تصدير عام
١- نحن في أمسّ الحاجة إلى نشر علمى دقيق لأصول تراثنا العربى القديم، فإنه عن طريق هذا النوع من النشر تحيا النصوص وتستبين، ويسهل على المشتغلين بموضاعاتها قراءتها والإفادة منها. وليس أجدى على الباحث من أن تكون بين يديه الوثائق الأولى مضبوطة محققة خالية من شوائب التحريف والتصحيف.
وقد ابتليت كتبنا القديمة بأن قام على نشر الكثير منها والإشراف على إخراجها ناشرون من غير العلماء المتخصصين، لا همّ لهم سوى جنى الربح المادى من طبعها. ونحن نعانى من نشراتهم ما نعانى من أخطاء مطبعية ولغوية، ونقص في النصوص هنا وزيادة هناك، وخلو تام من التحقيق والتعليق والتفسير والفهارس العلمية بشتى أنواعها. وكثيرًا ما نقف من نص من النصوص حيارى مكتوفي الأيدى لا نفهم له معنى ولا نستطيع له توجيهًا، أو نوجهه توجيهًا خاطئًا لم يخطر للمؤلف ببال، لا لسبب سوى أن في النص تحريفًا أو نقصًا أو إضافة من ناسخ، أو خلطًا بين متن النص وشرح وضع عليه. ويكفى أن يسقط حرف النفى "لا" من جملة من الجمل، أو توضع كلمة "إذ" بدلًا من "إذا" أو العكس، أو تكتب كلمة "العارفين" بدلًا من "العراقيين" أو نحو ذلك من التحريفات، لكى يضطرب النص ويفسد معناه؛ وكثيرًا ما يؤدى بالباحث إلى فهم خاطئ قد يفضى إلى رأى باطل أو نظرية لا أساس لها.
ولا يختلف حظ رسالة "مشكاة الأنوار" التى ننشرها اليوم كثيرًا عن حظ غيرها من الكتب التى نشرت على النحو غير العلمى الذى أشرنا إليه. فقد طبعت في مصر عدة طبعات: سنة ١٣٢٢ هـ، ١٣٢٥ هـ، ١٩٢٩ م،
1 / 1
١٣٥٢ هـ وضمن مجموعة "الجواهر الغوالى من رسائل حجة الإسلام الغزالى" سنة ١٣٤٣ هـ.
وقد قابلتُ هذه الطبعة - التى هى الآن أكثر الطبعات تداولًا - على المخطوطات التى تيسر لى الاطلاع عليها، فوجدتها حافلة بالأخطاء والتحريفات الخطيرة؛ كما وجدت فيها إضافات كثيرة على النص الأصلى، ونقصًا يبلغ الصفحة في موضع من المواضع: وذلك من قوله "بمنزلة البهائم بل أخس" إلى قوله: "بمحض الظلمة وهى نفوسهم المظلمة".
يظهر أن الأصل الذى أخذت عنه هذه النسخة كان مختلطًا ببعض الشروح والتعليقات، فنقل الناسخ كل ذلك ولم يفرق بين المتن وغيره.
ويكفى أن أذكر بعض نماذج من التحريفات التى وقعت في هذه النسخة ليظهر ما فيها من خطورة:
١- ورد في ص ١٢٩ "سر الكلبية" بالسين: والصحيح "شر الكلبية" بالشين.
٢- ورد في ص ١٣٠ "وقس عليه الضوء والنهار": والصحيح "وقس عليه الطوُّر والنار" لأن الكلام عن موسى الذى آنس من جانب الطور نارًا.
٣- ورد في ص ١٣١: "وهذا الحظ من الوحى"، والصحيح: "وهذا النمط من الوحى".
٤- ورد في ص ١٤٣: "وهو الذى يكتب ما أوردته الحواس". والصحيح: "وهو الذى يستثبت ما أوردته الحواس".
٥- ورد في ص ١٣٤: "أجلى وأسنى"، والصحيح: "أجل وأسنى".
1 / 2
٦- وفي ص ١٣٤: "فلنرجع إلى غرض الأمثلة"، والصحيح: "إلى عرض الأمثلة" بالعين المهملة.
٧- وفي ص ١٣٥: "كون الأنبياء سراجًا منيرًا"، والصحيح: "سُرُجًا منيرة".
٨- وفي ص ١٣٧: "والحوادث الرديئة"، والصحيح: والأشغال المُردِية".
٩- وفي ص ١٣٨: "وأصناف هذه الأقسام كثيرة"، والصحيح: "وأقسام هذه الأصناف كثيرة".
١٠- وفي ص ١٣٩: "فأحاله الطبع": والصحيح: "فأحاله إلى الطبع".
هذا قليل من كثير من أمثلة الأخطاء التى لاحظتها في هذه الطبعة بالإضافة إلى العيوب الأخرى التى أشرت إليها؛ ولذلك كانت إعادة نشر هذه الرسالة ونشر غيرها من مؤلفات الغزالى واجبًا تقتضيه الأمانة العلمية كما يقتضيه إنصاف المؤلف الذى من حقه علينا أن نفهم مؤلفاته على النحو الصحيح الذى قصد إليه. وهذا ما اعتزم المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية القيام به عندما قرر نشر مؤلفات الغزالى ما طبع منها وما لا يزال مخطوطًا.
