وما علمت - أصلحك الله - أن خليفة من الخلفاء أو ملكا من الملوك أو وزيرا من الوزراء تقدم إلى الناس بمثل ما تتقدم به إليهم، وما علمت أن الناس استمعوا لمثل ذلك أو أذعنوا له أو أطاعوه، وقد هم زياد ببعض ذلك فأوعد، وغلا في الوعيد، وأنذر، وأسرف في النذير، وطلب إلى الناس أن يكفوا عنه أيديهم وألسنتهم؛ ليكف عنهم يده ولسانه، فصانعه من صانعه، ونصح له من نصح، وعارضه أبو بلال مرداس، فقال له: إنك تحدثنا بغير ما يحدثنا به الله عز وجل، تزعم أنك ستأخذ البريء بذنب المسيء، والله - عز وجل - يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
قال له أبو بلال ذلك، في جماعة المسلمين، والمسجد بهم ممتلئ، وزياد على منبره لم يفارقه، وعليه شارة الملك، ومن حوله قوة السلطان، ثم انصرف أبو بلال مرداس، لم ينله من زياد كيد، ولم يمسسه منه أذى. وقد كان لزياد ما علمت من القوة والبأس ومن العنف والبطش، ومن اليد التي لم تكن تعرف القصر، والسهام التي لم تكن تعرف الخطأ، وإنما تسدد فتصيب، وترمي فتصمي.
جعلت فداك، وما زال الناس يعدون على عبد الملك قوله حين جد الجد، وعظم الخطب، وانتشر الفساد في الأطراف، وتفرق الناس شيعا، وأصبح في كل جزيرة أمير ومنبر: «من قال لنا اتقوا الله ضربنا عنقه»، يرون أنه تحدث بما لم يكن له أن يتحدث به، وتكثر بما لم يكن يستطيع أن يبلغ من الأمر، وما أكثر ما قال الناس له اتق الله، وما أقل ما ضرب من الأعناق. وما أعرف أنه عاقب على مشورة أو عذب في معارضة، وإنما عاقب من شق عصا المسلمين، وخلع يدا من طاعة، وفرق كلمة الأمة.
جعلت فداك، ولو أن هذا الأمر صدر عن أمير المؤمنين - أيده الله - لما رضينا ذلك له، ولا قبلنا ذلك منه، وهو خليفة رسول الله، وابن عمه، والقائم على سلطان المسلمين أعطوه بيعته عن رضى، ودانوا له بالطاعة عن ثقة، فكيف بك، وقد وليت الوزارة اليوم، وقد يعزلك عنها أمير المؤمنين غدا. وأنت لا تمضي ما تمضي من الأمر إلا عن إذنه ورضاه، فكيف بك إذا نلت أحدا بأذى، وكفه عنه أمير المؤمنين ؟ وكيف بك إذا ألقيت أحدا في سجن، وفتح بابه له أمير المؤمنين؟ وكيف بك إذا تقدمت في تعذيب هذا الشاعر أو هذا الكاتب؟ ثم سعى السعاة إلى أمير المؤمنين بأنك تتهم بالظن، وتأخذ بالريبة، وتعاقب في غير تثبت، وعفو أمير المؤمنين أوسع من سخطتك، ورحمة أمير المؤمنين أوسع من نقمتك، فماذا يقول الناس إن سخطت أنت، ورضي هو، وعاقبت أنت، وعفا هو؟! وعفو أمير المؤمنين لا يصدر عنه إلا مصاحبا بالبر والنعمة، فماذا يقول الناس إذا عاقبت أنت، وعفا أمير المؤمنين؟ ثم أتبع عفوه بالنعمة والجائزة، وبالنائل والنافلة؛ ألست خليقا إذن أن تطلق ألسنة الناس فيك بما لا تحب، وأن تعرض سلطانك للضعف، وعزك للسخرية؟!
