تدافع عنه الدفاع الممكن إذا حاول «محمد بك أبو الذهب» ما يخالف الصوت العمومي. (8) خروج علي بك لمحاربة أبي الذهب
فلما علم «علي بك» بكل ذلك، شعر أن آماله عادت إليه وبرح «يافا» للحال قاصدا القاهرة، وما يكن معه من الجنود إلا ألفان وخمسمائة، فاستنجد حاميات «اللد» و«الرملة» وانضم إليهم جنود الشيخ «ضاهر» وجنود ابنه الشيخ «شبلي» وصهره الشيخ «كريم»، و«حسن» شيخ صور. وكان قد استأجر ثلاثة آلاف وخمسمائة من المغاربة، فكان عدد جنوده جملة ثمانية آلاف محارب.
ففي 11 محرم سنة 1187ه، وصل «علي بك» إلى خان يونس، وفي 16 منه اقترب من «الصالحية»، وفي 18 منه التقى بمقدمة جيوش «محمد أبي الذهب» وعدتهم اثنا عشر ألف مقاتل. وبعد محاربة بضع ساعات ظهر «علي بك» عليهم وقتل عددا غفيرا من رجالهم. فانفتحت له أبواب «الصالحية» فدخلها وقد أصيب بجروح بليغة.
ثم علم أن اعتماده على أحزابه في القاهرة لا يورثه إلا الخيبة؛ لأن أبا الذهب كان قد جمع إليه كبراء البلاد ورجال حكومتها لما علم بمظاهرتهم «لعلي» وأقنعهم أن «علي بك» قد غدر الأمة وخان الوطن وأباح دماء المسلمين بمعاهداته مع الروسيين وغيرهم من الأمم النصرانية، واستخدم «أبو الذهب» في سبيل إقناعهم الدرهم الوضاح، فانحازت إليه القوات العسكرية إلا وجاق الإنكشارية، فإنه ظل على ولاء «علي بك».
فلما تحقق «أبو الذهب» اجتماع الأحزاب على دعوته أمن الاضطراب الداخلي فسار بنفسه لمحاربة علي.
أما «علي» فانزعج لتلك الأحوال انزعاجا كثيرا فضلا عما كابده من المشاق في السفر، وقطع الصحراء، وزد على ذلك الجروح التي أصابته في واقعة «الصالحية»؛ فأصيب بحمى شديدة عجز معها عن ركوب جواده وقيادة جنوده. وفي 20 محرم سنة 1187ه، علم بمجيء «أبي الذهب» وهو على ما تقدم من المرض فلم يتردد في وجوب الدفاع. فأمر قواده، فانتظمت رجاله على قلتها وتهيأت للدفاع. وكان على أحد جناحي الجيش «علي بك الطنطاوي» ومن معه من البكوات، وعلى الجناح الآخر ابن الشيخ ضاهر وصهره، فاستظهرت جنود علي بادئ الرأي حتى قاربت الفوز التام.
অজানা পৃষ্ঠা