إذا احتاج النهار إلى دليل
من أقوالهم: لا فضل للعرب ولا أصالة: ما هم إلا نقلة العلوم، ما هم إلا حملتها لمن أثبتوا فيما بعد أنهم أولى بها منهم، وفي هذا للعرب كل الفضل وكل الأصالة، فنقل العلم يفيد تحصيله ثم درسه ثم نشره، والعلم يتطور بانتقاله في المراحل، فأمر العلم إذن عند العرب جد مختلف عما يصوره «ما هم إلا نقلة العلوم» وإلى هذا ينبغي أن نفهم شيئا آخر، أن المنابع التي نهل منها العرب كانت هندسية فارسية نبطية آرامية مصرية يونانية، وأن العرب خلقوا من هذه العناصر المتباينة مركبا، وكانت أصالتهم الحقيقية في إجراء هذا التركيب، وبه كان انتفاع الإنسانية أتم وفخر العرب أعظم.
ويقول قائلهم أيضا: ولنسلم بفضل العرب، ولكن أكانوا عربا حقا؟ حقيقة كتبوا تصانيفهم بالعربية، ولكن كانت الأصول غير عربية، بل كان فضلهم على علوم اللسان العربي، وعلى الآداب العربية ظاهرا، وهذا صحيح، ولكني أعتبره مفخرة العرب؛ لأنهم نجحوا في أن يلحقوا بأنفسهم الشعوب التي تكون منها في النهاية مجتمعهم، ونجحوا في أن يلحقوهم بمجتمعهم العربي مبتكرين، خالقين، مبدعين، والابتكار والخلق والإبداع لم تكن أبدا صفات الأذلاء؛ والذين اندمجوا من الأعاجم في هذا المجتمع العربي الجديد بدءوا بهذا الاندماج عهدا جديدا، أساسه تراثهم القومي متفاعلا مع تراث غيرهم من شعوب الأمة العربية.
هذا وجه الحق في معنى العربي والمستعرب والأعجمي، وكان علينا أن نثبته، وقد استخدمه شعوبيو اليوم في بناء حركاتهم الطائفية الإقليمية التي أحبوا أن يخفوها تحت طلاء الوطنية، والدعوة الوطنية التي يستخدمها شعوبيو اليوم حق يراد به باطل، حق؛ لأن الاعتزاز بالوطن خير يثمر كل خير، ويراد به الباطل؛ لأن المنادين به يدعون إلى التفرقة، إلى التفتيت، التشتيت، وقد عرف العرب الأقدمون ما للخصائص الإقليمية من قيمة في تبادل المنافع والفوائد الثقافية والفكرية، فلم ينكروا الإقليمية الخاصة، ولكنهم عرفوا كيف ينشئون الصلات التي جعلت من خصائص الأقاليم مصدر قوة وغنى وتكامل؟ أما أن يقوم بين ظهرانينا من يزعم أن أربعة عشر قرنا مرت منذ الفتح العربي على أقاليم الدولة العربية دون أن تؤثر في أبنائها، فسخف القول ظاهر، وأما أن يدعو إلى نقض ما كان، فدعوة لها ما وراءها من حقد وتعصب وبغضاء، وقد تلتقي في صورة الهدم هذه معاول داخلية وأخرى خارجية.
ولندع الكلام عن الهدم فهو كريه، ولنتركه لحديث البناء؛ لنقرر أن تاريخ المجتمع العربي في المغرب، في مصر، في سوريا، في العراق، في فلسطين، في أي قطر من أقطار الدولة العربية، ما هو إلا فصل جديد من فصول تواريخ تلك الأقطار، وأن تاريخها في عهدها العربي لا يفهم دون الرجوع إلى ما سبقه.
وإن تاريخ المجتمع العربي لا يمكن فهمه دون فهم نصيب كل من عناصر هذا المجتمع وطوائفه في بنائه، فالارتباط بينهم - بين الوطنيين والمستوطنين المستعربين والعرب - وثيق، ففي مصر مثلا، كان لأبنائها الأصليين سواء منهم من احتفظ بدينه أو من تحول للإسلام، فضل تعليم الوافدين من العرب كيف يعيشون خير عيشة تلائم الظروف الجديدة؟ من حيث أساليب الزراعة وطرائقها، ونظام حيازة الأرض ومسحها وريها، وما يستتبع هذا كله من نظم مالية وإدارية، ومن حيث الصناعات القائمة، مع استخدام المواد الأولية التي بين أيديهم على أحسن ما يتفق وأحوال البلاد الطبيعية، هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضي الأذواق المتوازنة، نجد ما يماثل هذا إذا ما انتقلنا إلى الأثر الفعلي والفني والروحي في الأدب الشعبي العربي، وفي حياة النسك والزهد.
وجملة القول أن المجتمع العربي التقت فيه العناصر الوافدة والأصلية وتفاعلت وأثمرت، وأن هذا المجتمع مجتمع الجميع، وأن التاريخ العربي ملتقى التواريخ، والشعوبية الجديدة لن تنال منه أكثر مما نالت الشعوبية القديمة، ولن يكون حظ الجديدة إلا حظ القديمة، فلا يعدو أن يكون أثرا من الآثار الأدبية.
المدينة العربية: حكومتها في الماضي والحاضر
منذ مائة عام، أو تزيد تغيرت أوضاع الحكم والإدارة في المدينة العربية تغيرا كبيرا، فانتقل الإشراف على شئون المدن إلى مجالس أو هيئات بلدية، يشترك فيها ممثلون لأبناء البلد مع موظفين تعينهم الحكومة، ويحال على المجالس النظر في مرافق المدينة ومصالحها، ويوضع تحت تصرفها المال اللازم لمراعاة تلك المصالح.
هذا ما تتفق فيه المدن العربية الآن، إلا أن بينها اختلافات؛ اختلافات في تكوين المجالس، وفي القدر الذي أتيح لها من التصرف، وفي طبيعة المرافق المحالة عليها، وغير ذلك، وعلى هذا فبين الأنظمة والأوضاع البلدية أو الحضرية العربية من الفروق ما يبرر سعي المدن المختلفة؛ ليفيد بعضها من البعض الآخر، بإيفاد البعثات واستقبالها، وعقد المؤتمرات من الفنيين والمهتمين بالشئون الحضرية، من نواحي العمارة والاجتماعيات والثقافيات وما إليها، وقد يكون من المفيد ومن الممتع فيما نحن بصدده أن أحاول إطلاع المستمعين على كيفية مباشرة السلف لتلك الشئون في المدن العربية، أو بعبارة أخرى: على أحكام المدن العربية.
অজানা পৃষ্ঠা