كان ماكتاجارت بين أصدقائي في كيمبردج وهو الفيلسوف الهيجلي الذي حملنا بفطنته على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة. وكنت أميل إلى الاعتقاد بأن هيجل - وكذلك كانت بدرجة أقل - يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في لوك وباركلي وهيوم، بل هيهات أن تجد له مثيلا عند الرجل الذي كنت قد اتخذته لنفسي قبل ذلك إماما روحيا، وأعني به جون ستيوارت مل. كنت في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شغلا بالرياضة من أن أجد فراغا أقرأ فيه كانت أو هيجل، أما في السنة الرابعة فقد انصرفت إلى الفلسفة باهتمامي.
وقد حدثت لي خلال عام 1898م أحداث جعلتني أنفض عن كانت وعن هيجل في آن معا. من ذلك أني قرأت كتاب هيجل «المنطق الكبير» فكان رأيي فيه عندئذ - ولا يزال هو رأيي إلى اليوم - أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة كلام فارغ خرج من رأس مهوش. كذلك حدث في ذلك العام ما جعلني أرفض براهين برادلي التي أراد بها أن ينفي التكثر في الأشياء، لنفيه وجود ما بينها من علاقات، كما رفضت كذلك الأسس المنطقية للمذهب الواحدي، وكرهت النظرة الذاتية التي تنطوي عليها فلسفة كانت، ولولا جورج مور في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز مور في حياته الفلسفية المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر أمدا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر. لقد قال برادلي عن كل شيء يؤمن به الذوق الفطري عند الناس إنه ليس سوى ظواهر، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا: إن كل ما يقول عنه ذوقنا الفطري إنه حق فهو حق، ما دام ذلك الذوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت. وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق الذوق الفطري فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف العشب بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس وعن النجوم إنها موجودة حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها في خبرته، ولكن ذلك لم يمنعنا عندئذ من الاعتراف أيضا بوجود عالم من المثل الأفلاطونية، فيه كثرة وليس يحده زمن، وهكذا تغير العالم أمام أعيننا.
جاء عام 1900م فكان أهم عام في حياتي الفكرية، وأهم ما حدث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس، فقد كانت تقلقني الأسس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأت فيه دراسة إقليدس وعمري لم يزد على أحد عشر عاما. ولما أخذت بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجد ما يرضيني عند (كانت) أو عند التجريبيين، فلم أطمئن لقول «كانت» عن القضية الرياضية، إنها قبلية تركيبية معا (أي أنها من عند العقل ومنطبقة على الواقع الخارجي في آن واحد) ولا رضيت بما قاله التجريبيون من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة . وذهبت إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثرت بما لمسته خلال المناقشات من دقة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقة لم أجدها في سواهم، فطلبت منه أن يطلعني على مؤلفاته فاستجاب. ولم أكد أدرس فكرته دراسة شاملة حتى رأيتها توسع نطاق الدقة التي ألفناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبثت حتى ذلك الحين نهبا للغموض الفلسفي، وأضفت من عندي فكرة «العلاقات» ولحسن حظي وجدت وايتهد راضيا عن منهج البحث الجديد مدركا لأهميته، فلم نلبث طويلا حتى بدأنا نتعاون معا على تحليل موضوعات معينة كتعريف التسلسل والأعداد ورد الحساب إلى أصول في المنطق. نعم كان «فريجه» قد أدى بالفعل كثيرا مما علمناه، ولكننا في البداية لم يكن لنا بذلك علم ... وقد كانت ثمرة هذا التعاون بين رسل ووايتهد كتابهما المشترك «أسس الرياضة» الذي يعد بحق فاتحة عهد جديد في التحليلات المنطقية. وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه فاتحة عهد جديد في تاريخ الفلسفة الحديثة على الإطلاق.
2
فمن أهم النتائج التي وفق إليها برتراند رسل، تحليله للرياضة تحليلا يكشف العلاقة بينها وبين المنطق، كشفا يزيل الغموض والألغاز اللذين كانا طوال العصور الماضية يحيطان بطبيعة العلوم الرياضية، فمن أين يجيء لها اليقين؟ لقد كان الفلاسفة العقليون والمثاليون فيما مضى يرون في يقين الرياضة أقوى سند يستندون إليه في دعواهم بأن العقل وحده - دون الحواس - هو مصدر المعرفة الصحيحة، وأن العلوم الطبيعية إذا شاءت لنفسها نتائج يقينية كنتائج الرياضة، فعليها أن تتبع المنهج نفسه الذي تتبعه الرياضة، ألا وهو المنهج الاستنباطي الذي يستولد من الحقائق العقلية نتائجها، ولا يلجأ إلى مشاهدة الحواس.