جعلت فداك، إن خير الوزراء من عرف لنفسه قدرها، ولم يجاوز بسلطانه حده، ولم يرفع نفسه إلى أعلى من الموضع الذي وضعه فيه أمير المؤمنين، ولم يعرض نفسه بذلك لإنكار المنكر، واحتجاج المحتج. واحذر - جعلت فداك - أن يرقى الشك فيك إلى قلب الخليفة فيظن بك تجاوز الحد، ويتهمك بأنك تعطي نفسك من السلطان ما لم يعطك، وتخولها من القوة ما لم يخولك. وأمير المؤمنين لم يتخذ الوزراء ليبسطوا على الناس أيديهم بالأذى، وليصبوا عليهم النقمة صبا، وإنما اتخذ الوزراء ليشيعوا في الناس رحمته، ونعمته، وينشروا فيهم بره، وعدله، ويرفعوا فيهم ذكره بالخير، ويطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه، ويملئوا قلوبهم بالحب له. والحب لا ينال بالقسوة، والنصح لا يكتسب بالظلم، وليست إشاعة النقمة، وسيلة إلى اكتساب الود، ولا إلى اصطفاء النفوس. فانظر - أصلحك الله - في أمرك، وانصح لنفسك، ولأمير المؤمنين. وانظر بعد ذلك فيما بينك وبين الله من حساب تستطيع أن تجعله يسيرا إن شئت، وتستطيع أن تجعله عسيرا إن أحببت.
واعلم - جعلت فداك - أن الزمان لا يثبت، وإنما هو منطلق دائما، وأن الأيام لا تستقر، وإنما هو نهار يتبعه نهار، والأحداث في أثناء ذلك تحدث، والخطوب في أثناء ذلك تلم، والنوائب في أثناء ذلك تنوب، والوزراء يولون ويعزلون، والحكام ينصبون ويصرفون، والدنيا تقبل وتدبر، والحوادث تحلو وتمر، والرجل اللبيب من اعتبر بهذا كله فلم يسرف على نفسه، ولم يسرف على الناس، ولم يقدم بين يديه من العمل ما يسوءه في الدنيا، ويخزيه في الآخرة. وقد أطلقت لسانك - جعلت فداك - في ابن أبي دؤاد، وتقدمت إلى عمالك في أن يقولوا فيه مثل ما تقول، وفي أن يبثوا حوله الأرصاد، وينثروا عليه، وعلى أصحابه العيون، ويرفعوا إليك من أمره ما ظهر، وما خفي، وينقلوا إليك من حديثه وحديث أصحابه ما قالوا، وما لم يقولوا. فكيف بك إذا دارت الدائرة، وألمت الملمة، ودعي ابن أبي دؤاد إلى الوزارة، وصرفت أنت عنها، وأمر فيك ابن أبي دؤاد غدا بمثل ما تأمر فيه أنت اليوم؟!
جعلت فداك، إن كرام الناس - وأنت منهم - يرفعون أنفسهم عن الصغائر، وينزهونها عن آثام القول والعمل، ويكبرونها عن تتبع الهفوات، والتماس العثرات، ويصمون آذانهم عن عيب العائبين، ولوم اللائمين. ولعلهم أحيانا أن يسمعوا للوم، والعيب أكثر مما يسمعون للحمد، والثناء، يجدون في اللوم والعيب ما يصلحون به أنفسهم، وينقون به ضمائرهم، ويقومون به أعمالهم، ويجدون في الحمد والثناء تملقا يدفع إلى الغرور، ويغري بالصلف، ويخدع عما قد يكون في النفس من خصال السوء.
وإني لأحب لك أن تلام فتعفو، وأن تعاب فتصفح؛ أكثر مما أحب لك أن تمدح فتعطي، وأن يثنى عليك فتكافئ على حسن الثناء.
وأنت بعد ذلك لا تستطيع أن تعقل الألسنة المنطلقة، ولا أن تحطم الأقلام المشرعة، ولا أن تمنع القلوب من الشعور، والعقول من التفكير، فدع الناس، وما يشاءون أن يقولوا فيك من الخير والشر، ومن الحمد والذم، وانتفع بذلك كله في إصلاح نفسك، وفي تجنب ما يشينك إلى ما يزينك.
অজানা পৃষ্ঠা