إن في تجريدنا للمعاني الكلية من الموجودات الحسية، ثم في زعمنا بعد ذلك أن الأولى مطابقة للثانية - وهو «ما يسمونه بالعلم الطبيعي» - لقصورا؛ إذ «إن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة - كما في زعمهم - وبين ما في الخارج، غير يقيني؛ لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي.» ويمضي ابن خلدون في اعتراضه هذا حتى ينتهي إلى القول بأنه حتى لو سلم بانطباق المعاني المجردة على الطبيعة الخارجية «إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه (أي ترك المسلم ما يعنيه إلى ما لا يعنيه) فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا، فوجب علينا تركها.»
وهذه هي أهم نقطة أردت إبرازها؛ لأننا لو أبطلنا الفلسفة على أساس أنها تجرد من المحسوسات معقولات، ثم تزعم أن هذه المعقولات مطابقة للمحسوسات، مع ما بين الجانبين من فارق كبير؛ أقول إننا لو أبطلنا الفلسفة على هذا الأساس، فقد أبطلنا بالتالي العلوم الطبيعية كلها، بما فيها علم الاجتماع الذي أراد ابن خلدون أن يقيم بناءه.
نعم إن مشكلة العلاقة بين الصورة الذهنية من جهة ومادة الأشياء العينية من جهة أخرى، هي مما قد اختلفت فيه مذاهب الفلسفة، اختلافا شطرهم فريقين أساسيين: ففريق يرى أن المطابقة بين الصور الذهنية والأشياء الخارجية أمر محال، لهذا الاختلاف بين الجانبين، الذي ذكر ابن خلدون شيئا منه؛ وفريق آخر يذهب إلى أن الصور الذهنية إن هي إلا صور لمادة، فلو لم تكن مادة لما كانت صور.
وقد كان من حق ابن خلدون أن يختار لنفسه تأييد الفريق الأول، دون الفريق الثاني؛ لكنه لو فعل ذلك، لكان: أولا: آخذا بأحد الاتجاهات الفلسفية، لا مبطلا للفلسفة على إطلاقها. وثانيا: لو فعل ذلك لقطع على نفسه الطريق الذي يحقق له غايته الرئيسية، وهي أن يكون معدودا من علماء الاجتماع؛ لأن العلم - كائنا ما كان موضوعه - يفرض - أساسا - أن قوانينه العامة صالحة للتطبيق على الواقع، أي أن الصور العقلية مطابقة بوجه من الوجوه لمادة العالم الخارجي. (3)
والوجه الثالث من أوجه بطلان الفلسفة عند ابن خلدون، هو أنها تبحث أيضا - إلى جانب بحثها في الموجودات الحسية - «في الموجودات التي وراء الحس، وهي الروحانيات، ويسمونه العلم الإلهي، وعلم ما بعد الطبيعة.» مع أن هذه الموجودات مجهولة في ذواتها «ولا يمكن التوصل إليها، ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية، إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى، فلا يتأتى لنا برهان عليها إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها.»
ومرة أخرى نقول إن ابن خلدون من حقه أن يقول هذا كله بالنسبة إلى الموجودات الروحانية، لكنه إذ يقول ذلك عنها، فهو يسلك نفسه بين فريق من الفلاسفة دون فريق، ولا يكون مبطلا للفلسفة على إطلاقها؛ وذلك لأن الفلسفة قد سارت في أحد طريقين رئيسيين بالنسبة إلى هذا الموضوع: فطريق منهما يؤدي بأصحابه إلى أن في مستطاع الإنسان إدراك هذه الحقائق التي هي وراء الطبيعة، إدراكا يجعلون الحدس أداته، وهؤلاء هم الفلاسفة المثاليون والفلاسفة العقليون جميعا؛ وطريق آخر يؤدي بأصحابه إلى استحالة أن يدرك الإنسان إلا ما قد تنطبع به حواسهم من الموجودات الخارجية، وأولئك هم الفلاسفة التجريبيون؛ وأكرر القول بأن ابن خلدون من حقه أن يكون من هذا الفريق الثاني الذي ينكر قيام علم ما بعد الطبيعة، دون أن يتنكر بهذا للفلسفة من حيث هي كذلك. ولئن كان من رأي ابن خلدون أن إثبات الموجودات الروحانية لا يتعدى ما نراه كائنا في نفوسنا نحن، فمن التجريبيين من يقول هذا بعينه، وكل ما في الأمر هو أننا لا يجوز أن نجاوز مجال الإدراك الذاتي، لنزعم أن ما ندركه في ذواتنا إنما يدل على ما هو موجود في الخارج حقا.
وليطمئن ابن خلدون؛ فقوله النافذ بأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية لا يكون ممكنا إلا فيما هو مدرك لنا، ولما كنا لا ندرك الذوات الروحانية، فليس في وسعنا أن نجرد منها ماهيات أخرى. أقول إن قوله النافذ هذا هو قطب الرحى من فلسفة «كانت»، وهو أساس الفلسفة الوضعية كلها. ونريد بهذا أن نؤكد أن وجهة النظر التي أخذ بها ابن خلدون في هذا الموضع، هي «فلسفة» وليست هي مما يبطل الفلسفة ويعلن فسادها.
غير أن وجه التناقض عند ابن خلدون، أنه لم يثبت على موقف واحد إزاء تلك الكائنات الغيبية المجهولة لنا بحكم كونها غيبية؛ فلو أنه قال لا حيلة لنا إزاءها إلا ما يقال لنا عنها بطريق الوحي الذي يوحى به للأنبياء، لما كان في ذلك من بأس، لأنه عندئذ كان سيحيلها إلى منطقة الإيمان وبذلك ينتهي أمرها؛ لكنه عز عليه ألا يجعل للإنسان قدرة على إدراكها بأداة إدراكية خاصة بها، فيقول عن إدراك الفطرة (في المقدمة السادسة) إن «للنفس استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الملاكية، لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، فللنفس في الاتصال جهتا العلو والسفل، وهي متصلة بالبدن - من أسفل منها - وتكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل. ومتصلة - من جهة الأعلى منها - بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية.»
5 (4)
والوجه الرابع من أوجه بطلان الفلسفة عند ابن خلدون ما تذهب إليه من أن السعادة مرهونة بالعلم علما عقليا بحقيقة الوجود؛ ومن رأيه أنها متوقفة على «امتثال الإنسان ما أمر به من الأعمال والأخلاق» وإلا لما كان للشرع مسوغ؛ ولابن خلدون في تحليل مصدر السعادة شرح طويل، لكن الذي يلفت النظر فيه هو محاولته البرهنة على أنها لا تنبني على الإدراك العقلي، إذ الإدراك العقلي معتمد أساسا على الإدراكات الحسية، وهذه بدورها نتيجة لحياة البدن، فكيف تكون السعادة صادرة عن نشاط جسمي، مع أن شرطها هو مقاومة الجسم ونشاطه؟ وهذا كلام لا يتسق مع عالم يجعل منهجه المشاهدة مصدرا وتطبيقا.
অজানা পৃষ্ঠা