وكانت هاتان الفئتان قبل تولي «حسن باشا» المتقدم ذكره. في وفاق تام. فلما جاء خشي من اتحادهما فعمد إلى الدسائس، فألقى بينهما الشقاق فحصلت بين الطائفتين وقائع دامت ثمانين يوما، فكانوا يخرجون من القاهرة إلى مكان يعرف بقبة العزب يوميا، ويأخذون في الكفاح من شروق الشمس إلى غروبها ثم يعودون إلى القاهرة، فيقضون الليل بسلام في بيوتهم بين نسائهم وأولادهم ثم يعودون في الصباح إلى المحاربة. ومن الغريب أن هذه المحاربات لم تؤثر في الراحة العمومية مطلقا، فظلت الأشغال جارية في مجراها والحوانيت والمخازن تفتح وتقفل كالعادة. (2-2) مشيخة إسماعيل بك
وانتهت تلك الوقائع بوفاة «قاسم عيواظ بك» فأسف عليه الناس، وبكوه بكاءهم على حاكم عادل أو أب حنون بار. ولم يبق صديق ولا عدو إلا بكاه؛ لأنه كان فضلا عن حكمته وعدله ودعته شجاعا باسلا أبي النفس. فأقاموا ابنه «إسماعيل بك» مكانه «شيخ البلد».
وقد تقدم أن مشيخة البلد منصب كان يتولاه أحد البكوات المماليك، كما يتولون إدارة المديريات، ويقابل محافظ القاهرة اليوم.
ولم يكن المنصب نفسه مهما، لكن تراخي الباشوات واستفحال أمر المماليك جعل لهذا المنصب أهمية كبرى حتى أفضى بتوالي الأيام إلى صاحبه، وصار إليه الأمر والنهي - كما سترى.
ولما تولى السلطان «أحمد» كان على مشيخة البلد «قاسم عيواظ بك» - المتقدم ذكره - فلما مات، خلفه ابنه «إسماعيل» وصادق الباشا على ذلك لظنه أن إسماعيل لصغر سنه، يكون آلة في يده يديرها كيف شاء، فازداد كدر «ذي الفقار بك» واشتد حنقه؛ لأنه كان ينتظر أن يئول ذلك المنصب إليه.
وكان «إسماعيل» عاقلا حكيما كوالده، عارفا وجه الربح والحق، فسعى في الوفاق مع طائفة الفقارية، فاتحدت الطائفتان على الباشا. وكان إسماعيل من الجهة الأخرى يظهر الطاعة والرضوخ لأحكام الباشا لأنه رئيسه، لكنه لم ينفك ساعيا سرا في خلعه، فكتب عنه إلى الآستانة ففاز بعزله، فجاء غيره ثم أبدل بآخر فآخر و«إسماعيل بك» في منصبه يحبونه إلى ما يشبه العبادة.
ومما يحكى عنه أن أحد تجار القاهرة في أيامه واسمه: «عثمان» باع لأحد القبقجية (لقب الحرس السلطاني) ثلاثمائة قفة بن إلى أجل مسمى، وكتب عليه بذلك صكا. فقبل الاستحقاق جاء الآستانة إعلان بخيانة القبقجي والحكم عليه بالإعدام حالا، فجيء به إلى الباشا، فقتله، ووضع يده على تركته، وفيها البن كما هو، فعلم «عثمان» التاجر بذلك، فعرض لإسماعيل ما كان من أمر البن فأجبر الباشا أن يرجع البن لصاحبه قبل كل شيء، ففعل، فأصبح «عثمان» في حال من الامتنان لا يعرف كيف يبينها، فلاح له أن يهديه علبة مرصعة، وبضعة قناطير من السكر النقي، فرفض «إسماعيل بك» الهدية، وخاطب عثمان التاجر قائلا: «إذا كان المال الذي حصلت عليه بواسطتي حقا لك، فأكون قد فعلت الواجب علي، والله يكافئني، فإذا قبلت هديتك أظلم نفسي. أما إذا كان هذا المال ليس لك وإنما حصلت عليه بالخيانة فقبولي هديتك يعد مشاركة لك في الخيانة، لكنني مع ذلك أقبل السكر الذي حملته إلي على أن تقبض ثمنه من وكيلي لأنني سآمره أن يدفعه إليك.»
ويحكى عنه أيضا أنه كان يأدب في ليالي رمضان مأدبات يجتمع إليها العلماء والفقهاء ومشائخ والقراء القرآن، ولم يكن يؤذن لغير هؤلاء في الحضور فيها. فرأى ذات ليلة رجلا بين الحضور عليه ملامح الكآبة، فأوصى بعض الخدم متى انفض الاجتماع، أن يأتوا به إليه، ففعلوا. فلما حضر بين يديه، أعطاه مصحفا، وأمره أن يتلو عليه سورة. فتوقف الرجل وجلا، ثم ترامى على قدمي البيك متضرعا وقال: «يعش سيدي البك إني رجل نجار لا أعرف القراءة، وإنما أتيت إلى هذه المأدبة متنكرا بثوب الفقهاء لأملأ جوفي من الطعام، فإني في حالة من الفاقة شديدة.» فأنصفه. ولم يكتف بالإغضاء عن ذنبه لكنه جعله في عداد خدمته، وجعل لعائلته راتبا معينا وصار هذا النجار بعد ذلك من أصدق الخدمة وأكثرهم عزة وهمة.
وما زال «إسماعيل بك» شيخا للبلد 16 سنة، تقلب في أثنائها على «مصر» عدة باشوات كانوا اسما بلا مسمى.
وكان لحسن سياسته قد أوقف الفقاريين عن كل حركة لتظاهره أنه على وفاق معهم، فلم يترك لهم فرصة يتحدون بها عليه، على أنه ارتكب خطأ واحدا آل إلى قتله. وذلك أن أحد المماليك الفقارية واسمه «ذو الفقار» أيضا كان له عقار يقوم بنفقات عائلته، فاختلسه منه أحد المماليك القاسمية - من مماليك إسماعيل - فرفع «ذو الفقار» دعواه إلى شيخ البلد إسماعيل، فلم يصغ لطلبه فرفع دعواه إلى زعيم الفقارية، ويقال له «شركس بك». وكان خصما لإسماعيل بك بالفطرة، فسار إلى الباشا وخاطبه بشأن تصرف إسماعيل. وكان في قلب الباشا حزازات من الحسد عليه، فوافقه على الإيقاع به، ثم قال له:
অজানা পৃষ্ঠা