وفيها تقابل جيش مصر بجموع المغول والتتر، فحطم تلك الجموع، وكانت هذه أول مرة انكسر فيها هؤلاء منذ أن دخلوا أقطار العالم الإسلامي، وضربوا العراق والجزيرة والديار العربية والسورية، فكانت من الوقائع الحاسمة في التاريخ.
والبطولة التي تجلت فيها مرت في ثلاثة أدوار: في الدور الأول كانت بطولة التغلب على النزوع إلى التفرق، بطولة جمع الكلمة مع تقليد الحكم والزعامة للرجل الذي يستطيع مواجهة الشر والخطر، وفي الدور الثاني: كانت بطولة القرار العظيم؛ قرار الخروج إلى مواجهة البرابرة الزاحفين، وعدم انتظارهم، وفي أرض الوطن، وبطولة الخروج ينبغي أن ننوه بخطورتها وذلك لسببين؛ أولا: لأن المغول كانوا منذ خروجهم من بلادهم يعتمدون أكثر ما يعتمدون على نشر الرعب، وتحطيم أي عزم على المقاومة، وقد بلغ من إرهابهم أن الأسرى كانوا يستسلمون وهم كثيرون لتتري واحد، بل وقيل: إنهم كانوا ينتظرون دورهم هادئين مطمئنين حتى يفرغ التتري لقتلهم صبرا، وهم في ذلك كالضواري يقال إنها تسحر فريستها، فلا تحاول فرارا أو مقاومة، فكان الخروج لهم بطولة الجرأة، وكان أيضا بطولة الحكمة، ذلك أن البقاء في مصر انتظارا لقدومهم كان من شأنه أن يؤدي إلى تفرق الكلمة بعد أن اجتمعت، وإلى نشر روح التخاذل، وإلى التعلق بالآمال الكاذبة، ورجاء حدوث المعجزات التي تغني الناس عن البذل والتضحية.
وفي الدور الثالث: كانت البطولة التي بدت في القتال، في الواقعة نفسها، وللجميع أن يفخروا بما كان منهم، ولكن الفخر الأكبر لقطز نفسه.
ما الذي أحضر تلك الجموع من أقصى آسيا شرقا إلى أدناها لمصر غربا؟ ما الذي دفعها إلى التحطيم والتخريب، وإلى تمزيق الدول الإسلامية دولة دولة، هل نصدق ما قاله هولاكو في رسالته لسلطان مصر عن نفسه وعن قومه، وعما تصدى هو وهم لتحقيقه؟ قال: «إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به غضبه ... نحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى ... فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد ... فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع ... فإنكم أكلتم الحرام ... وخنتم العهود والأيمان ... ونشأ فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة، والأحكام المدبرة» ... إلى آخره، هذا مثال مما كان يكتبه على لسانهم رجال الأقلام المسلمين الذين سخروهم لخدمتهم، ويصعب أن نصدق أنهم آمنوا بأن لهم رسالة من نوع ما وصفوا، وكل ما كانوا يرمون إليه هو أن يلقوا في روع الناس أن لا خلاص منهم أبدا، كما يصعب أن نصدق أن النسطورية التي انتشرت في بعض قبائلهم وشعوبهم، ودان لها بعض كبرائهم (فكان كتبوغا قائدهم في عين جالوت نسطوريا، وكانت إحدى زوجات هولاكو نسطورية أيضا) كانت النسطورية هي المحرك لهم نحو غزو بلاد الإسلام، وتخريبها، وإذلال أهلها.
والأصدق أن نتصور أنهم استغلوا النسطورية في استمالة من استمالوا إليهم من الطوائف غير الإسلامية، وذلك للتفرقة، وجعل الكل يتجه إليهم للاحتماء بهم، ويصعب أخيرا أن نصدق أنهم قدموا غربا استجابة لدعوات التحالف التي وجهها إليهم بعض ملوك الفرنجة ورؤسائها الدينيين، والذي نعرفه أنهم استقبلوا سفراء الفرنجة واستمعوا إليهم، ولكنهم طلبوا إليهم أن يدخلوا في طاعتهم.
والأصدق من كل هذا هو الأبسط، أن تلك الجموع التي زحفت في أيام جنكيز خان، ثم زحفت من جديد في أيام أحفاده هولاكو وغيره، استجابت في زحفها لحاجات المجتمعات البدوية الوحشية، وأن الزحف نفسه نظمه بيت زعامة، هو بيت جنكيز خان، عرف رجاله كيف يقيمون على أسس بدوية ملكا يستخدمون في تنظيمه ما استخلصوه من نظم الصين والدول الإسلامية، ويستخدمون في إدارته من جمعوا من صينيين ومسلمين ومتنصرة من قومهم ومن الفرنجة.
وكانت سياستهم تقضي هدم السلطات العليا الدينية، من نوع الخلافة العباسية أو الرياسية الإسماعيلية، وتحطيم الملوك والأمراء الذين يرفضون الإذعان، وأما بالنسبة للإمارات المسيحية القائمة في دار الإسلام، فمن هذه ما دخل في حمايتهم مثل أرمينية الصغرى حاتم أو حاطوم، ومن هذه من اختار سياسة الحياد، وينطبق هذا بصفة خاصة على ما بأيدي الصليبيين إذ ذاك من مدن الساحل مثل عكا وطرابلس وصيدا وأنطاكية ... إلخ.
وآثر هؤلاء تلك الخطة؛ لأنهم كانوا أضعف من أن يتخذوا غيرها، ولأنهم أخذوا يدركون إذ ذاك معنى اشتراكهم والمسلمين في حضارة واحدة، وأن قدوم الآسيويين ينذر بخراب تلك الحضارة، والواقع أن صليبي الساحل وأيوبي الداخل كانوا جميعا يرجون أن يتركوا آمنين، والواقع أيضا أن الإمارات الصليبية أخذت تتحول - وقد تركت لنفسها - إلى جاليات تجارية دينية، أي أخذت تتخذ الوضع الذي انتقلت به إلى الأزمنة الحديثة، وانتشر المغول في الديار السورية يخربون ويرهبون، وأنذروا السلطة المصرية وحذروها، ثم توقعوا أن يفعل الإرهاب فعله فتسلم، والإرهاب من أدوات حربهم، فكأن المتنبي كان ينظر إليهم حين قال:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي
فكان القتال قبل التلاقي
অজানা পৃষ্ঠা