٢- اسم الرسالة ومنزلتها من مؤلفات الغزالى:
١- أطلق عليها اسم "مشكاة الأنوار" كما ورد في "كشف الظنون" لحاجى خليفة وفي النسخ المطبوعة.
٢- وأطلق عليها كذلك اسم "مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار" كما ورد في مخطوطة باريس وفي آخر مخطوطة بلدية الإسكندرية.
٣- وسميت باسم "كتاب المشكاة والمصباح" كما هو وارد في مخطوطة شهيد على باشا.
وينسب للغزالى كتاب آخر بعنوان "مشكاة الأنوار في لطائف الأخبار"
1 / 3
لا صلة له بهذه الرسالة؛ وإنما هو كتاب ضخم توجد منه مخطوطات بدار الكتب المصرية؛ وفي صفحة عنوان المخطوطة رقم ٢٣٧ تصوف يرد اسم المؤلف الحقيقى وهو علاء الدين على بن محمد الشهير بابن الفقيه الحافظ المصرى المتوفي سنة ٨٧٧.
ولا شك في أن رسالة مشكاة الأنوار من مؤلفات الغزالى المتأخرة التى تمثل عصر النضج الفكرى والروحى؛ ولكنا لا نستطيع أن نضع تاريخًا محدودًا لتأليفها كما فعل الأستاذ ماسنيون في كتابه "مجموع نصوص غير منشورة خاصة بتاريخ التصوف في الإسلام: باريس ١٩٢٩" حيث يقول إنها ألفت في الفترة ما بين ٤٩٥ ب ٥٠٥، وهى الفترة التى قضاها الغزالى في طوس وعكف فيها على التأليف والعبادة. ويذكر ماسنيون من مؤلفات الغزالى في هذه الفترة كتاب "معيار العلم" وكتاب "محك النظر" وكتاب "المقصد الأسنى" ورسالة "مشكاة الأنوار". ولكنا نرى في "مشكاة الأنوار" إحالات على هذه الكتب جميعها مما يدل على أن الغزالى ألفها قبل المشكاة، ولا ندرى إذا كان ألفها كلها في نفس الفترة التى يحددها ماسنيون. ولا نظن أن للأستاذ ماسنيون من السند التاريخى ما يعتمد عليه في تحديد سنوات تأليف كتب الغزالى على النحو الذى رسمه.
٣- مخطوطات الرسالة:
يوجد للرسالة ما لا يقل عن ست وثلاثين مخطوطة مبعثرة في جميع أنحاء العالم؛ نذكر منها ما يلى:
(١) بلدية الإسكندرية وتاريخها ٩٠٧هـ (٢) قوله حـ ١ ص ٢٦٢. (٣) الموصل ١٧٦ [٨] (٤) بتنا ٢: ٤١٢ [برقم ٢٥٨٠ (٨)] (٥) برلين رقم ٣٢٠٧ (٦) ليدن رقم ١٩٨٨. (٧) مخطوطات بريل ٢: ١٠٥٣ (٨) الأمبروزيانا (RSO III ٥٧٣) A ٦٤. V (٩)
1 / 4
الفاتيكان بورجيرى ٦٥. Vat. Borgh (١٠) مانشستر i ٧١ (١١) برنستون، مجموعة جارت رقم ١٨٩٢ وتاريخه ٩٣٧ هـ (١٢) المكتب الهندى بلندن رقم ١٢٣٧ فهرس آربرى بتاريخ ١٠٩٦؛ ورقم ١٢٣٨ بتاريخ ١١٠٧. (١٣) طهران: مجلس شوراى ملىّ رقم ٩٠١٥ بتاريخ ١٣٢٠. (١٤) آصفية ١: ٣٨٨ [١٤ (٥) تصوف عربى] (١٥) طهران ٢: ٧٧. (١٦) رامفور ١: ٦٩٧. (١٧) الظاهرية: عام ٧٦٢١.
وفي استانبول: (١٨) شهيد على ١٧١٢، ١٣٧٧. (١٩) بشير أغا ٦٥٠ (٢٠) السليمانية ٧٣٤. (٢١) كوبرلى برقمى ٨٦٠، ١٦٠٣: (٢٢) أياصوفيا ٢٠٧٥، ١٧١١ [٣]، ٤٨٠١. (٢٣) جار الله ١٠٩٢ [١]، ٢٠٧٥. (٢٤) ولى الدين ١٨٢٩. (٢٥) سليم أغا: المجموع رقم ١٠٨. (٢٦) أسعد ١٧١٧ر١٨. وفي دار الكتب المصرية، (٢٧) ٢٦٧٣ تصوف: بتاريخ ١٠٦٥، (٢٨) برقم ١٨٤ تصوف (ضمن مجموعة)، (٢٩) مجاميع طلعت بأرقام ٢٧٤، ٥١٣، ٣٢٦، ٨٢٢، ٨٢٦.
وفي باريس (٣٠) برقم ١٣٣١. (٣١) وفي الأسكوريال ٢ برقم ٦٣١. (٣٢) جوتا (فهرس برتش ق ٣ حـ ٢ ص ٣٧٨) برقم ١١٦٦ بتاريخ ١١٨٨.
