أعد الغزالي ليتولى التدريس في مدرسة من المدارس الجامعية التي اهتمت الدولة السلجوقية بإنشائها؛ للمحافظة على سلامة الاعتقاد، وتولى التدريس أستاذا لامعا يختلف إليه من الطلاب ثلاثمائة طالب، ويرضى عنه أولو الأمر من أصحاب السلطان، ولكنه أخذ لا يرضى عن نفسه، قال: لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق الدنيوية، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم؛ فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة، أصمم على الخروج من بغداد، أقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ أثقل الله علي لساني حتى أعتقل عن التدريس، وأورثت العقلة في اللسان حزنا في القلب وضعفا في القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر من المهم، ثم لما أحسست بعجزي التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب.
وتلطف الغزالي بلطائف الحيل في الخروج من بغداد، ودخل الشام وأقام بها قريبا من سنتين، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، واعتكف مدة في مسجد دمشق، ورحل منها إلى بيت المقدس، ثم تحركت فيه داعية الحج فأداه، وخفت حدة الأزمة، واستجاب إلى دعوة عياله ودعوة وطنه، وكان يحب أن تصفو له الخلوة، ولكنها كانت لا تصفو له إلا في أوقات متفرقة، ولكنه مع ذلك لا يقطع طمعه منها، تدفعه عنها العوائق، ولكنه يعود إليها، ودام على ذلك مقدار عشر سنين.
وقد كتب في خلالها كثيرا من كتبه، كما كتب فيها قسما كبيرا من أهم كتبه إطلاقا: إحياء علوم الدين، والكتاب رسم كامل شامل للحياة الكاملة المتوازنة التي يصورها الغزالي، وهو ثمرة اجتهاده ومجاهدته، جاهد نفسه فقدر على سياستها وضبطها وحصلت له بذلك الحكمة التي يسرت له التمييز بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، وتكونت له شخصية متكاملة على أتم ما يكون التكامل، يسعى ليعطي كل ذي حق حقه، راعى اختلاف الخلق والأديان والملل، وأحب أن يعرف ما لدى كل حزب، فلم يعتمد على ما يقال عنه، بل توغل وتقحم وتفحص بنفسه، وقد قال في ذلك: لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعمالهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وبناء على ذلك لم يغادر باطنيا إلا وأحب أن يطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأراد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وحرص على العثور على صوفيته ، ولا متعبدا إلا وترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وتجسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
ولم يكتف بالتوغل والتقحم والتفحص، بل انتقل إلى تشييد صرح شامخ على أساس من العلم الذي يوثق به، وهو العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، وعلى أساس من العمل - والعمل عنده اجتماعي الغاية دائما - لا يتم إلا في الحياة الاجتماعية، ففيها وحدها يمكن التعليم والتعلم، النفع والانتفاع، التأدب والتأديب، الاستئناف والإيناس، نيل الثواب وإنالته، التواضع والتجارب.
والفضيلة عنده وسط بين الإفراط والتفريط، فالشجاعة مثلا وسط بين الجبن والتهور، فالكمال في الاعتدال، ومعيار الاعتدال العقل والشرع معا، والخير ليس ما يقرره العقل وحده، بل ما يقرره العقل المتأدب بالشرع، وبعد؛ فهذا قليل في موضوع خطير؛ حجة الإسلام الغزالي وميزان العمل.
شيخ الإسلام ابن تيمية
رسالات الإصلاح التي انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، في الشرق وفي الغرب في الزمن الحديث، يمكن إرجاعها لشيخ الإسلام ابن تيمية. إمام القرنين السابع والثامن الهجريين، فهو - بحق - مؤسس حركات التجديد الإسلامي الحديث، ولا يصعب على الباحث أن يجد سلسلة الأستاذ متصلة بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، صاحب دعوة الإصلاح المشهورة في الجزيرة العربية، أساس الإمارة ثم المملكة العربية السعودية، كما لا يصعب عليه أيضا أن يصل بين ابن تيمية وبين الدعوة التي اضطلع بها في أيامنا القريبة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهذا كله على النحو الذي سيبين في هذا الحديث.
وابن تيمية كان من ذلك الطراز من الأئمة الذين قيل عنهم: «هم قوم خشن، تقلصت أخلاقهم عن المغالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل، وعرت نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل وقفوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك، قالوا: الله أعلم بما فيها من خشية بارئها.»
ولد تقي الدين أبو العباس أحمد في حراز في إحدى وستين وستمائة، ورحل به والداه عنها عند قدوم التتار - وكانوا إذ ذاك يعيثون في الأقطار الإسلامية فسادا - هم في شرقيها، والصليبيون والغلاة من أصحاب الفرق في ربوع الشام، ولم يكن في العالم الإسلامي يومذاك مكان يصلح أن يولي المسلمون وجوههم نحوه سوى مصر والشام يجتمعان في ظل سلطان واحد، ويحيا فيهما وحدهما التراث العربي.
ففي الشرق سلطان المغول، وفي الغرب كان قد قضي على البقية الباقية من سلطان المسلمين في الأندلس.
অজানা পৃষ্ঠা