مشكلة الثقافة
مشكلة الثقافة
তদারক
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
প্রকাশক
دار الفكر
সংস্করণের সংখ্যা
١٤٢٠هـ = ٢٠٠٠م ط٤
প্রকাশনার স্থান
دمشق سورية
জনগুলি
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
***************
مشكلة الثقافة
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مشكلة الثقافة
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
مشكلة الثقافة
ترجمة عبد الصبور شاهين
دار الفكر
1 / 3
إعادة
١٤٢٠هـ = ٢٠٠٠م
ط٤: ١٩٨٤م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١ ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان وصية، سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١هـ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية كان- ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف، في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
تصدير
كنا في الطبعة السابقة قد التزمنا الطبعة الثانية، كما أشرف عليها فيلسوفنا مالك بن نبي- ﵀ حينما حضر إلى لبنان في حزيران عام ١٩٧١م.
ثم بدا لي من بعد ذلك أن أضيف إلى فصول الكتاب فصلًا جديدًا تمامًا على الذي أفاض في شرحه بن نبي، وهو يتحدث عن الثقافة في اتجاه العالمية.
فقد سلمني- ﵀ عام ١٩٧١م حين زيارته إلى طرابلس لبنان مقالًا، نشر في إحدى المجلات الناطقة بالفرنسية، يجمع بين نص البيان الذي كان قد وجهه عام ١٩٥٩م إلى مؤتمر الكتاب الإفريقيين السود في روما- وهو يمثل الفصل الأخير من هذا الكتاب- وبين تعقيب عليه، يعبر عن رؤية أودعها المؤلف مؤتمرًا آخر للكتاب الإفريقيين انعقد عام ١٩٦٩م. وقد وضع لهذا التعقيب بخط يده وبالفرنسية عنوانًا (ما ضد الثقافة)، كما وضع للبيان الأول المنشور في الفصل الأخير من هذا الكتاب عنوانًا (الثقافة والتاريخ).
وإذ اشتمل هذا المقال على ما يتمم فكرة الأستاذ بن نبي عن مشكلة الثقافة، فقد عدنا إلى ترجمته إلى العربية، وإضافته إلى هذا الكتاب تنفيذًا لوصية المؤلف في تبليغ أفكاره إلى قراء العربية.
وكتاب (مشكلة الثقافة) في أساسه قد فرّقت بين فصوله المناسبات؛ وإذا ذكرت دوافع إصداره عام ١٩٥٩، فذلك لأنني رأيتها صدىً لما كان قد كتبه مالك بن نبي وأصدره بالعربية في (شروط النهضة) و(فكرة الإفريقية الآسيوية).
ففي المعادي في القاهرة كان يسكن بن نبي عام ١٩٥٩م، وكان الطلاب يرتادون مجلسه بين الحين والحين، وأكثرهم يأتيه مستوضحًا مفهوم الثقافة فيما كتب في (شروط النهضة وفكرة الإفريقية الآسيوية).
1 / 7
وظل في حديثه يومًا بعد يوم يدلف من خلال تحليل مفهوم الثقافة عبر تطور الحضارات وتدافُع الشعوب، إلى أن تكونت لديه فكرة الكتاب.
ولقد زكّى مبادرته ما كان قد حمل إليه أحد الطلاب السوريين من تعريف للثقافة، تلقاه في محاضرات الجامعة نقلًا عن المفكريْن الأمريكييْن (وليام أوجبرن ورالف لنتون)، ثم ما كان قد وقع في يده من كتاب (دور الأفكار التقدمية) للماركسي (كونستانتينوف)، وكان رائج التداول ذلك الحين، كمثله من منشورات الفكر الماركسي.
وفي ظل امتداد (الأفكار التقدمية) عام ١٩٥٩م، علينا أن ندرك أهمية الحديث، عن المفاهيم والمصطلحات التي كونت الفكر الجامعي في القاهرة وسواها من مدن العالم العربي.
فقد جاءت أفكار بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة، لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي، أو في إطار الفكر الاشتراكي التقدمي.