٤- مخطوطتا شهيد على وبلدية الإسكندرية اللتان اتخذتا أساسًا لهذه النشرة:
(ا) مخطوطة شهيد على. رقم ١٧١٢ بمكتبة شهيد على باستانبول، وتوجد منها صورة شمسية بدار الكتب المصرية تحت رقم ٣٦٦٢ تصوف. تقع في ٢٢ ورقة في ٤٣ صفحة مسطرتها ٢٣ سطرًا بخط كبير واضح. وفي صفحة العنوان:
1 / 5
"كتاب المشكاة والمصباح صنفه الشيخ الإمام الزاهد حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالى قدس الله روحه".
وتحت ذلك اسم الناسخ وهو "عبد المجيد بن الفضل الفزارى الطبرى".
وأول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. رب أنعمت فزد بفضلك. الحمد لله فائض الأنوار الخ.
وأكبر ميزة لهذه المخطوطة أنها - فيما نعلم - أقدم مخطوطة موجودة للرسالة؛ إذ أنها كتبت سنة ٥٠٩هـ أى بعد وفاة الغزالى بأربع سنوات. يقول ناسخها في آخرها:
"نجز الكتاب وصادف فراغ صاحبه عبد المجيد بن الفضل الفزارى الطبرى ليلة الجمعة وهى الليلة التاسعة من شهر رمضان سنة تسع وخمسمائة. وهو يحمد الله تعالى كثيرًا على نعمته، ويصلى على محمد النبى وزمرته".
وعلى الرغم من هذه الميزة التى تجعل مخطوطة شهيد على أقرب النسخ من نسخة المؤلف الأصلية، لاحظنا فيها - لسوء الحظ - كثيرًا من الأخطاء والتحريفات والأغلاط النحوية حتى في اسم الغزالى، مما يدل على أن الناسخ لم يكن على حظ كبير من الثقافة اللغوية.
(ب) مخطوطة بلدية الإسكندرية: رقم ١٧٨٢- د بقلم فارسى دقيق جميل؛ نسخت سنة ٩٠٧ هـ وهى تقع في ١٧ ورقة من ٣٤ صفحة، ومسطرتها ١٩ سطرًا.
وهى على الجملة أدق من نسخة شهيد على، وبها كلمات، وأحيانا جمل قصيرة، هامة ساقطة من المخطوطة الأخرى. وفي صفحة العنوان "كتاب مشكاة الأنوار للإمام الغزالى رحمه الله تعالى".
والصفحة مملوءة بأدعية وآيات قرآنية وأحاديث مكتوبة بخط ناسخ الرسالة.
1 / 6
وتبدأ المخطوطة بأول الرسالة وهو "الحمد لله فائض الأنوار وفاتح الأبصار وكاشف الأسرار الخ.
وتنتهى بقول الناسخ:
"تمت كتابة مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار. اللهم اغفر لنا مع الأبرار. يسر العسر يا ميسر الأعسار ويا خارق الأستار بحرمة محمد سيد شفيع الأشرار وقامع الكفار. تاريخه سبع وتسعمائة من هجرة النبوة".
وقد اعتمدنا في تحقيق هذه الرسالة على هاتين المخطوطتين، واعتبرنا مخطوطة شهيد على أصلًا، وسجلنا القراءات المخالفة الواردة في مخطوطة بلدية الإسكندرية في الهوامش. ولكن هذا لم يمنعنا في كثير من الأحيان أن نأخذ بقراءات مخطوطة بلدية الإسكندرية ونثبتها في المتن ونذكر ما يخالفها من قراءات مخطوطة شهيد على في الهامش؛ فقد كان رائدنا في تحقيق النص الأخذ بأفضل القراءات.
٥- ترجمات المشكاة والدراسات التى وضعت حولها:
لم تلق رسالة "مشكاة الأنوار" من عناية الباحثين ما لقيه بعض كتب الغزالى الأخرى على الرغم من أهميتها ومنزلتها العالية بين كتب المؤلف التى كتبها في عصر نضجه. والرسالة جديرة بالدراسة والتحليل العميق لما تلقيه من ضوء على بعض المسائل التى عالجها الغزالى في كتب سابقة عليها، ولأنها تصور الموقف النهائى الذى وقفه من هذه المسائل. وقد جرؤ فيها على ما يجرؤ بالتصريح بمثله في أى مؤلف آخر: فقد أشرف فيها على القول بوحدة الوجود، وخلص بعد مناقشات طويلة إلى القول بأنه ليس في الوجود موجود حقيقى إلا الله؛ لأن كل ما سواه مستمد وجوده منه؛ وما كان وجوده عارية فهو في حكم المعدوم. فالعالم في حقيقته لا وجود له. وأقصى ما صرح به في كتبه الأخرى قوله "إنه ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره".
ولعل السر في عدم إقبال الباحثين على دراسة هذه الرسالة أنها تدور حول موضوع خاص ضيق في مظهره وإن كان واسعًا عميقًا في حقيقته.
1 / 7
فقد يتوهم الناظر فيها نظرة عابرة أنها ليست إلا تفسيرًا لآية قرآنية خاصة هي آية النور، ولا يدرك أن الغزالى قد لخص في هذا التفسير فلسفة إشراقية كاملة، ونظرية في حقيقة الوجود كما يتصوره. ويتجلى في الرسالة إلى جانب هذا المنهجُ الذى التزمه الغزالى في تأويله للقرآن وتخريجه للمعانى الباطنية فيه، وهو المنهج الذى لا شك في أن ابن عربى قد حاكاه فيه عندما استخلص مذهبه الفلسفى الصوفى كاملاَ من طائفة محدودة من الآيات القرآنية، وإن كان الغزالى قد قصر منهجه التأويلى في الأغلب على الآيات التى يضرب فيها الله الأمثال للناس في حين أن ابن عربى التزم هذا المنهج في تفسيره للقرآن برمته.
