وأعود إلى الموضوع الرئيسي الذي من أجله كتب هذا المقال، فأقول إن تيار التوحيد جارف، يزيل الحواجز بين الأفراد وبين الطبقات وبين الأمم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. وكل هذا خير إلا إذا أطاح بالرءوس العالية في ميدان الثقافة، فعندئذ هو في رأينا آفة تصيب عصرنا والعصور التالية؛ لأن كل هذه الاتجاهات العصرية هي نفسها من إنتاج صفوة فكرية ممتازة، فإذا محونا الصفوة فمن ذا يشق الطريق وينير السراج؟ إذا قضينا على برومثيوس فمن ذا يهبط من السماء وفي يده قبس البرق ليهتدي على ضوئه الناس؟ لقد ألف الناس أن يستمدوا الهداية من أعلى: من السماء ومن الشوامخ. وإنا لنلحظ اليوم تحولا هو الذي نشفق من نتائجه، وذلك أن القدر قد أخذ يعلو من أسفل ولا يهبط من أعلى، فقد أوشك الناس أن يستغنوا عن توجيه الدعاء إلى السماء بالعناية بالذرات والغدد والناسلات. أوشك الناس أن يستغنوا عمن يوجههم إلى ما يكونهم وقد يكون كل ذلك خيرا إلا في ميدان العلم والفن، فهو ميدان إذا سويت أرضه ليتساوى السهل والجبل، ويستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لم يعد بين الناس مهتد وهاد، وضل السائرون سواء السبيل.
ونعود إلى «بروقرسطس» صاحب الأسرة ذات الطول المفروض، فنقول إنه لا عيب في أن يجذ القصار ويمط الطوال ليتساوى الناس في شئون معاشهم، لكن العيب هو أن يمتد الجذ والمط إلى عالم الفكر، فيوضع إطار لأصحاب الفكر ويقال لهم: في هذا الإطار فكروا. بل ينبغي أن يترك هؤلاء فيتمددوا على الأسرة ما شاءت لهم أطوالهم، فهنا يجيء الرجل أولا وسريره ثانيا، وبهذا تتفاوت الأطوال حتى يبلغ بعضها مسالك النجم في أطباق السماء، وإن بقيت الكثرة فوق الأرض زاحفة على بطونها ابتغاء طعام وشراب .
موقف ابن خلدون من الفلسفة1
في الفصل الرابع والعشرين من «المقدمة»، وعنوانه: «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها» يشرح ابن خلدون رأيه في الفلسفة، فيبدأ بعرض طبيعتها، ثم يعقب على ذلك ببيان أوجه بطلانها؛ وأود - بهذه الكلمة الموجزة - أن أبين أن الطريقة التي دحض بها الفلسفة من شأنها كذلك أن تدحض العلم الطبيعي. ولما كان ابن خلدون حريصا على المنهج العلمي، فهو - إذن - ينقض نفسه بنفسه؛ ولكي يحقق غاية ثانوية بالنسبة إليه - ألا وهي تفنيد الفلسفة - قد فوت على نفسه غاية أساسية له، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مشاهدات صحيحة.
الفكرة الأساسية عند ابن خلدون - فيما نحن بصدد الحديث عنه الآن - هي أن ثمة طائفتين من العلوم، لكل طائفة منها أداة صالحة لتحصيلها، هما العلوم العقلية والعلوم النقلية. أما الأولى فأداة تحصيلها هي الحواس والعقل، وأما الثانية فسبيلها إلينا هو الوحي. ويقع الخلط إذا نحن حاولنا أن نستخدم الأداة الأولى في المجال الثاني؛ يقول: «اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان، يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها، ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره (أي يطلعه) ويحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل. وهو نقلي، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه.»
2
إلى هنا لا اعتراض لأحد على تحديد المجال المخصص للعقل بالعلوم الطبيعية أولا، ثم باستنباط النتائج التي تلزم عن المسلمات الموحى بها والمنقولة عن السلف في العلوم الشرعية ثانيا؛ «وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه - كما يقول ابن خلدون عند حديثه عن علم الكلام
3 - «بل العقل ميزان» صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأي الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال». وهذا قول حق وجميل من ابن خلدون، وإن كنت أراه غير موفق في التشبيه بميزان الذهب الذي يراد له أن يزن الجبال، لأن وزن الذهب ووزن الجبال هما حقيقتان من صنف واحد، وليس بينهما من الفرق في النوع ما بين المعرفة التي يحصلها العقل بوسائله.
لكن ابن خلدون قد تصور - في موضع آخر من «المقدمة»، وذلك عند حديثه في علم الإلهيات، الفصل الحادي والعشرون
4 - أن العقل وإن يكن معزولا عن الشرع - على حد تعبيره - إلا أنهما قد يتنافسان في مجال واحد، وعندئذ ينبغي - في رأيه - أن نقدم حكم الشرع على حكم العقل، وأن «لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه.»
অজানা পৃষ্ঠা