لذا شعر أستاذنا مالك بن نبي بالحاجة إلى جمع أفكاره حول الثقافة وعرضها من جديد، في صورة تحليلية تحفز الفكر العربي والإسلامي، وتحركه باتجاه اكتشاف الحقائق والمصطلحات، بوسائله الخاصة، ووفق المعطيات النابعة من تجربته.
وإذا كان كتاب (مشكلة الثقافة) قد ابتدأ فيض التجربة، وما اقتضته التطورات والأيام من توضيح وبيان، فقد شاء الله أن يضم بين دفتيه البداية والنهاية معًا، وأن تجتمع كلمات بن نبي عن الثقافة في بواكير إنتاجه الفكري عام ١٩٤٧م في (شروط النهضة)، حين أخرجه بالفرنسية مع نظراته فيها عام ١٩٦٩م، في السنوات الأخيرة من نضاله في سبيل القضية.
﵀ وأجزل ثوابه جزاء ما قدم من خير، وضحَّى من جهد.
طرابلس لبنان ٢٧ شباط ١٩٨٠
عمر مسقاوي
1 / 8
الإهداء
إلى الشباب
المتطلع إلى العودة بالمجتمع الإسلامي
إلى حلبة التاريخ
مالك
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الطبعة الثانية
إن الطبعة الأولى لهذا الكتاب صدرت بالقاهرة منذ اثنتي عشرة سنة، وكانت الأفكار التي تعرضها- فيما أعتقد- غريبة في الوسط المثقف العربي، إذ لم تكن سبقت دراسة في هذا الموضوع من دارس عربي، خصوصًا إذا أضفنا أن المؤلف- كما تبين هذا في الفصول الأولى- قد تناول القضية من زاوية جديدة، لأنه كان أثناء دراسته منقادًا بشعور من يبحث عن ضالة؛ بينما عالم الاجتماع في الغرب أو حتى في الشرق الأوروبي، يتناول الموضوع وهو ممتلئ بشعوره. أنه إنما يصف واقعًا اجتماعيًا شاخصًا أمام عينيه في نظم بلاده، وفي فعالية السلوك حوله، وفي الترابط الواضح بين بني جلدته ومجتمعهم، ذاك الترابط الذي هو في جوهره التزام متبادل بين المجموعة والفرد.
بينما كان المؤلف مضطرًا أن يقف موقف الباحث عن سبب أو أسباب هذا الالتزام، في مجتمعٍ فقده منذ شاعت فيه الروح الانعزالية التي وجدت فلسفتها في تلك الكلمة القتّالة: (عليك بخاصة نفسك) التي رددتها أجيال مسلمة عبر قرون عصر ما بعد الموحدين.
إذن كانت فعلًا الأفكار التي تعرضها هذه الدراسة غريبة، وغريبة من ناحيتين:
أولًا: لأنها لم تتوخ منهج الدراسات الغربية في الموضوع لأسباب منهجية قدمها المؤلف في الصفحات التالية.
وثانيًا: لأن الأفكار المعروضة هنا ليست في جوهرها إلا أمتدادًا وشرحًا تحليليًا من ناحية، وتركيبًا من أخرى للأفكار التي قدمها في أحد فصول كتابه (شروط النهضة)، الذي نشر منذ ربع قرن باللغة الفرنسية، أي عندما كان الموضوع بكرًا لا بالنسبة للعالم الإسلامي فحسب، بل أيضًا في بلاد الغرب.
1 / 11
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن نضيف أن هذه الطبعة تمتاز بالنسبة للأولى بفصل جديد (الأزمة الثقافية)، رأيت من الضروري إضافته حتى أطلع القارئ العربي على أغوار أخرى للقضية.
إنني عندما أراجع نفسي بوصفي مؤلفًا، أراني سرت في الطبعة الأولى على قاعدة (العالم بخير)، أي أنه يكفي إبراز الجوانب الإيجابية للقضية لوضع يد القارئ على حلها، أو على الأقل لوضع قدميه في طريق حلها.