ويستوى في عدم العناية بدراسة المشكاة الباحثون العرب والغربيون. أما الباحثون العرب فقد شغلوا أنفسهم بموقف الغزالى من الفلاسفة ورده عليهم؛ أو بالرد عليه في نقده للفلاسفة كما فعل ابن رشد في تهافت التهافت، وكأنه لم يخطر ببالهم أن الغزالى الذى حارب الفلسفة وحاول هدمها فيلسوف من طراز آخر غير طراز الفارابى وابن سينا؛ وأن المصادر الخصبة في فلسفته هى رسائله القصار كالمشكاة والرسالة اللدنية وبعض أجزاء كتبه المطولة كالإحياء ومقدمة المستصفى.
وأما علماء الغرب فقد جذبتهم في الغزالى شخصيته العالمية فعنوا بدراسة كتبه من حيث صلتها بعلم الأديان المقارن، وبالغزالى الصوفي لا الغزالى الفيلسوف.
ولا تزيد البحوث المطولة التى وضعها الغربيون حول "مشكاة الأنوار" على ثلاثة:
الأول: مقال كتبه فنسنك في ليدن سنة ١٩٤٤ في عشر صفحات.
الثاني: بحث نشره جيردنر بمجلة "الإسلام" Der Islam بالإنجليزية بعنوان "مشكاة الأنوار ومشكلة الغزالى" سنة ١٩١٤.
الثالث: بحث نشره مونتجومرى وات بمجلة الجمعية الملكية الآسيوية J R. A. S سنة ١٩٤٥.
1 / 8
وقد عرضنا لهذه البحوث وناقشناها في تحليلنا للكتاب.
وكذلك لم تحظ المشكاة من الترجمات إلى اللغات الأوروبية إلا بثلاث: الأولى ترجمة إلى اللاتينية قام بها إسحاق بن يوسف الفاسى؛ والثانية إلى اللاتينية أيضًا وقد قام بها مترجم مجهول؛ والثالثة إلى الإنجليزية قام بها جيردنر سنة ١٩٢٤.
1 / 9
تحليل نقدى للرسالة
الفصل الأول
يبدأ الفصل الأول بمناقشة معنى "النور" فى عرف العامة وعرف الخاصة، ثم فى عرف خاصة الخاصة وذلك تمهيدًا لبيان أن الله تعالى هو نور الأنوار أو النور الأعلى الأقصى، وأنه النور الحق والحقيقى الذى تنبعث منه سائر
1 / 11
الأنوار التى لا تسمى أنوارًا إلا على طريق المجاز. فكأن الغزالى بدأ بقضية اعتبرها بديهية أو مسلمة، وهى أن للعالم أصلاَ مغايرًا له وأن هذا الأصل هو النور الحقيقي أو النور بالذات، ثم اتخذ خطوات تدريجية لا لإثبات وجود ذلك النور بل لتقرير وجوده.
والنور بالمعنى العامى هو ما يُبْصَر بنفسه ويبصر به غيره كنور الشمس والقمر والسراج والنار المشتعلة. ولكن لما كان هذا النور لا يُبصَر ولا يُدرَك إلا إذا وجدت عَيْن تبصره، اعتُبِر الروح الباصر ركنًا في إدراكه وكان أولى بأن يطلق عليه اسم النور من النور الظاهر.
هذه أول خطوة خطاها الغزالى في الترقى في معنى النور وفي تجريده، إذ انتقل من النور الظاهر المحسوس إلى نور آخر غير ظاهر وغير محسوس: وهذا النور الآخر هو النور في عرف الخاصة.
ثم نظر الغزالى في "نور العين" فإذا به موسوم بأنواع كثيرة من النقصان: فهو يبصر غيره ولا يبصر نفسه، وهو لا يبصر من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يبصر الأشياء المفرطة في القرب والبعد، ولا يبصر إلا المتناهى؛ ويرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا، والساكن متحركًا والمتحرك ساكنًا وهكذا.
ولكن في الإنسان "عينًا" ليس فيها شىء من هذه النقائص وهى "العقل" أو الروح أو النفس الإنسانية: لذلك كانت أولى باسم النور من العين الباصرة. هذه هى الخطوة الثانية التى خطاها الغزالى في تجريد النور حيث وصل إلى نور عقلى به يبصر الإنسان نفسه وغيره، ويدرك المتناهى واللامتناهى، والأشياء المفرطة في البعد والقرب، ويدرك ما وراء الحجب، وينفذ إلى بواطن الأمور وأسرارها وحقائقها، والعالم أعلاه وأسفله؛ بل يدرك الخالق جل شأنه ويدرك نسبته إليه.
إلا أن العقل على الرغم من كل هذه الكمالات التى من أجلها استحق اسم النور أكثر مما استحقه نور البصر لا يدرك مدركاته على درجة واحدة؛ فمن الأشياء ما يدركه إدراكًا مباشرًا في جلاء ووضوح، وبعضها مالا يدركه إلا إذا نُبّه إليه من مصدر حَكيم. والقرآن أعظم منبه للعقل لأنه أعظم حكمة.
