كل هذه العناصر التي نضج بين أحضانها الوجدان الإنساني لم تتغير عما كانت عليه، إذا عرفنا هذا كله وعرفنا أن الدم الذي يجري في عروقنا نحن المصريين المحدثين إنما هو دم أجدادنا العظام؛ أمكننا حينئذ أن نقول إن العبقرية كامنة فينا ستتفجر من جديد يوما ما، وغاية ما نحتاج إليه هو أن نفلح الحديقة كما يقول فولتير.
الماء أصل الحياة
ليس عبثا أن يسمي العرب مني الرجل ماءه، وليس عبثا أن يشتق العرب الحياة من الحيا وهو فرج المرأة، وليس عبثا أن يشتقوا الروح من الريح والنسمة من النسيم والنفس من النفس، فإن العرب كانوا أمة بدائية، واللغة العربية لا تزال مع بقائها حية إلى الآن تحمل بين ألفاظها ما يدل على العقائد الأولى، كما بقي الحجاب بين نساء العرب يدل على العقيدة البدائية وهي أن المرأة ضعيفة يجب أن يتوقاها الرجل وينفصل منها ويجعل لها حرما خاصا لئلا تنقل عدوى الضعف منها إليه فيضعف هو أيضا.
ولننظر في هذه الألفاظ التي ذكرناها في ضوء الثقافة القديمة؛ فإن الإنسان الأول لم يكن يعرف أن الأبوة ضرورية للتناسل فكان يحسب أن المرأة هي الأصل الوحيد للولادة، وما دام الطفل ينزل منها فحياها هو الأصل للحياة؛ ولذلك أصبح الفرج أي الحيا رمزا لطول العمر، ولما كانت الودعة تشبهه صار يجمع الودع ويحمله لكي يطيل عمره ويخصب زرعه، فعل ذلك كله قبل أن يعرف الحضارة، فلما عرفها واهتدى إلى الذهب صار يصوغ الذهب في هيئة الودع، وعندئذ انتقلت خاصة الودع إلى الذهب فصار يطلب لذاته.
ولا يحتاج القارئ إلى توضيح العلاقة بين الروح والريح ... إلخ؛ فإنها واضحة لأن الإنسان البدائي كان يضع يده على فم الشخص وقت النزع، فإذا انقطع الريح فقد خرجت الروح؛ فهذه اللفظة تحريف من تلك.
أما الذي يحتاج إلى بعض الشرح فهو نظرة المصري القديم للماء، فقد رأى من فيضان النيل أنه يعم البلاد ويخرج الزرع فاعتقد أنه الأصل لهذه الحياة النباتية، لهذه البركات العميمة التي يتزود منها بالطعام والكساء. وكلنا يعرف أن الأمم القديمة كانت تعد الماء ضروريا للطهارة، حتى الهندي لا يزال يتطهر بالنزول في نهر الكنج، وإذا مس الإنسان نجاسة تطهر منها بالماء، وليس التطهر لأجل النظافة لأن الغاية صوفية وليست مادية.
اعتقد المصري القديم أن الماء هو الذي يبعث الحياة في الحبة فتنبت، فلما صار يجفف الجثة بالتحنيط احتاج إلى أن يرد إليها الحياة بالتطرية، ووسيلة التطرية هي الماء؛ لأن المومياء كانت بعد عملية التحنيط المادية تحتاج إلى صلوات وأدعية وحركات ترد إليها الحياة في العالم الثاني، فكانت تطريتها بالماء إحدى هذه الشعائر.
وذلك أن المومياء جسم جاف ميت، بل هو «أموت» من الميت، فلكي تكتسب طراءة الجسم الحي يجب أن تبلل وتحرك فتثنى الساقان ويحنى الظهر ويرد الرأس للوراء والأمام وترفع اليدان إلى آخر هذه الحركات التي كان يظن المصري القديم في سذاجته أنه يرد بها الحياة إلى المومياء، وهذه الوسائل التي عرف المصري القديم أو اعتقد أنها ترد الحياة إلى المومياء عاد بمنطق أناني ساذج يستعملها في نفسه، فصار يسكب الماء على جسمه ويحرك ساقيه ويحني ساقيه ويرفع يديه لكي يطيل عمره أو يجدد شبابه، وهذا كله هو أصل الصلاة عند المصري القديم؛ فإنه لم يكن يقصد منها إلى أن يتوسل إلى الرب رع أو الرب أوزوريس، وإنما كان يرى فيها تعويذة أو تعاويذ لإطالة عمره وتجديد شبابه، وقد كان هذا بالطبع قبل أن تستقر عبادة الآلهة، فلما استقرت تطور هذا التطور وأصبح يقوم بكل ذلك توسلا للآلهة.
هذا هو الأصل للميزات التي عزيت إلى الماء في إزالة النجاسة عند المصريين القدماء؛ لأن إزالة النجاسة هي صيغة أخرى لإطالة العمر وزيادة البركات والغلات التي يأتي بها النيل فيحدث الحياة في حبة القمح الميتة، وتحريك أعضاء مومياء هو الأصل لحركات الصلاة عند الفراعنة، وقد استحال تقديم الطعام لمومياء في البر إلى قربان مقدس في المعبد.
وقد عرف المصري البخور، استعمله أولا عند تمثال الميت؛ فإن هذا التمثال حجر جامد، وهو لا يكتسب الحياة إلا بعد عمليات تشبه تلك التي كانت تستعمل مع المومياء، ولكن المومياء يمكن تحريك أعضائها أما التمثال فليس كذلك، فكان المصري القديم يشعل المر والمصطكي وغيرهما فيخرج بخارهما أو «بخورهما» على التمثال فيكسبه من الدفء والعرق ما يجعله شبيها بالجسم الحي، ومن هنا أصبح للبخور قيمة في المعابد المصرية، وما زلنا نستعمله في الرقى لكي يرد العين وينفي الشر، والأصل رد الحياة أو إطالة العمر.
অজানা পৃষ্ঠা