ولكن الأيام تكمل التجربة وتتم الخبرة، فالسنوات التي مرت منذ الطبعة الأولى بينت لي أن الأمر ليس على هذا الجانب من اليسر، وأن الدلالة على الخير- وإن كانت من الخير- لا تكفي لتحقيقه في الميدان العملي، إن لم تصحب هذه الإشارة الخيرة إشارة أخرى، تدل على مطبات الشر التي قد يتعثر السير عليها، وربما يستحيل أمامها.
إن الفصل الذي عقدته في هذه الطبعة لـ (الأزمة الثقافية)، إنما قصدت به أن أضع بعض معالم الإنذار على بعض تلك المطبات، التي تجعل سير المجتمع مستحيلًا، فلعل القارئ العربي يعيره بعض الاهتمام.
بيروت ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١هـ
مالك بن نبي
1 / 12
مقدمة الطبعة الأولى
جرى العرف إذا ما أريد الحديث عن الثقافة أن تقتصر مشكلتها في ذهن القارئ على قضية الأفكار.
والحق أن المشكلة هي كذلك في جانب من جوانبها؛ ولكن الثقافة لا تضم في مفهومها الأفكار فحسب، وإنما تضم أشياء أعم من ذلك كثيرًا، تخص- كما سنرى خلال عرضنا- أسلوب الحياة في مجتمع معين من ناحية، كما تخص السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع من ناحية أخرى.
ومع ذلك فإذا لم يكن من دافع يدفعنا إلى هذه الدراسة سوى مشكلة الأفكار، فإن مسوغًا كهذا قد يكون كافيًا في الظروف الراهنة التي يعيشها العالم الإسلامي والبلاد العربية.
وسيكون هذا المسوغ في الواقع صادقًا في نظرتين، ومن المحتمل أن يصدق في نظرة ثالثة.
إن تنظيم المجتمع وحياته وحركته، بل فوضاه وخموده وركوده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع؛ فإذا ما تغير هذا النظام بطريقة أو بأخرى فإن جميع الخصائص الاجتماعية الأخرى تتعدل في الاتجاه نفسه. إن الأفكار تكون في مجموعها جزءًا هامًا من أدوات التطور في مجتمع معين، كما أن مختلف مراحل تطوره هي في الحقيقة أشكال متنوعة لحركة تطوره الفكري؛ فإذا ما كانت إحدى هذه المراحل تنطبق على ما يسمى بالنهضة، فإن معنى هذا أن المجتمع في هذه المرحلة يتمتع بنظام رائع من الأفكار، وإن هذا النظام يتيح لكل مشكلة من مشاكله الحيوية حلًا مناسبًا.
ومثالنا على ذلك أننا نرى في أيامنا هذه مجتمعات معاصرة تطبق حلولًا مختلفة بصدد مشكلة بسيطة هي مشكلة الذباب، هذا الاختلاف لا ينشأ عن سبب فني في المشكلة، بل
1 / 13
هو ناشئ عن اختلاف نظم الأفكار؛ ومن أجل هذا اختلفت فاعلية الحلول التي تطبقها ففي الصين تعالج المشكلة بتجنيد المجتمع لقتل الذباب، بينما في أميركا تواجه بـ (د. د. ت).
ولكن لو أننا رأينا في مجال معين أثر الأفكار في مقاومة الحشرات، فقد نرى في مجال آخر أثرها الناقل للمرض. فمن المعلوم مثلًا أن الأجسام الحية قد تتناقل بعض الأمراض بواسطة العدوى. ولكنا منذ (باستور) و(كوخ) عرفنا أن الجراثيم هي العوامل التي تنقل هذه الأمراض.
ونحن نرى أن هناك شكلًا آخر من أشكال العدوى، هو ذلك الذي ينقل الأمراض الاجتماعية من جيل إلى جيل، الأمر الذي يضطرنا تبعًا لطبيعة المشكلة ذاتها أن نقرر أن هناك أيضًا أنواعًا من الجراثيم الناقلة للأمراض الاجتماعية، هذه الجراثيم الخاصة أفكار معدية، أفكار تهدم كيان المجتمعات أو تعوق نموها.
وعلى هذا نجد أن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين: فهي إما أن تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة، تجعل النمو الاجتاعي صعبًا أو مستحيلًا.
