فمن مقتضيات «الأمانة» التي شرف الإنسان بحملها - بعد أن أشفقت منها السموات والأرض والجبال - أن ننهج في العلم نفسه طريق المغامرة والمخاطرة في المجهول، محتملين وقوعا في خطأ، مرجحين وصولا إلى الحق، وذلك هو طريق العلم التجريبي الذي لا يرضى الدوران في جدل، إن يكن مضمون الصواب في استدلال نتائجه من مقدماتها، إلا أنه عقيم لا يلد الجديد، فلقد كانت الوثبة فسيحة في التطور العلمي حينما ألقى الإنسان وراء ظهره - وكان ذلك في القرن السادس عشر - فكرة كانت قد عفى عليها الزمان، ألا وهي أن يسير الباحث العلمي في بحثه بالخطوات المؤدية إلى اليقين الذي لا يدنو منه شك ولا يأتيه باطل، وذلك لأنه لو أراد الإنسان في المجال العلمي يقينا كهذا لما تحرك من مكانه، إذ لا فرق بين هذه الحالة وبين إنسان يريد في حياته العملية ألا يتعرض لخطر كائنا ما كان، فيتحتم عليه عندئذ ألا يبارح داره ليظل من الأخطار بمأمن أمين، كلا، إنه ليكفي الإنسان في حالتيه العلمية والعملية على السواء أن يرجح الصواب ليأخذ في خوض الغمار.
الإنسان - على خلاف الطبيعة في ذلك - هو الذي ينسج نسيج حياته بإرادته، وتلك هي الأمانة التي عرضت عليه فحملها مسئولا، فلو تشابهت الظروف كلها أمام شخصين لجاز لأحدهما - رغم ذلك - أن يختار من تلك الظروف ما ليس يختاره زميله، وبذلك يجيء أحدهما مختلف التكوين والمزاج عن زميله، وكل منهما راع بني يديه رعية يرعاها على أي نحو شاء، وهو المسئول أمام ضميره وأمام ربه وأمام الناس عما يفعل. أما ظواهر الطبيعة فلم تحمل تبعة كهذه التبعة، ولذلك فلو تشابهت الظروف أمام ظاهرتين منها تشابها تاما، لما وسع الظاهرتين إلا أن تجيئا على صورة واحدة.
قد يقال في هذا الصدد: لكن الله تعالى قد رسم للإنسان شرائع السلوك كما رسم لظواهر الطبيعة طرائق السير، وعلى الجانبين أن يطيعا ما قد رسم لهما على حد سواء. لكنه لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك «أمانة» يحملها الإنسان وحده دون غيره من الكائنات، وإنما الطاعة الواجبة نوعان: فطاعة عمياء - كما يقولون - وطاعة مبصرة، وصاحب الطاعة العمياء يسير سيرته ولا يتاح له أن يسأل: من أين وإلى أين ولماذا؟ كلا وليس في وسعه العصيان متحملا نتائج عصيانه. •••
وأما صاحب الطاعة المبصرة العاقلة فيعلم لماذا هو فاعل ما يفعله، وفي مستطاعه أن ينحرف لو أراد، وعليه تقع تبعة انحرافه ذلك.
إننا كثيرا ما نقرأ لكتاب يعيرون الإنسان بمملكة النمل أو النحل، قائلين إن دقة النظام وحسن التعاون، والتضحية وغير ذلك من حسنات الحياة الاجتماعية قد ظهرت في جماعات النمل والنحل ظهورا يصح أن يكون نموذجا للإنسان يحتذيه، ولكن فات هؤلاء أن الفرق بين جماعة الإنسان وجماعة النحل أو النمل هو نفسه الفرق بين من حمل الأمانة ومن لم يحملها؛ فالنحلة تسعى كما تسعى السحابة مدفوعة بقوة الريح، لا تدري من غاية سعيها شيئا، ولا تستطيع أن تقول «لا» إذا أرادت العصيان، ومن ثم فلا فردية تميز نحلة من نحلة. وكان من نتائج هذا كله ألا تطور في جماعة النحل، فخلية اليوم هي نفسها خلية النحل منذ ألف ألف عام، وكيف يكون تطور والطريق مرسوم منذ الأزل ليظل كما هو إلى الأبد، لأنه قد رسم منذ اللحظة الأولى كاملا في مواءمته لظروفه، لكن ما هكذا الإنسان الذي ما ينفك يتطور في علومه وفنونه وطرائق عيشه، وذلك كله بفضل أناس وقفوا إزاء النظام الذي وجدوه سائدا حولهم، ليقولوا «لا» وكان في وسعهم ذلك؛ لأنهم أصحاب إرادة بناءة، هي التي ميزتهم منذ عرضت عليهم «الأمانة» فحملوها.