كان ذلك هو الموقف إزاء الرياضة ويقينها، حتى جاءت التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة - وفي طليعة أعلامها رسل- فأظهرت أن الرياضة لا تمت إلى العلوم الطبيعية بشبه حتى تجوز المقارنة بينهما، إنما هي امتداد للمنطق الصوري، فكلاهما بناء واحد يقوم على قاعدة واحدة، وهذا البناء صوري في طبيعته، أي أنه يصدق لما بين أجزائه من اتساق وعدم تناقض، لا لما بينه وبين الخارج من تطابق؛ فقد تبني - إذا شئت وإذا أسعفتك المقدرة الرياضية - عشرين بناء رياضيا كل منها مستقل عن الآخر، وكلها صادق على حد سواء، لأن كلا منها يخلو في داخله من التناقض مع أنه محال أن ينطبق من هذه البناءات العشرين على الواقع الخارجي إلا بناء واحد على الأكثر.
وطريق السير عند أصحاب هذه التحليلات الرياضية المنطقية الحديثة، هو أولا: أن يردوا فروع الرياضة كلها إلى حساب، ثم يردوا الحساب إلى العدد، ثم يحللوا العدد إلى أصوله وجذوره، فإذا هذه الأصول والجذور ضاربة في أرض المنطق، فما هو العدد عند برتراند رسل ومن ذهب مذهبه مثل «فريجه»؟ العدد تحليله هو أنه فئة من فئات، فالعدد ثلاثة - مثلا - هو رمز نشير به إلى مجموعة كبيرة نتصورها وهي تضم المجموعات الصغيرة التي قوام كل منها ثلاثة أعضاء ، أعني أنك لو تصورت كل ما في العالم من ثالوثات، ثم حزمت هذه الثالوثات كلها في حزم واحدة، كان لك بذلك فئة كبيرة تضم فئات صغيرة متشابهة في أن لكل منها ثلاثة أعضاء؛ وإذا كان هذا هو تحليل العدد، إذن فالجذور الأولية التي يتألف منها هي فكرة «الفئات» والفئات - وهي ما كانت تسمى في المنطق الأرسطي بالأنواع - هي من مدركات المنطق الخالص، وهكذا نكون قد أزلنا الحاجز الذي يفصل المنطق عن الرياضة، وجعلناهما امتدادا لشيء واحد؛ حتى ليصبح من الأمور الجزاف أن تختار موضعا معينا ترسم عنده خطا وتقول: إن ما قبل الخط منطق وما بعده رياضة، لأنه يجوز لك أن تضع الخط في أي موضع شئت من هذا الطريق الواحد الممتد من نقطة الابتداء في المنطق إلى نقطة الانتهاء في الرياضة.
وما مؤدى هذا الاتصال بين المنطق والرياضة؟ مؤداه أن الرياضة تصبح كالمنطق تحصيلات حاصل، ومن ثم فهي لا تتعرض للخطأ، لأن تحصيل الحاصل هو تكرار شيء واحد مرتين، وليس فيه تورط بنبأ ينبئ به عن العالم الخارجي حتى يجوز لهذا النبأ أن يصيب أو أن يخطئ؛ فأنت في المنطق إذ تقول: إن الدنيا غدا ، إما أن تمطر أو لا تمطر، فإنما تقول بذلك كل الاحتمالات الممكنة، بحيث يستحيل الخطأ بعد ذلك، والخطأ مستحيل لأنك لا تورط نفسك في حكم معين كأن تقول مثلا: إن الدنيا ستمطر غدا، فإذا جاء الغد ولم تمطر كنت مخطئا. وكذلك حين تقول: إنه إذا كانت س مشمولة في ص، وص مشمولة في م، إذن تكون س مشمولة في م، كان قولك هذا صادقا صدقا مطلقا؛ لأنك لم تفعل به سوى أن عينت معنى الاشتمال، ولم تزعم زعما بعينه عن حقائق الوجود الخارجي، ولا كذلك الأمر إذا ورطت نفسك في حكم معين على شيء بذاته من أشياء العالم، كأن تقول مثلا إن النوع الإنساني مشمول في مجموعة الحيوان، فها هنا قد تجد من يؤيد ومن يفند؛ وهكذا الحال في كل معادلة رياضية. فقولنا 2 + 2 = 4 لا يثبت شيئا ولا ينفي شيئا في العالم الخارجي، بل إن هذا العالم الخارجي قد لا يكون مشتملا على أربعة أشياء كائنة ما كانت، ومع ذلك يكون من حقك أن تقول هذه المعادلة لأنها لا تفعل سوى أن تبين معاني الرموز المستخدمة فيها.
وإذا كان هذا هكذا فلم يعد يجوز للفلاسفة العقليين أن يحتجوا على الفلاسفة التجريبيين بيقين الرياضة؛ لأن الفرق واسع بين طبيعة الرياضة من جهة وطبيعة العلوم التجريبية من جهة أخرى، فبينما الأولى تحصيلات حاصل لا تقيد نفسها بحكم معين عن العالم، تتصدى الثانية لأحكام محددة تطلقها على العالم، وهي بعد ذلك إما أن تخطئ أو تصيب.
3
অজানা পৃষ্ঠা