وهنالك فضلًا عن ذلك جانب آخر لأهمية الأفكار في العالم الحديث: ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها ومدافعها وأساطيلها البخرية ورصيدها من الذهب. ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطورًا معلومًا، هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية. هذا التطور لم تشعر به كثيرًا البلدان المتخلفة، لان عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضربًا من الغرام السقيم بمقاييس القوة، أي بالقاييس القائمة على (الأشياء).
فالرجل الذي يعيش في بلد متخلف يلاحظ دون ريب تخلفه بالنسبة للرجل الذي يعيش في بلد متقدم، وهو يلاحظ شيئًا فشيئًا أن الذي يفصل ما بين الشعوب ليس هو المسافات الجغرافية، وإنما هي مسافات ذات طبيعة أخرى.
1 / 14
والمسلم بسبب عقدة تخلفه يرد هذه المسافة إلى نطاق (الأشياء)، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص ما لديه من مدافع وطائرات ومصارف.
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى الشاؤم، كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى ما أطلقنا عليه (التكديس (١»، فلكي يصبح مركب النقص لديه فعالًا مؤثرًا ينبغي أن يرد المسلم تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى (الأشياء)، فإن تطور العالم الجديد دائمًا يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية.
ولننظر كيف يفكر في هذا الصدد ممثلان من ممثلي (القوة)، أعني: رجلين يملك بلداهما أكبر قدر من الأشياء، ابتداء من الثلاجة الكهربية حتى الصاروخ.
ففي المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي الذي انعقد في موسكو أراد خروشوف أن يفحم خصومه فقال: "إن النجاح الاقتصادي هو أقوم مقياس لسلامة الأفكار"، فها نحن أولاء نرى فاعلية الأفكار في إطار اقتصادي قومي، أي عندما تكون الأفكار سليمة يصبح الاقتصاد ناجحًا.
أما في المجال الدولي فإن لدينا حكمًا أصدره رجل آخر يمثل أيضًا عنصر القوة في المعسكر الغربي، فلقد نشر (جورج كينان) الدبلوماسي الأمريكي تحليلًا هامًا للوضع العالمي الراهن، كان قد ألقاه في عدة محاضرات، ثم نشره في كتاب بعنوان (روسيا والذرة والغرب)، وخلاصة ما ذهب إليه: أن هناك توازنًا في القوى بين كلا الجانبين، وهذا التوازن يضطر كليهما إلى الكف عن الاعتداد بالأسلحة، وأن يكون اعتدادهما بالأفكار؛ ففي البلاد المتخلفة التي ما زالت حتى الآن ضمن مناطق النفوذ، لم يعد السلاح أو عائدات البترول بكافيين في تدعيم هذا النفوذ، وإنما هي الأفكار وحدها.
فالعالم قد دخل إذن في مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار، وفي مرحلة كهذه يتحتم على البلاد العربية والإسلامية أن تولي أكبر قدر من اهتهامها لمشكلة أفكارها، وخاصة تلك البلاد التي لا تملك كثيرًا من أدوات القوة المادية.
_________
(١) أنظر كتابنا (شروط النهظة)، فصل (من التكديس إلى البناء)
1 / 15
وعليه فلو افرتضنا أن موضوع ثقافة معينة يرجع إلى مشكلة الأفكار فحسب، فإن ذلك كاف بوصفه مسوغًا نضعه بين يدي هذه الدراسة.
وربما وجد القارئ جوانب أخرى لم يكن يتوقعها في هذه الدراسة التي لا تمس السياسة من قريب أو بعيد، بيد أننا إذا ما قررنا أن لمشكلة الثقافة نوعيتها التاريخية والاجتماعية في حدود الزمان والمكان، وأن لأية ثقافة بحكم هذه النوعية وجودها الخاص الذي يرسم حدودها على الخريطة، إذا ما قررنا ذلك فمن العسير علينا ألا نربط هذه الملاحظة النظرية بالمشكلات السياسية التي تثير اهتمام العالم عامة، والبلاد التي تخصها تلك المشكلات خاصة.
