وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى. وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحس والتجربة - وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرة خارجية من ظواهر الطبيعة أو المجتمع - أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها - وذلك حين يكون موضوع البحث فكرة نظرية - وقد يجتمع الطريقان معا في بحث واحد بعينه، فنجمع شواهدنا من تجاربنا أولا، ثم نكون فكرة نظرية نستدل منها ما يسعنا استدلاله من نتائج؛ ذلك هو سبيل العقل. وإذن فليس من العقل أن نستند في أحكامنا إلى ما هو شائع بين الناس بحكم التقليد الموروث، لا سيما إذا كان هؤلاء الناس قد صادفتهم من تطورات التاريخ أطوار أغلقت دونهم مسالك النظر.
على أن الفكرتين - فكرة الحرية وفكرة التعقيل - مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابي يؤديه، كالسجين تخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك المتحرر من خرافة قد يقع في خرافة أخرى. ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريقة سيره. فإذا قلنا: إن الفكر الفلسفي الحديث عندنا جاء متميزا بالدعوة إلى الحرية وإلى التعقيل، فقد قلنا بذلك إنه كفل أمامنا سواء السبيل بنصفيها: السلبي والإيجابي معا.
ولئن كانت العلوم المختلفة من طبيعة وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها كذلك أن تكفل التحرر من الخرافة كما تكفل «تعقيل» السير إلى هدف، وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي أيضا؛ إلا أن الفلسفة أفعل إيقاظا للعقل، لسبب بسيط واضح، وهو أن العلوم تقرر ما قد ثبتت عند العلماء صحته، فلا يكون أمام الدارس إلا أن «يتعلم»، وأما الفلسفة فتضع دارسها دائما بإزاء المسائل التي تثيرها موضع من يسأل قائلا: هل هذا صحيح؟ وفي سؤال كهذا بداية التفكير النقدي الحر. ولا بأس في أن يتعارض مفكران، ما دام كل منهما يحاول إقناع زميله بطريقة الحجة العقلية بأحد معنييها السابقين أو بهما معا: بالشواهد الحسية، أو بالاستنباط السليم، أو بكليهما جميعا. فلا أحسبني مخطئا إذا زعمت أن قيام الفكر الفلسفي على صورته الصحيحة التي تثير عند الدارس قوة التفكير النقدي الحر المعقول (الحر من قيود الآراء المسبقة، والمعقول في خطة سيره نحو الهدف المقصود)، هو من أوضح العلامات التي تشير إلى قيام نهضة فكرية، حتى لأوشك أن أقول في هذا الصدد: دلني على نوع الفلسفة القائمة في بلد أو في عصر، أقل لك أي بلد هو وأي عصر. وإنه ليبدو لي في وضوح أن الفكر الفلسفي عندنا قد استقام على عوده منذ أواخر القرن الماضي، على أيدي «هواة» يتناولون الأمور تناولا فلسفيا دون أن يتخذوا من الفلسفة ذاتها موضوع دراسة متخصصة، ثم أخذ يزداد نماء، فيزداد جنوحا نحو الدراسة المتخصصة، في الجامعات، بل وفي بعض صفوف المدارس الثانوية. وإن نظرة تحليلية إلى ما نشرته وما تنشره المطابع من مؤلفات فلسفية وإلى سعة انتشار تلك المؤلفات بالنسبة إلى سواها، لتدل دلالة قاطعة على مدى الفكر الفلسفي عندنا طولا وعرضا وعمقا؛ فهو فكر قد شمل الماضي بنشر تراثه، والحاضر بعرض مذاهبه، والمستقبل بالتخطيط له، وهو فكر قد ترجم وألف في كل ميدان من ميادين البحث الفلسفي، فصدرت كتب ونشرت فصول يتعذر حصرها، تناولت الفلسفة الشرقية القديمة، والإسلامية، والغربية من يونانية ووسيطة وحديثة ومعاصرة؛ تناولتها من حيث تواريخها وشخصياتها ومشكلاتها ومذاهبها.
ولم نكن في هذه الحركة الفلسفية الشاملة إلا مقتفين خطى أسلافنا ومنتهجين نهجهم في فتح الأبواب والنوافذ جميعا ليجيء الهواء من شرق أو من غرب، من قديم أو جديد، من مؤمن أو من متشكك، حتى التقت وجهات النظر المختلفة، وانصهرت وكان منها ما جاز لنا أن نسميه بمذهبنا الفلسفي الخاص. لكن إذا كان هذا المذهب الفلسفي الخاص عند المسلمين الأقدمين تلخصه عبارة واحدة هي «التوفيق بين النقل والعقل» فأحسب أن المذهب الفلسفي الخاص عندنا اليوم تلخصه عبارة واحدة كذلك هي: «الجمع بين الحرية والعقل».
2
ولقد حمل هذه الرسالة الفكرية في تاريخنا الحديث رجال من طرازين: هواة ومحترفون. على أن «الهواة» كانوا أسبق من «المحترفين» ظهورا في الترتيب الزمني، حتى ليجوز لنا القول بأنهم هم الذين مهدوا الطريق أمام محترفي الفلسفة ووجهوا انتباههم وأثاروا اهتمامهم. ومع ذلك فالفريقان يختلفان جوهرا، اختلافا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيين تفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق، وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب. فالفلسفة بالمعنى الأول هي «فلسفة حياة»، والفلسفة بالمعنى الثاني هي «فلسفة تجريد نظري». وبالمعنى الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعنى الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية.
ومن هؤلاء «الهواة» الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة: جمال الدين الأفغاني في رده على الدهريين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية على أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير،
2
وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية، وعباس محمود العقاد في دعوته إلى مسئولية الفرد أمام عقله في فكره وعقيدته. على أن هؤلاء «الهواة» أنفسهم ينقسمون فيما بينهم نوعين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام محور تفكيره، والآخر يجعل هدفه الرئيسي الدعوة إلى قيم ثقافية جديدة.
كانت نظرية النشوء والارتقاء من أهم ما أنتجه العلم الأوروبي في القرن التاسع عشر. وهي نظرية لا تصادف قبولا - للوهلة الأولى - عند من تغلب عليهم الثقافة الدينية،
অজানা পৃষ্ঠা