1 / 12
ومن هنا كان القرآن أولى باسم النور من العقل، وورد وصفه بالنور في قوله تعالى: ﴿والنور الذي أَنزَلْنَا﴾، وفي قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ .
هذه هى الخطوة الثالثة في تجريد النور إذ نحن الآن بإزاء نور ليس من أنوار هذا العالم، بل من أنوار عالم الملكوت الذى منه القرآن. وعالم الملكوت هو العالم العلوى الذى تسكنه الملائكة وتعرج إليه نفوس السالكين. وهو عالم الغيب الذى يعتبر عالم الشهادة أثرًا من آثاره وظلًا له ومسبّبًا عنه. وهو عالم مشحون بالأنوار.
ثم إن أنوار عالم الملكوت التى تقتبس منها الأنوار الأرضية مرتَّبة بحسب قربها وبعدها من منبع النور الأول الذى يمثله الغزالى بضوء القمر عندما يدخل في كوة بيت فيقع على مرآة منصوبة على حائط، ثم ينعكس منها على مرآة على حائط آخر، ثم ينعطف إلى الأرض فينيرها. فهو نور واحد ظهر عنه بواسطة الانعكاسات أنوار كثيرة مستعيرة وجودها منه لأنه لا يمكن أن يشتق بعضها من بعض إلى غير نهاية، بل لا بد أن ترتقى إلى منبع النور الأول الذى هو النور بالذات أو النور الحقيقى أو النور المحض (الله) الذى لا يسمى غيره باسم النور إلا مجازًا.
هذا النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولًا وإدامة الإنارة ثانيًا، ولا شركة لنور غيره في حقيقة اسم النور ولا استحقاقه.
ويقابل النور الظلمة. وإذا كان النور هو الوجود المحض، فالظلمة هى العدم المحض، لأن المعدوم ليس موجودًا لنفسه ولا لغيره. ولكن الغزالى لا يستعمل كلمتى النور والظلمة كما يستعملان في مذهب الثنوية الفارسية بمعنى مبدأين متعارضين متصارعين. وإنما النور عنده هو الوجود الإيجابى والعدم هو سلب الوجود. ولما كان الوجود ينقسم إلى ما له هذه الصفة من ذاته وإلى ما هى له من غيره؛ ولما كانت نسبة الوجود إلى هذا الأخير إنما هى من حيث إضافته إلى غيره لا من حيث ذاته، اعتبر في حكم
1 / 13
العدم المحض. وهذا هو شأن العالم أو كل ما يطلق عليه اسم "ما سوى الله". فهو في ذاته عدم محض، والوجود الحق هو الله تعالى كما أنه هو النور الحق. وليس هذا الكلام ضربًا من المجاز في التعبير في نظر الغزالى، بل هو الحق الصريح؛ كما أنه ليس نتيجة لمقدمات نظرية وضعها العقل، بل هو حقيقة يشاهدها العارفون مشاهدة عيانية عندما يرقون في معراجها الروحي "من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة" فيدركون ذوقًا معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ لا بمعنى أن كل شىء سوى الله يصير هالكًا في وقت من الأوقات، بل بمعنى أن كل شىء سوى الله هالك أزلًا وأبدًا ولا يتصور إلا كذلك. أما الموجود فهو وجه الحق وحده؛ والله تعالى هو المتفرد بالملك أزلًا وأبدًا، في هذه الدنيا وفي الآخرة. وليس نداء الله في المخلوقات يوم القيامة بقوله ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ قاصرًا على يوم القيامة، بل إنه لا يفارق سمع المخلوقات أبدًا في هذه الدنيا.
وهكذا وصل الغزالى في نهاية تفكيره إلى نظرية أشبه ما تكون بنظرية وحدة الوجود؛ ومن العسير صرفها عن هذا المعنى إلا إذا اعتبرت أقواله من قبيل الشطح الصوفي، ولم يؤثر عن الغزالى أنه كان من أصحاب الشطحات. فهو يقرب قربًا عجيبًا من أصحاب وحدة الوجود حينما يقول "إن العالم بأسره مشحون بالأنوار.. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل؛ بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز.. بل كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه". إنه لا يقول صراحة إن الحق هو الخلق وإنهما وجهان لحقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بالاعتبار كما قال ابن عربى من بعده، ولكنه يقول لا موجود على الحقيقة إلا الله، وإن العالم لا وجود له إلا من حيث انعكاس وجود الحق فيه كانعكاس ضوء القمر على صفحة المرايا المتعددة. وهذه في نظره حقيقة يقرها العقل ويؤيدها الكشف الصوفي. وهو يفرّق في نهاية المطاف بين
1 / 14
توحيد العوام وهو القول بلا إله إلا الله، وتوحيد الخواص وهو لا إله إلا هو، و"هو" - كما قلنا - هو كل ما يشار إليه. وتوحيد الخواص عنده "أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية".