فإذا ما أخذنا مثلًا موقف البلاد التي اتبعت في سياستها الدولية روح مؤتمر باندونج المتمثلة في (الحياد الإيجابي)، فمن الطبيعي أن نتصور أن هذه البلاد ينبغي أن تفكر في اقتصادها طبقًا لهذه الخطة السلوكية، بل أن تفكر في سياستها أيضًا بذلك الروح.
ولكن أليس من الطبيعي أن تتجه البلاد إلى أن تفكر في ثقافتها بالطريقة نفسها، أعني بذلك أن تكون ثقافتها متجاوبة مع فكرة (الحياد الإيجابي)؟!.
ومع ذلك فربما كان هذا السؤال عاريًا عن المنطق أو خياليًا لو أنه كان متعارضًا- في النظرة الأولى- مع العناصر الذاتية في المشكلة. ولكن الوضع الاجتماعي في البلاد الإفريقية الآسيوية- ومن بينها البلاد العربية الإسلامية- يحتوي في مرحلة تطورها الراهنة كثيرًا من العناصر النوعية، التي تتفق مع مقتضيات فكرة (الحياد الإيجابي) بحكم ضرورة داخلية، فهناك إذن ثقافة تتفق مع هذا الاتجاه السياسي بصورة طبيعية، وربما استطاع القارئ أن يلحظ ذلك ضمنًا في ثنايا هذا العرض.
فمشكلة الثقافة في البلاد العربية والإسلامية تتصل في الحقيقة اليوم بجوانب مختلفة، جعلتني أرى من المفيد في هذه الدراسة بعد موضوعها الرئيسي الذي يحمل عنوانًا (تحليل نفسي للثقافة)، أن أضيف بعض الأفكار التي نشرت من قبل في دراسات أخرى، فتجمع هنا تحت عنوان (تركيب نفسي للثقافة) وتحت عنوان (تعايش الثقافات). فهذد الإضافة تمليها طبيعة المنهج ووحدة الموضوع.
القاهرة: ٢٦/ ٢/ ١٩٥٩م
م. ب
1 / 16
الفصل الأول
تحليل نفسي للثقافة
1 / 17
أوّليات
ما هي الثقافة؟
ليس في مقدورنا اليوم أن نعالج موضوعًا كهذا، دون أن نجد أنفسنا- في حالة التطور الراهنة في العالم العربي - أمام مشكلة لغوية وتاريخية.
فمن أين جاءت كلمة (ثقافة) ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟
إن أول فكرة تخطر لنا للإجابة عن سؤال كهذا هي أن نستشير قاموسًا، ولكن القواميس الموجودة بين أيدينا لا تذكر هذه الكلمة إلا لمامًا، سواء في ذلك القديمة والحديثة. فلسان العرب يقول في المجلد العاشر: «يقال ثقف الشيء وهو سرعة التعلم»، ويقول ابن دريد: «ثقفت الشيء حذقته»، وفي حديث الهجرة: «هو غلام شاب لقن ثقف» [رواه البخاري]، أي ذو فطنة وذكاء، والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه.
والعلامة فريد وجدي يقول في (دائرة معارف القرن العشرين/ المجلد الثاني): " ثقِف يثقف ثقافة: فطن وحذق، وثقف العلم في أسرع مدة أي أسرع أخذه، وثقفه يثقفه ثقفًا: غلبه في الحذق، والثَّقيف: الحاذق الفطن».
والقواميس الحديثة تقول: «ثقف ثقافة: صار حاذقًا خفيفًا، وثقف الكلام فهمه بسرعة».
وفي هذه النصوص من التشابه ما يدعونا إلى أن نعدها نسخًا مكررة نقل بعضها عن بعض.
1 / 19
فإذا ما رجعنا قليلًا في مجال هذا البحث لم نجد أثرًا لتلك الكلمة في لغة ابن خلدون (١)، الذي يعد على أية حال المرجع الأول لعلم الاجتماع العربي في العصر الوسيط. ولو ردنا في رجوعنا إلى ما قبل ذلك لم نجد الكلمة مستعملة في العصر الأموي والعباسي، إذ لا أثر لها في اللغة الأدبية أو في اللغة الرسمية والإدارية لذلك العصر، فتاريخ هذه الحقبة لم يرو وجود لائحة إدارية خاصة بمنظمة معينة أو عمل من الأعمال يتصل بالثقافة، ولم يحدث أن وقفت عين من الأعيان لفائدة عمل أو منظمة من هذا القبيل.
