وقد تهيأ للحسن البصري أن يكون الرجل الذي كان له في عصره هذا الموقف بحكم ظروف وأسباب، كان من الموالي، وكان من التابعين، وكان من أهل البصرة، وعاش في عصر الفتن الكبرى، سبي أبوه إبان الفتوح العظمى من ميسان إلى المدينة المنورة، وأصبح مولى لزيد بن ثابت الأنصاري من علماء الصحابة الستة أو السبعة المشهورين، وتزوج المولى من أمة لأم سلمة، إحدى أمهات المؤمنين، فأنجبا الحسن في السنة الحادية والعشرين من الهجرة، وشب في وادي القرى، ثم سكن البصرة، وعرفه الناس سيدا من سادات التابعين، أدرك سبعين رجلا ممن شهدوا بدرا، وعرفوه ورعا تقيا قوي الخلق فصيحا، اعترض على استخلاف معاوية ابنه يزيد، وأنكر على الحجاج وعلى عبد الملك بعض أعمالهما، كان في الخطابة ندا للحجاج وراوية ثبتا للحديث، قاصا من طراز غير طراز قصاص ذلك الزمان، يجلس في آخر المسجد بالبصرة وحوله الناس يسألونه في الفقه، وفي حوادث الفتن التي كانت في عهده، ويحدثهم بما صح عنده من حديث، ويقص عليهم فيعظهم ويذكرهم ويحذرهم وينذرهم.
وكانت الدنيا إذ ذاك في إقبال، وحب الترف قد غزا جميع طبقات المجتمع.
ومسلك الحسن بوأه مكان الصدارة بين الزهاد من التابعين، والعصر - كما قلت - عصر فتن بدأت بمقتل عثمان رضي الله عنه، وقد صدق الجاحظ حين قال في قتل عثمان وفي قاتليه: «لا جرم لقد احتلبوا به، وما لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكل طالبه ... وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا - عليهما السلام - غلا غليانه، وقتل سافحه كدمه رحمة الله عليه.»
ثم ما كان بين الإمام علي - عليه السلام - وبعض كبار الصحابة، وما سفك من دماء في واقعة الجمل، وفي صفين، وفي النهروان، وما صحب هذا كله من خلاف على مبادئ أساسية.
وقد وقع هذا أو أكثره في العراق، يتساءل الناس من المخطئ ومن المصيب؟ وانتقلوا من الحكم عما هو واقع إلى أبحاث دينية في مصير مقترف الكبيرة، في الجبر والاختيار، وما إلى ذلك، وتفرق الناس فرقا؛ خوارج وشيعة ومرجئة وزيدية ومعتزلة، وهذه ستتطور وتتفرع، كل هذا والإضراب منتشر حول المطالبة بحقوق أهل البيت، وحركات ابن الزبير، والمختار، وابن الأشعث، وزياد والحجاج ومن شاكلهما من عمال بني أمية يمعنون في القمع بيد من حديد، وفي تلك الظروف عاش الحسن البصري عاملا على رأب الصدع، باذلا الجهد في جمع القلوب، سأله سائل ما تقول في هذا الطاغية، يعني الحجاج، فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل متشيع لبني أمية: ولا مع أمير المؤمنين، فقال الحسن: ولا ومع أمير المؤمنين، أي أنه اتخذ موقفا مستقلا نجح في النهاية في جعله موقف الكثرة في هذه الأمة.
ولم يعتمد في اتخاذ موقفه المستقل هذا على جاه أو مال أو عصبية، بل كان اعتماده على النفوذ المعنوي الذي اكتسب في مصره وفي عصره، فلم يقدر ذو سلطان على مسه بسوء، ولما توفي عام 110ه خرج أهل البصرة جميعا لتشييعه.
وقد قلت: إن أكثر المبادئ التي حركت الرجال والجماعات في تاريخ الأمة تتصل بعصر الحسن البصري، وبالحسن البصري في عصره.
ولذا قيل: إن أكثر الحركات الدينية في الإسلام يمكن ردها إليه.
وإنا إذ نردها إليه علينا أن نبدأ بتقرير حقيقة طالما غفل عنها الباحثون، فكثيرا ما كان همهم أن يلتمسوا أصولا لجميع المبادئ الفكرية والدينية الإسلامية في الثقافات الأجنبية التي اتصل بها المجتمع الإسلامي، وقد أدى بهم الإغراق في ذلك إلى سوء تصوير وسوء تأويل.
ومما لا شك فيه أن المنبع الذي نهل منه الحسن كان كتاب الله، وأن بذور التصوف التي بذرها كانت قابلة لأن تنمو نموا مستقلا عن المؤثرات الخارجية، وهذه البذور هي التي نما منها علم القلوب والخواطر، وله في الحياة الروحية الإسلامية ما له من مكانة.
অজানা পৃষ্ঠা