ولم نجد في كتب الغزالى الأخرى - فيما نذكر - مثل هذا التصريح بالوحدة الوجودية؛ وكل ما قاله في الإحياء "ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره" وفي ذلك اعتراف منه بوجود الكون إلى جانب وجود الله، وفيه إغلاق للباب في وجه وحدة الوجود. فهل نرى في "المشكاة" تحولًا في موقف الغزالى من الحقيقة الوجودية، وميلًا واضحًا نحو نزعة الصوفية القائلين بوحدة الوجود؟ إننا إذا أخذنا بمثال ضوء القمر والمرايا التى ينعكس عليها ضوؤه، قد نسلم له بأن الأنوار المنعكسة على المرايا لا وجود ولا حقيقة لها في ذاتها، مع أنها موجودة ونراها رؤيا العين، وإنما هى في الحقيقة انعكاسات للنور الأول الذى هو نور القمر. ولكن ما قوله في المرايا نفسها، وأي شىء يقابلها في تمثيله؟ هل يفكر الغزالى في شىء أشبه بالهيولى الأولى التى قال بها الفلاسفة لكى تنعكس عليها الأنوار الإلهية؟ ولكن الغزالى ينكر كل الإنكار وجود مادة قديمة للعالم ويقرر أن العالم مخلوق حادث من عدم.
والظاهر لى أن الغزالى باستعماله هذا التمثيل (تمثيل ضوء القمر والأنوار المنعكسة منه) يعقّد مشكلة صدور العالم عن الله ولا يحلها على أساس عقلى، فهل أسعفته التجربة الصوفية في حلها؟ إنه يذكر العارفين الذين لا يرون في الوجود إلا الواحد الحق لأنهم يشعرون في حال وجدهم أو فنائهم بوحدة شاملة لا يشهدون فيها إلا الله، ولا يكون في تجربتهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم؛ ولذلك يصيح بعضهم بقوله "أنا الحق" كما فعل الحلاج، ويصيح الآخر بقوله "سبحانى ما أعظم شانى! ". ولكن هذه "وحدة شهود" لا وحدة وجود. والشعور بوحدة الشهود حال عارضة سرعان ما تزول عند ما يرد الصوفي إلى سلطان العقل ويعرف "أن
1 / 15
ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا". ويقول الغزالى إن شعور العارف في حال فنائه عن نفسه وعن الخلق وبقائه بالحق يسمى اتحادًا مجازًا وتوحيدًا على الحقيقة: أى توحيدًا بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا الله وحده. ولعل مما يرفع عن الغزالى شبهة القول بوحدة الوجود ما يذكره في نهاية هذا الفصل في معنى قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" حيث يقرر أنه "مع كل شىء" بمعنى أنه قبل كل شىء، وفوق كل شىء ومظهر لكل شىء. فقوله "قبل كل شىء" إقرار بقدم الله تعالى؛ وقوله "فوق كل شىء" معناه تنزيهه تعالى، والتنزيه بمعناه الدينى الحقيقى لا يتفق مطلقًا مع القول بوحدة الوجود.
هذا وقد أثار "فنسنك" موضوع الصلة بين هذا الفصل من المشكاة وتساعات أفلوطين في مقال له نشر سنة ١٩٤١ في Semietische Studien uit de nalatenschap ذهب فيه إلى أن الغزالى استمد مادة هذا الفصل من الفصل الخامس من التساع الرابع، وهو الفصل الذى يعالج فيه أفلوطين موضوع الإبصار. وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوى في كتابه "أفلوطين عند العرب: ص ١٨٩ - ١٩٢" شذرات من ترجمة عربية قديمة لهذا الفصل منسوبة إلى الشيخ اليونانى (أفلوطين) وقال إن هذا يدل على أن الفصل قد ترجم إلى اللغة العربية وأن في الإمكان اطلاع الغزالى عليه.
ولكن فصل أفلوطين يعالج نظريته في الرؤية البصرية وكيفية انتقال الصورة المرئية إلى العين، ويناقش فكرة الوسيط الذى تنتقل الصورة بواسطته، ولا صلة لهذا كله بمسائل الفصل الأول من المشكاة.
أما الدكتور عبد الرحمن بدوى فيرى أن المصدر الذى يمكن أن يكون الغزالى قد تأثر به هو الفصل الخامس من التساع الخامس لأفلوطين؛ وأن هذا الفصل قد ورد ملخصًا في "رسالة العلم الإلهى" المنسوبة إلى الفارابى وهى في نظره مقتطفات من هذا التساع.
وقد نشر الدكتور بدوى رسالة الفارابى المزعومة في كتابه "أفلوطين عند العرب". وبالرجوع إليها لم أجد ما يدل على انتفاع الغزالى بها في رسالة المشكاة فيما عدا فقرة قصيرة تشير إلى أن فعل الفاعل الأول هو العقل، وأن العقل ضوء سائح من ذلك الجوهر كما يسيح ضوء الشمس على الأشياء من الشمس. على العكس وجدت أن برسالة العلم الإلهى ما يتعارض تعارضًا صريحًا مع آراء الغزالى، لأنها تنزع نزعة واضحة نحو مذهب الفيوضات الذى قال به أفلوطين، والغزالى ينكر نظرية الفيوضات في كتاب "تهافت الفلاسفة" ويصف القائلين بها بالخبل العقلى. وقد بينت كيف يصور الغزالى الصلة بين نور الأنوار (الله) و"المطاع"، ثم بين "المطاع" وسائر الموجودات، وأوضحت أن هذه الأخيرة صلة خلق لا صلة فيض بالمعنى الأفلوطينى. نعم يستعمل الغزالى كلمات النور والانبثاق والفيض ونحوها في تصوير عملية الخلق، ولكن الأنوار التى ترقي في جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول أنوار مستعارة من هذا النور الأول ولا حقيقة لها في ذاتها في حين أن الفيوضات الأفلوطينية موجودات حقيقية لكل منها وجوده الخاص. ولا يقول أفلوطين إنها على الحقيقة هى الواحد الأول.