ومع ذلك فإن تاريخ هذه الحقبة، يدل على أن الثقافة العربيةكانت آنئذ في قمة ازدهارها.
لعل في هذا الموقف نوعًا من التعارض، ولكنه تعارض لا يتصل بمسألة لغوية فحسب، فإن الاختلاف بين الموقفين أكثر عمقًا، إذ هو الفرق بين واقع اجتماعي وبين درجة تقبله بوصفه فكرة في مجال شعورنا، أي عنصرًا من عناصر الإدراك مندمج في بنائنا العقلي.
وهذا الواقع فيه من الدقة ما يحتاج معه إلى مزيد من الإيضاح، فالحق أن المشكلة هي مشكلة ما جرينا عليه في تحديد معاني الأشياء بصفة عامة.
كيف يتكون تعريف معين في عقولنا؟
إن من الواجب أن نعود إلى العناصر النفسية الاجتماعية للمشكلة.
فـ (يونج) يعرف (الذات) أو (الأنا) في صورة أخّاذة فيقول: «الأنا هي جزيرة صغيرة في مجال غير محدود يمثل اللاشعور».
_________
(١) وردت الكلمة مرتين أو ثلاثًا في المقدمة بصورة أدبية بوصفها مفردة لغوية دون الوقوف عند كلمة (ثقافة) بوصفها مفهومًا وتقديرها ظاهرة اجتماعية.
1 / 20
ولا بد أن نضيف إلى هذه الصورة عنصرًا آخر كيما تصبح صالحة لما نحن بصدده، فالجزيرة الصغيرة تحمل منارًا يغمر بضوئه امتداد المياه حوله، فالمنار هو شعورنا، والساحة التي يغمرها الضوء هي مجال شعورنا، وهي تتراءى في صورة من الضوء تتفاوت في مدى امتدادها حول الجزيرة، فكل ما يقع خارج هذا المجال يغمره الظلام، وهو داخل في مجال اللاشعور بالنسبة لعالم ذواتنا الباطن، كما يتصل بمجال (الشيء الممكن) بالنسبة للعالم الخارجي، عالم الشيء الذي لم تتحقق شخصيته بعد أمام شعورنا، أي الشيء الذي هو مجرد (حضور)، لا يتمتع بكيان مقرر.
إن (الشيء) لا يعد موجودًا بالنسبة لشعورنا إلا عندما يلد فكرة تصبح برهانًا على وجوده في عقلنا؛ فكل ما ينضوي داخليًا أو خارجيًا في منطقة الضوء التي تحوط جزيرتنا يصبح (فكرة) تدخل إلى مجال معرفتنا، أي إلى شعورنا. ولكنه عندما يتم دخوله في هذه المنطقة من الضوء يصبح حضوره وجودًا حقيقيًا، وحينئذ تنكشف شخصيته ويوضع بالتالي اسم يطلق عليه.
تلك هي عملية الإدراك عندما نريد أن نفهم الأشياء من الوجهة النفسية، أعني من وجهة نظر الفرد. أما إذا أردنا أن نتناولها من وجهة اجتماعية فسيكون علينا أن نحدث تفرقة بين الواقع الاجتماعي الذي يحدد أو يصنف، وبين الواقع الاجتماعي المدرك المتحقق، أي الواقع المترجم إلى مفهوم، المدرك على أنه موضوع للدراسة والمعرفة.
إن لكلتا العمليتين وجوهًا متماثلة: فتحقيق الشيء يتم بواسطة الإدراك الشعوري ثم يترجم إلى (اسم). وتحقيق الواقع الاجتماعي يتم بواسطة التصنيف ثم يترجم إلى (مفهوم).
فالاسم إذن هو أول تعريف للشيء الذي يدخل في نطاق شعورنا، فهو
1 / 21
تصديق على وجوده، وهو القوة التي تستخرجه من الفوضى المبهمة فتسجله في عقلنا في صورة حقيقية محددة.