والإرادة البناءة هي الخلق والإبداع، ومن ثم كان الإنسان أقرب الكائنات إلى الله. فلئن كان حقا أن كل ما في الكون من الكائنات هو آيات من صنع الله الخالق، إلا أنه تعالى قد أودع من سره في الإنسان ما لم يودعه في غيره، فكأنما عرض - سبحانه وتعالى - أمانته هذه على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يكن هن المجسدات بأجرامهن لتلك الحقيقة الإلهية العظيمة، برغم عظم أجرامها، وذلك لأنهن غير مؤهلات بحكم طبائعهن لمثل تلك الرسالة، وأما الإنسان ففيه من استعداد الطبع ما يؤهله للتعبير عن حقيقة الله تعالى، فهو صاحب علم وصاحب فن ينشئهما بعقله وقلبه وروحه، ولا غرابة بعد ذلك أن يكون هو الكائن الوحيد الذي يعرف معنى القيم الثلاث: الحق والخير والجمال؛ فهو إذ ينشئ «العلم» ليصوغ به قوانين الطبيعة، يعرف أن علمه هذا هو «الحق» وإلا لما استطاع أن يستخدمه، وهو إذ يبدع آياته الفنية من شعر وموسيقى وتصوير ونحت وعمارة وزخرف، يرى في إبداعه ذاك «جمالا» يخلعه عليه من ذات نفسه التي أعدت على نحو يحس الجمال ويخلقه، وكذلك يميز الإنسان في أنواع السلوك بين ما هو خير وما هو شر. ولو كانت حياته ذات طريق واحد مرسوم لما ميز، بل لما كان معنى لخير وشر.
ألا إنها لأمانة كبرى حملناها بين جنوبنا وحقت علينا رعايتها: أمانة الحرية البصيرة البناءة التي تفعل مختارة، وتحمل تبعة فعلها، والتي تنشئ صروح العلم والفن بما فيهما من حق وجمال، لتحيا في تلك الصروح حياة خلقية تسعى إلى الخير.
تشابه الناس آفة عصرنا
لهم الله أولئكم الأقدمون الذين طاروا على جناح الخيال بأساطيرهم، فإذا هم يشرفون من عل على حقائق الحياة الخالدة، ثم يصورون تلك الحقائق في أساطيرهم تصويرا لا تبلى له - مع مر الأيام - جدة، ولا تذهب عنه نضارة. فكلما تغير وجه الدهر - عصرا بعد عصر، وحضارة في إثر حضارة - التمس الكاتبون في أساطير الأقدمين تأويلا جديدا، يجعلها وكأنما خلقت خلقا لتصوير هذا الوجه الجديد، فانظر كم تأويلا ظفرت به أسطورة «أوديب» من أدباء عصرنا، وكم ظفرت به أسطورة «بجماليون». وها أنا ذا أوجز للقارئ أسطورة قديمة تصور لي وله آفة من آفات عصرنا، هي إصرار حضارة العصر على أن يتشابه الناس . ذلك أنهم زعموا عن رجل يدعى «بروقرسطس» أنه كان صاحب فندق في طريق المسافرين، فكان كلما نزل بنزله النازلون، أصر على أن يقد قاماتهم على قد أسرته، فإن كان النازل أطول من سريره جذ ساقيه جذا حتى يتعادل الطولان، وإن كان أقصر مطه مطا حتى تطول قامته ما طال السرير، فكان بهذا العناء من قبله، وبتلك الآلام يعانيها زبائنه، يحقق مثله الأعلى، وهو أن يخرج الناس من عنده ذوي قامات متساوية؛ إذ لم يطق أن يرى بينهم التفاوت الذي يطاول به بعضهم بعضا!
وحضارة عصرنا هي «بروقرسطس» ينشر من جديد، ليجذ الطوال ويمط القصار، حتى تتعادل الرءوس، وكأنما صبت الأجسام في قالب واحد! ولقد ينعت عصرنا بنعوت كثيرة، فهو آنا عصر الذرة، وآنا عصر الفضاء، لكنه كذلك ينعت بعصر الإنسان الوسط. ولا عجب فهو عصر العلم التطبيقي بغير شك، فربما شهد العالم إبان تاريخه الطويل علما كثيرا، لكنه لم يشهد تطبيقا لهذا العلم يتسلل به إلى كل ركن من كل بيت في المدائن والقرى، كالتطبيق الذي يشهده عصرنا هذا. ومع تطبيق العلم يجيء الإنتاج الكبير، ومع الإنتاج الكبير يجيء تشابه الناس في طرائق العيش تشابها أوشكنا به على يوم ينصهر فيه العالم كله ثم ينسبك على صورة واحدة. وما ظنك بعالم يسافر فيه الناس بسرعة الصوت ويتفاهمون فيه بسرعة الضوء؟
অজানা পৃষ্ঠা