التذكير من جملة الفقه وهو لا يقع إلا من أولي الفطنة والتمييز والخبرة بما يوجبه الحال ويرجى أن ينجع فيمن يذكره المقدار الذي لا يستكثر، فيمل منه، أو يتضجر، وبالوقت الذي يكون التذكير فيه أنفع، ومن قلوب السامعين أوقع، وينبوع الذكر الذي يكون إلى القبول أسرع، وفي القلوب أنجع. وإذا تؤمل هذا المقام وما جرى فيه من الكلام، وجد اشبه المقامات بالقضاء بين المتخاصمين، والحكم بين المتنازعين التذكير، لأن المذكر يفصل بين دواعي النفس، فيميز المردية منها عن المنجية، ويلخص الموبقة من المعتقة، ويرجح دواعي العقل على دواعي الهوى والطبع، ويلزم السامعين أن يقفوا عند الحدود المحدودة لهم ولا يعتدوها، ويلزموا المثل الممثلة لهم ولا يتخطوها، كما أن القاضي يفصل بين المحق في دعواه والمبطل الراكب هواه. ويميز البينات عن دواحض الشبهات. ويرجح من أصنافها ما يجب ترجيحه، ويقدم منها ما يحق تقديمه، ويلزم المتحاكمين إليه أن ينتهوا إلى ما يوجبه الحكم لهم، ولا يرضى ببغي أن ظهر له منهم. فإن كان علم القضاء فقها كما يحتاج القاضي إليه من الفهم والفطنة والذكاء والخبرة، فعلم التذكير مثله، لأنه في هذا المعنى شكله. وبعد هذا فكيف ينفر الناس عن علم القصص وهو من براهين النبوة وأعلام الرسالة، إذ يقول الله ﷿: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين﴾. هذا وقد سمى الله ﷿ القرآن قصصا، فقال: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾. وقال: ﴿إن هذا لهم القصص الحق﴾. وإنما الاقتصاص إذا الخبر على وجهه، فسواء كان المخبر عنه أنباء الأولين أو الحكام أو أحكام ما شرع للآخرين، فكل ذلك قصص. والفقه محتاج فيهما إليه لأن به يدرك مقاصد الاقتصاص، وبإدراكها يتميز العام عن الخاص، وليست بنا من تعظيم اسم الفقه والتنويه باسم الرأي وحسه، ولا ذاك بالذي يلحقنا منه مساءة، فإنا بحمد الله من أهل ذلك كله، وإنا لنحن أحكمنا معاقد الرأي والنظر، بعد أن أوضحنا معالم النقل والخبر، فأبينا على من خالفنا القياس، وأوثقنا منه القواعد والأساس، وفصلنا أقسامه
1 / 14