وبهذه الذخيرة المعنوية أمكن للحسن أن يواجه الظروف القاسية التي واجهت الرجال في عصره: أيستطيع الرجل أن يصدر أحكاما على رجال كانوا من خيرة الرجال، من الصحابة الأجلاء، كان الحسن لا يتهرب من الحكم، ولكن كانت العبرة عنده في الأعمال طمأنينة الجماعة وراحة القلوب، وبذلك رفض أن يفعل فعل الخوارج، فيحمل السلاح ولو كان حمل السلاح لأجل تحقيق العدالة، أو أن يفعل فعل من خرج على الأمويين لغصبهم حق من هم أولى منهم بالخلافة، فتأليف القلوب عنده وجمعها على الحق لا يقتضي حتما العمل السياسي المشترك وما يماثله.
والشهادة عند الحسن تنال فيما به تنال، في الجهاد الأكبر، مجاهدة النفس، وهو بهذا يؤكد معنيين: يؤكد أولا وجوب إبلاغ الفرد كماله الخلقي بمجاهدته نفسه، ويؤكد ثانيا الصلات بين الفرد وبين الجماعة، فأما المعنى الأول فالطريق إليه واضحة المعالم: أداء الفرائض، التحلي بفضائل وبآداب تهذيبية، ورياضات روحية، وبمناسك خيرية، ومن هذه كلها يتكون أدب الدين، وأما المعنى الثاني: الصلات بين الفرد والجماعة، فيجمعه عند الحسن فكرة الصحبة بين أفراد الجماعة، وهي تتسع لتشمل لا الأحياء فحسب، ولكن لتشمل الأحياء والأموات والأجيال المتعاقبة، واتسعت عند بعض المتصوفة لتشمل أجيال الإنسانية جميعا.
وهكذا وضع الحسن البصري راية أهل السنة والجماعة، وهي راية مرفوعة دائما في هذه الأمة ، بالقوة أو بالفعل؟
أبو العلاء المعري ومعرفة الإنسان بالإنسان
أبو العلاء المعري يرى نفسه في ثلاثة سجون؛ لفقده ناظريه، ولزومه بيته، ولكون النفس في الجسم الخبيث كما قال، ومن الناس من يظن أنه كان في سجن رابع من أساليب التعبير المتكلفة التي صنعها لمنظومه ومنثوره.
وإلى هذه السجون نضيف سجنا آخر ليس لأبي العلاء، ولكن للفكر العربي عن أبي العلاء، وما أضيق هذا الفكر وما أتفهه في كل ما يتعلق بأبي العلاء ... رجل فذ، رجل موهوب حصل كل ما يستطيع زمانه أن يعلمه، وعمل على أن يعرف الإنسان على أن يصل إلى كنه الظاهرة الإنسانية، ظاهرة الإنسان في هذا الكوكب وفي هذا الكون، ومحاولته المعرفة يعبر عنها أولا فأول - إن صح القول - كالإنسان يفكر بصوت مسموع، رجل هذا شأنه وهذا جده وهذا جهاده، فماذا كان من أمره؟
كان هم النقاد الأقدمين التنقيب عن سرقاته وعن سرقات غيره منه، وهذا ضرب من النقد أراه مما أفسد، وأراه مما صرف الناس عما هو أجدى.
وكان هم اللغويين أن يتخذوا من منظوم أبي العلاء ومنثوره مادة نحوية صرفية، أو مادة كلامية، وهو ضرب من النقد نافع دون شك، بشرط أن يفهم على أنه أداة، على أنه وسيلة للتحقيق من المعنى الذي أراده الشاعر.
وكان هم المؤرخين والمترجمين مقصورا على التحقيق من كفره أو من إيمانه.
وهذا ولا شك أمر له خطورته وله ضرورته، ولكن بشرط أن يتسع البحث لبيان علاقات فكر أبي العلاء بصنوف التفكير الكلامية والفلسفية والتصوفية.
অজানা পৃষ্ঠা