فمرحلة أولى اهتم فيها بالرياضة والمنطق الرياضي. ومرحلة ثانية نظر خلالها في الفلسفة الطبيعية لينتهي إلى نتيجة عامة، وهي أن المفاهيم الرياضية والفيزيائية جميعا يمكن تعقبها إلى جذورها الأولى في الأحداث التي تقع لنا في خبراتنا.
ومرحلة ثالثة وأخيرة، هي المرحلة الميتافيزيقية التي بدأت بانتقاله من لندن إلى جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وهذه المرحلة الأخيرة هي التي أثارت عليه النقد وجلبت إليه إهمال الفلاسفة أول الأمر، لا سيما أولئك الذين ينزعون بفلسفتهم نزعة علمية صارمة.
وسبيلنا الآن أن نعرض أهم أركان المذهب الفلسفي الذي جاء به وايتهد.
3
ونبدأ العرض بشرح فكرته عن المهمة الحقيقية التي يؤديها التفكير الفلسفي؛ ورأيه في ذلك - كما شرحه في مقدمة كتابه «التطور وعالم الواقع» - هو أننا بالتفكير الفلسفي نركب إطارا فكريا يصلح أن نفسر به كل ما عساه أن يقع لنا في مجال الخبرة. فإن كان هذا هكذا، فلا فرق في المنهج بين الفلسفة والعلم؛ أليس المنهج العلمي يقتضينا أن نبدأ بمعطيات المشاهدة، ثم نصوغ لها أفضل نظرية ممكنة لتفسيرها، ثم نعود بهذه النظرية المفترضة إلى عالم الواقع لنلتمس لها التطبيق على وقائع جديدة؟ فهكذا أيضا منهج التفكير الفلسفي عند وايتهد: حصيلة من معلومات أولية، نغترفها من الخبرة المباشرة، نستوحيها في إقامة خير إطار فكري ممكن، يفسر لنا ما قد عرفناه من ظواهر الوجود، ثم عودة بهذا الإطار الفكري إلى حقائق أخرى في العالم نلتمس لها تفسيرا في حدود ذلك الإطار لعلنا نفلح. وكل الفرق بين النظرية في العلم والإطار الفكري في الفلسفة، هو في درجة التعميم والتجريد، فإطار الفلسفة أعم وأكثر تجريدا؛ إذ يراد أن يطبق على رقعة أوسع من الرقعة التي يراد للنظرية العلمية أن تنطبق عليها. أما وجه الشبه بينهما فهو - كما قلنا - ذلك المنهج عند كليهما؛ المنهج الذي يفرض الفرض، ثم يستنبط منه نتائجه التي يتوقع لها أن تصدق على مشكلات الواقع الفعلي.
ولو تأملت هذا المنهج المقترح للتفكير الفلسفي، لنهض أمامك سؤال يريد الجواب:
إذا كان الإطار النظري الذي نقيمه في رءوسنا لينطبق آخر الأمر على عالم الواقع، مصوغا - كما يريد له وايتهد - في دقة الرياضة وثباتها وضرورتها، أفيكون معنى ذلك أن العالم الخارجي التجريبي لا بد له أن يسكن على حالة واحدة، فلا سير ولا تطور ولا إبداع، لكي يلتئم مع القالب الرياضي الذي تفرضه عليه فرضا؟
الحق أن وايتهد يجعلها صريحة، بأن إطار المنطق الخالص ينزل على الكون كأنه قالب من حديد يحصر مجرى العالم بين جوانبه؛ وأن شبكة العلاقات الرياضية الخالصة تفرض نفسها فرضا لا فكاك منه على عالم الأشياء؛ وهو يعد أسبقية العلاقات المنطقية الرياضية على عالم الحوادث بمثابة المبدأ الأول في بنائه الميتافيزيقي.
ومعنى ذلك أن الطبيعة مشيدة على نسق متصل الأطراف كهذه النسقات التي نراها في الرياضة، أي أن الحادثات العابرات إنما يتصل بعضها ببعض على نحو يربطها ويضمها في وحدة منطقية كالتي توحد بين أجزاء العلم الرياضي. ولكن لا سبيل إلى إنكار ما يشع في العالم الطبيعي من جديد يخلق بعد أن لم يكن. ولولا هذا الجديد لوقف العالم حيث هو إلى أبد الآبدين؛ لكنه يتقدم ويتطور بفضل هذا الجديد الذي ما ينفك ينشأ ويظهر، فكيف إذن نوفق بين إطار منطقي رياضي أزلي أبدي ثابت من جهة، وطبيعة متغيرة متطورة من جهة أخرى؟
وإن وايتهد لعلى وعي كامل بما يبدو كأنه مفارقة، فيقول صراحة: إن للطبيعة جانبين يبدوان وكأنما هما النقيضان المتعاندان، ومع ذلك فكل منهما جوهري لا غنى عنه؛ أما الجانب الأول فهو التطور والتقدم الخلاق، الذي هو جانب الصيرورة في الطبيعة، وأما الثاني فهو دوام الأشياء على صورها التي نعرفها بها؛ فلا سبيل إلى فهمنا للطبيعة إلا بهذين معا : صيرورة الأشياء من جهة، والثبات المنطقي لها من جهة أخرى؛ وإننا لنخطئ إذا نحن فصلناهما بحيث ننظر إلى كل منهما على حدة، كأنما نقول إن الحق أحد أمرين فإما صيرورة وإما ثبات.
অজানা পৃষ্ঠা