وأى مبرر يحملنا على القول بأن الغزالى قد تأثر في لغته الفلسفية في المشكاة برسالة "العلم الإلهى" المنسوبة إلى
1 / 16
الفارابى أكثر من تأثره بكتاب أثولوجيا أرسطاطاليس وقد كان المصدر الأول لعلم الإسلاميين بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة؟. إن الغزالى وكثيرين غيره من فلاسفة المسلمين يستعملون مصطلحات الأفلاطونية الحديثة ولكنهم يقرءون فيها معانى جديدة ويوجهونها توجيهًا جديدًا يخرجها عن معناها الأصلى. وفي هذا كان ابتكار المسلمين وأصالتهم لا تبعيتهم.
1 / 17
الفصل الثانى
يشرح الغزالى في هذا الفصل بعض الألفاظ الواردة في آية النور: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ الخ. وهذه الألفاظ هى "المشكاة"، و"المصباح" و"الزجاجة" و"الشجرة" و"الزيت" و"النار" باعتبارها رموزًا تشير إلى معان مستترة وراءها. ويمهد لهذا الشرح بمبحثين: الأول في طبيعة الرمز أو (التمثيل) ومنهاج استعماله، والثانى فى درجات الأرواح البشرية ومراتب أنوارها، وينتهى إلى أن الألفاظ السبعة المذكورة رموز لهذه الأرواح البشرية.
"تقوم نظريته في طبيعة الرمز على افتراض وجود موازاة تامة بين عالم الشهادة وعالم الغيب: العالم الجسمانى والعالم الروحانى؛ وأنه ما من شىء في عالم الشهادة إلا وهو رمز (أو مثال) لشىء في عالم الملكوت؛ وأن عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الغيب، وإلا استحالت معرفتنا بالعالم العلوى وتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية والقرب من الله. والله وحده هو الذى لا مثال له لأن شرط المماثلة المطابقة بوجه مّا، والله تعالى لا يطابقه شىء فلا يماثله شىء. وإذا كان الأمر كذلك، يجب أن نعتبر ألفاظ التمثيل الواردة في القرآن بمثابة مفاتيح أسرار الغيب فنؤولها كما تؤول رموز الأحلام. فكما أن الشمس في علم تعبير الرؤيا مثال لصاحب السلطان، والقمر مثال للوزير المنفذ لرغبات السلطان، كذلك للموجودات العالية الروحانية أمثلة في العالم المحسوس. وهنا يسرد الغزالى طائفة من الأمثال المقتبسة من القرآن الكريم ليوضح بها نظريته. "فالطور" مثال للموجودات العظيمة الثابتة في عالم الملكوت و"الوادى" مثال للموجودات العلوية التى تتلقى المعارف الغيبية، ومنها تجرى هذه المعارف إلى النفوس البشرية. و"الوادى الأيمن" مثال للمنبع الأول للمعرفة. و"النار" مثال لروح النبى الذى وصفه القرآن بأنه سراج منير. و"الجذوة والقبس والشهاب" أمثلة لمن يتبع النبى على استبصار لا على مجرد تقليد. و"الاصطلاء" مثال للمشاركة بين النبى
1 / 18
وتابعيه. و"الوادى المقدس" مثال لأول منزلة من منازل ترقي النبى: و"خلع النعلين" مثال لهجر الدارين: الدنيا والآخرة. و"القلم" مثال لانتقاش علم الغيب في النفوس القابلة، و"اللوح المحفوظ والرق المنشور" مثال للنفس التى يسجل فيها هذا العلم. و"اليد" مثال للملك المسخر لكتابة العلوم، و"الصورة" مثال لمجموع اليد والقلم واللوح، وهى في الإنسان صورة الرحمن لأن رسول الله يقول "خلق الله آدم على صورة الرحمن". و"الماء" الذى قال الله فيه ﴿أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً﴾ مثال للمعرفة؛ و"الأودية" الواردة في نفس الآية في قوله ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ مثال للقلوب وهكذا.
هنا يشعر الغزالى أن منهجه في التأويل على هذا النحو قد يدخله في عداد الباطنية الذين يصرفون الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة. فيبادر إلى القول بأنه ليس باطنيًا يبطل الظاهر ولا حشويًا يبطل أسرار الباطن ولكنه يجمع بين الظاهر والباطن، ويأخذ بالمعنى المحسوس كما يراقب "السر" المختفى وراءه. فموسى ﵇ رأى "نارًا" في "الوادى المقدس" وناداه ربه بقوله ﴿فاخلع نَعْلَيْكَ﴾ و"خلع بالفعل نعليه"؛ ولكنه أدرك في الوقت نفسه أنه في ابتداء معراجه النبوى وأن الله يطلب منه أن يتجه إليه وحده فيخلع من قلبه حب الدنيا والآخرة أى كل ما سوى الله. فالمثال في نظر الغزالى حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. والأمثلة "تنبيهات" تستخدم في إثارة الحس والخيال اللذين هما طبيعيان في الإنسان؛ ولكنها تنبيهات إلى أسرار وراءها، أو إلى أنوار يحجبها الحس والخيال.
