فإلى أي ناحية يتجه الفيلسوف الميتافيزيقي بعباراته؟ هل يريد أن يصف بها ما هو خارج نفسه أو يريد أن يعبر بها عما يدور داخل نفسه من مشاعر؟ لا يمكن أن تكون الأولى لأنه يتحدث عن أشياء ليست هي بين ما يقع على حواسنا من أشياء. يحدثنا - مثلا - عن «العدم» وكل ما في الدنيا «موجودات» ليس فيها «عدم»، ويحدثنا عن «المطلق» من قيود الزمان وقيود المكان، وكل ما في الدنيا «مقيدات» بحدود المكان والزمان، ويحدثنا عن «الخير» وعن «الجمال»، وكل ما في الدنيا كائنات ليس بين عناصرها الكيمياوية أو الفيزيقية عنصر يسمى «خيرا» أو «جمالا». هكذا يحدثنا الفيلسوف الميتافيزيقي عما ليس في الطبيعة ، مع أن كل ما في الطبيعة طبيعة؛ وإذن فهو - بمقتضى عباراته نفسها وموضوعاته التي يختارها لحديثه - لا يحدثنا عما هو خارج نفسه.
إذن فهل يحدثنا عما يدور داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس؟ لو قال ذلك لقلنا: لك ما تشتهي من ذلك؛ فقل ما شئت، واستخدم ما أردت من ألفاظ وعبارات ما دامت غايتك هي أن «تعبر» عن شعور ذاتي خاص، لكنك إذ تفعل ذلك لا يجوز لك أن تصف أقوالك بالصواب؛ لأنه لا صواب في التعبير الذاتي؛ إنما يكون الصواب صفة تصف الكلام حين يصور شيئا خارجيا. ويكون معناه عندئذ أن الصورة الكلامية تطابق الأصل الخارجي.
لكن الفيلسوف الميتافيزيقي لا يقنع بأن يكون كلامه تعبيرا عما تجيش به نفسه هو، بل يدعي أنه صورة وصفية للعالم الواقع خارج نفسه؛ مع أنه يعترف لك في الوقت نفسه أنه لا يسوق الكلام معتمدا على خبراته الحسية؛ وتسأله: أنى لك - إذن - هذه المعرفة عن كائنات ليست مما تقع انطباعاتها على حواسك؟ فيجيب بأنه يركن في ذلك إلى عيانه العقلي. وهكذا يتذبذب فيلسوف ما وراء الطبيعة بين الخارج والداخل!
أما نحن أصحاب المذهب التجريبي في الفلسفة فموقفنا صريح؛ يقول القائل عبارته فنسأله: هل هي منصرفة إلى شيء خارجي؟ فإن أجاب بالإيجاب سألناه من فورنا: أين الخبرة الحسية التي تؤيد ذلك؟ فإذا عجز عن أن يشير لنا إلى كائنات حسية هي التي تنصرف إليها عبارته التي نطق بها حكمنا على عبارته هذه لا بالبطلان فحسب، بل بخلوها من المعنى؛ إذ «المعنى» هو هو بعينه الخبرات الحسية التي يرمز إليها الكلام الذي نزعم له ذلك المعنى.
يقول أفلاطون - مثلا - إن هنالك عالما عقليا غير هذا العالم المحسوس، وإن الأفكار المجردة تقوم في ذلك العالم العقلي، كما تقوم الجزئيات المحسوسة في هذا العالم الذي نعيش فيه بأجسادنا. أو يقول هيجل - مثلا آخر - إن المطلق يعبر عن نفسه في هذا العالم المحسوس وإنه كلما زاد عن نفسه تعبيرا ازداد هذا العالم المحسوس، تقدما في طريق التطور. هذان مثلان مما يقول الفلاسفة الميتافيزيقيون؛ فهل يراد بنا أن نقبل هذا الكلام رغم أنوفنا، أو لنا الحق أن نسأل أولا: ما «معاني» هذه الألفاظ التي يستخدمونها؟ و«المعاني» لا تكون إلا خبرات حسية ما دام الكلام منصرفا إلى العالم الخارجي، فأين هي الخبرات الحسية التي يقدمها أفلاطون أو هيجل أو أضرابهما توضيحا لما يقولون؟ إذا لم يكن هناك شيء منها فالكلام إذن فارغ لا يؤدي إلى شيء.
إنني لست أقل حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا من هؤلاء الذين يصيحون في وجهي دفاعا عنها، لكنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور وهم لا يفرقون . إن من يتحدث عما لا يقع في حسه (رؤية أو سمعا أو لمسا ... إلخ) لا يتحدث بلغة العقل. وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام. والذي نريده وندعو إليه بكل قوة يستطيعها اللسان والقلم هو أنه إذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه، أما إذا كان المجال مجال أدب وفن فاختر ما تشاء من لفظ ما دام يثير في سامعك المشاعر التي تريد أن تثيرها فيه. لو كنت تتحدث عن السماء بلغة الفلكي فلا تتحدث عن سمو وعظمة ومجد، ولو كنت تتحدث عن الزهرة بلغة النباتي فلا شأن لك بالروعة والجمال، ولو كنت تتحدث عن القرية بلغة الإحصائي أو الاقتصادي فلا تقل عنها: إنها ريف جميل هادئ؛ أعط ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور.
على أن «الرياضة» كثيرا ما تساق في هذا الصدد للدلالة على أن العلوم قد تتحدث بما ليس يقع على الحواس من كائنات؛ فيقولون لك: أين النقطة الهندسية التي ليس لها أبعاد؟ وأين الخط المستقيم الذي ليس له عرض؟ وأين الأعداد السالبة وكل ما في الطبيعة موجود بالإيجاب؛ وهكذا وهكذا ...
لكنه اعتراض مردود عليه؛ ويكفي أن نتبين في وضوح حقيقة الموقف في العلم الرياضي ليزول الاعتراض؛ فالعالم الرياضي لا يدعي أنه يقول عن العالم الخارجي شيئا ؛ إنما هو يفترض الفروض أولا (وقد تكون الفروض من محض خياله)، ثم يستدل منها ما يترتب عليها من نتائج، فتكون هذه النتائج هي النظريات الرياضية؛ صدقها مرهون بالفروض التي هي منتزعة منها؛ وإذن فالصدق في النظرية الرياضية صدق اشتقاق لا صدق تطابق بين القول وبين الدنيا الخارجية؛ فسواء لدى الرياضي أن يكون في العالم مثلثات أو لا يكون؛ لأن ذلك لا يؤثر في موقفه إزاء المثلث حين يستدل نظرياته عن المثلث من الفروض الأولية التي فرضها، وسلم بصدقها جدلا.
فلو قدمت إلي نظرية هندسية وسألتني: هل هي نظرية صادقة؟ راجعت طريقة استدلالها من مقدماتها ، ولا شأن لي بالعالم الطبيعي؛ أما إذا قدمت لي نظرية في علم الطبيعة عن الضوء مثلا أو عن الصوت، وسألتني: هل هي نظرية صادقة؟ فإني أراجعها على الطبيعة نفسها، على الضوء أو على الصوت، لأرى: هل هي مطابقة لما يقع في الخارج أو غير مطابقة؟
وخلاصة دعوانا هي هذه: لو أردت لعبارتك التي تنطق بها أن تحدثنا عن شيء في عالم الطبيعة فلا مندوحة لك عن الاعتماد على خبراتنا الحسية، أما إن ضربت بالخبرة الحسية عرض الحائط وجعلت مع ذلك تتحدث عن العالم وحقائقه، فقد جاء حديثك بغير معنى.
অজানা পৃষ্ঠা