والاسم بهذا الوضع يعد إذن أول درجة من درجات المعرفة، وأول خطوة نخطوها نحو العلم. فإذا سميتَ (شيئًا) فمعنى ذلك أنك تستخرج منه فكرة معينة، أي أنك تؤدي أول عمل من أعمال المعرفة بالنسبة لذلك الشيء، وهو العمل الذي يغير «حضوره» المجرد في ذلك الامتداد الهائل الذي يحوط (الأنا) إلى (وجود) تدركه (الأنا).
ولو أننا قرأنا وصف الحق ﵎ للمشهد الذي يدعو فيه ﷿ آدم إلى تسمية الأشياء بأسمائها في قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة ٢/ ٣١ و٣٢]- فربما أخطأنا فلم ندرك معنى الآية إلا على أنه يصف لنا مشهدًا بسيطًا؛ والأمر على عكس ذلك تمامًا، فينبغي أن نرى هنا في تلك الصورة الرمزية أول عمل جوهري للعقل الإنساني حين يسيطر على الأشياء، وهو يخلع عليها أسماءها، الأمر الذي لم تستطعه الملأئكة.
عملية التعريف:
ومع ذلك فهذا العمل الأول لا يعطينا سوى معرفة تجريبية، أعني معرفة تدخل في مفهوم التجربة، فإذا ما نظمت هذه المعرفة تبعًا لقواعد الفكر أخذت صفة العلم بسبب هذه القواعد.
فهناك إذن عملية تعريف تبدأ عندما يطلق الاسم على الشيء، وتنمو كلما أخذ الشيء معنى مركبًا، أي أنه بعد أن يصبح اسمًا يصبح فكرةً ثم مفهومًا .. إلخ.
1 / 22
ولقد اتبعت فكرة الزمن- مثلًا- هذا السياق، فإن الزمن لم يكن شيئًا مذكورًا، أو بمعنى أصح كان شيئًا لا عنوان له طالما لم يخترع الإنسان كلمة يطلقها عليه.
ثم أخذ اسمًا حقق وجوده، فانتقل بذلك من مرحلة (الحضور) إلى مرحلة (الوجود) المعبر عنه بكلمة، ولكنه في ظل هذه الكلمة لم يكن يعني شيئًا كبيرًا، بل كان فقط فكرة غامضة عن المدة الزمنية، تلك معرفة تجريبية.
لكن هذه الفكرة سوف تنمو في عقل الإنسان كما نظّم نشاطه في نطاق المدة، فكان من نتيجة تقسيم العمل في المجال الاجتماعي تقسيم الزمن في المجال النفسي، ومنذ ذلك الحين أصبح الزمن كمية تخضع للقياس، وإن كان هذا القياس ما زال في أول الطريق؛ فالعمل يقدر باليوم لا بالساعة لسبب بسيط، هو أن وحدة الزمن لم يتم تحديدها بعد، فحديث القدماء عن الساعة لم يكن حديثًا عن كمية محددة من الزمان، فكان على الإنسانية أن تنتظر الحضارة العربية لترى الزمان يقاس في النهاية قياسًا رياضيًا، لأن أحد الفلكيين المسلمين بالغرب وهو (أبو الحسن المراكشي) قد اخترع وحدته حين حدد (الساعات المتساوية)، أعني حين قسم مدة دوران الأرض أربعة وعشرين جزءًا متساويًا.
فمنذ ذلك الحين انتقل تحديد الزمن من المرحلة التجريبية إلى المرحلة العلمية.
ومنذ ذلك الحين أيضًا نمت فكرة الزمن حتى انتهت إلى (تايلور)، الذي جعل منها قاعدة جوهرية في التنظيم الصناعي في القرن التاسع عشر.
وها نحن أولاء اليوم نرى أن تلك القاعدة تسيطر على جميع نواحي النشاط الإنساني، حتى لنراها قد صارت جزءًا من مفهوم (الثقافة) في القرن العشرين، باعتبارها عنصرًا جوهريًا في بناء (أنا) الفرد في المجتمع الحديث.
1 / 23