ولسائل أن يسأل عمن لهم الحق في هذا التأويل الذى لا يخضع لقاعدة لغوية ولا لعرف خاص؟ وهل هو ميدان للتكهنات والتخمينات يقول فيه العقل ما بدا له أن يقول؟ إذا كان الأمر كذلك فالمسألة جد خطيرة، إذ يصبح التأويل بابا يتسرب منه إلى الإسلام كل أنواع البدع والضلالات. وقد كان كذلك في أيدى الباطنية ومن نحا نحوهم. ولكن الذى يفهم من كلام الغزالى أنه يقصر هذا التأويل على أصحاب البصيرة من الأنبياء والأولياء فإن فيهم
1 / 19
وحدهم "القوة" التى يبصرون بها المعانى المستترة وراء الصور المحسوسة، كما وقع للنبى ﵇ من أنه رأى عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة "حبوًا". رأى ذلك ببصره، ولكنه رأى ببصيرته أن عبد الرحمن بن عوف ومن على شاكلته قد وجد عسرًا وهو يغالب نفسه ويجاهدها لكى يتغلب إيمانه على شهواته ويدخل العالم الروحى الخالص المعبر عنه بالجنة، ولكنه يدخله "حبوا" بعد طول الجهاد والمقاومة. ويسمى الغزالى هذا النوع من الرؤية وحيًا قد يحصل في اليقظة وقد يحصل في النوم: فإذا حصل في اليقظة احتاج إلى التأويل، وإن حصل في النوم احتاج إلى التعبير.
والبحث الثانى الذي يضعه الغزالى تمهيدًا لتأويل آية النور هو المراتب الروحية البشرية وهى عنده خمس مراتب:
أولًا: الروح الحساس الذى يدرك المحسوسات، وهو موجود في الصبى والبالغ.
والثانى: الروح الخيالى وهو الذى يتلقى ما تورده الحواس ويخزنه في خزانته، وهذا لا يوجد للصبى الرضيع ويوجد له بعد ذلك، وقد يوجد لبعض الحيوانات.
الثالث: الروح العقلى الذى يدرك المعانى المجردة عن الحس والخيال. وهو جوهر الإنسان، ومدركاته المعلومات الضرورية الكلية.
الرابع: الروح الفكرى أو النظرى وهو الذى يدرك العلاقات المنطقية بين الأفكار وينتقل من المقدمات إلى النتائج.
الخامس: الروح القدسى النبوى، وهو للأنبياء والأولياء خاصة، وفيه تتجلى لوائح الغيب؛ وهو المشار إليه في قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ .
هذه الأرواح الخمسة أنوار تظهر بها أصناف الموجودات المحسوسة، والمعقولة، وهى في نظر الغزالى في موازاة الأشياء الخمسة التى ورد ذكرها في الآية: أعنى "المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت". فالروح
1 / 20
الحساس في موازاة المشكاة لأن أنواره تنفذ من خلال ثقوب الحواس كما ينفذ النور من المشكاة. والروح الخيالى في موازاة الزجاجة لأن كلا منهما من أصل كثيف ولكنه قابل للتصفية والترقيق والتهذيب؛ ولأن الخيال يضبط المعارف العقلية بحيث لا تضطرب ولا تنتشر على غير هدى. كما تضبط الزجاجة نور المصباح وتحفظه من الانطفاء بالرياح وغيرها. والروح العقلى في موازاة المصباح لأنه مركز الإشعاع العقلى كما أن المصباح مركز الإشعاع النورانى الحسى. والروح الفكرى في موازاة الشجرة لأن الحياة الفكرية بمثابة الشجرة متعددة الأغصان كثيرة الثمر، تنمو كلها من أصل واحد هو بمثابة الجذر من الشجرة. وقد ذكرت شجرة الزيتون خاصة لأن زيتها أنقى الزيوت وأصفاها وأكثرها اشتعالًا، فهو بذلك أصلح الزيوت للمصابيح. والروح القدسى النبوى في موازاة الزيت الذى بلغ من الصفاء مبلغًا يجعله يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار. وكذلك نفوس بعض الأنبياء والأولياء قد بلغت من الصفاء مبلغًا بحيث تستغنى عن مدد علمى خارجى يأتيها بواسطة الملائكة أو غيرهم.
والآن ما صلة كل هذا بالآية التى تصف الله بأنه نور السماوات والأرض وتمثل هذا النور بهذه الصورة الرمزية المعقدة؟ إن هذا التأويل الذى وضعه الغزالى لا يستقيم في نظرى إلا إذا فهم الآية فهمًا خاصًا فقرأها على النحو الآتى: "الله نور السماوات والأرض، مثل نوره (المتجلى في الإنسان) كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة" الخ.. وبدون هذه الإضافة تنقطع الصلة بين تأويل الغزالى والآية الكريمة. وعلى أساس هذا الافتراض نستطيع أن نفهم ما يذكره الغزالى من مراتب الأرواح في الإنسان وهى - المراتب الخمس السالفة الذكر - لأنه يعتبرها أنواعًا من الأنوار الإلهية المختلفة الدرجات، مقتبسة من نور الأنوار (الله)، وأن الله تعالى قد ضرب لها أمثلة من العالم المحسوس بالمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت. أما لماذا قصر الغزالى التشبيه الوارد في الآية على النور الإلهى الظاهر في الإنسان دون سائر المخلوقات مع أنها تنص على أن الله نور السماوات
1 / 21