7
يقسم الوجود نوعين: فزيائي وذاتي، الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء. أما الوجود الذاتي فوجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده، وأما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، والفعل ضرورة للذات؛ لأن الفعل تحقيق لإمكانياتها، فلكي تحقق نفسها لا بد لها إذن أن تفعل، والفعل لا بد أن يتم في وجود الغير وبواسطته؛ ولذا كان عليها أن تتصل بهذا الوجود المغاير.
يقول المؤلف (ص136-137): «إن الشعور بالوجود لا يكون قويا عن طريق الفكر المجرد؛ لأن الفكر المجرد انتزاع للنفس من تيار الوجود الحي، وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة، ولا يسودها فعل وحركة ...» والمؤلف حريص قبل كل شيء على أن ينعم الإنسان الفرد بوجوده الحي الفعال. وما دام هذا الوجود متعلقا بالحالة الوجدانية أكثر من تعلقه بالحالة العقلية، فإنه لا يتردد في إيثار الأولى على الثانية. نعم إن لكل حالة عاطفية مقابلا فكريا، هو إدراكنا لهذه الحالة، لكن ما أبعد الفرق بين هذا وتلك. ما أبعد الفرق بين التألم من حيث هو عاطفة وبينه من حيث هو موضوع للمعرفة.
على أنه إن كانت الذات تحقق وجودها في العاطفة أكثر مما تحققه في المعرفة، فإنها أكثر تحقيقا لوجودها في الإرادة منها في العاطفة، «إذ الإرادة قوة للوجود الذاتي، وهذه القوة مصدرها الحرية التي للذات في أن تعين نفسها بتحقيق إمكانياتها، فتختار من بين الممكن أحد أوجهه وتتعلق به ثم تحققه بواسطة القدرة.» (ص159). لكن أي الممكنات تختار الذات المريدة لتحوله إلى فعل؟ إن الممكن لا نهاية له، وقد يبدو بعض الممكنات مساويا لبعضها الآخر، ولو وقفت الذات حيرى بين المتساويات لما همت بفعل؛ ولذا يتحتم عليها أن «تخاطر» باختيار ما تنفذه، فبالمخاطرة وحدها تحقق الذات وجودها «أما الوقوف أمام التساوي والتذبذب بين حالي التقابل الذي يتصف به كل وجود، فلن ينتهي بها إلا إلى عدم الفعل، وبالتالي عدم تحقق إمكانيات وجودها. وهذه الحال الأخيرة نشاهدها عند أصحاب المعرفة الذين يختلط عليهم حال الوجود المشكل، فإما أن يقول بالسوية وعدم الاكتراث، وإما أن يتذبذب ويتمرد، وفي هذا وذاك لا ينتهي إلى تحقيق شيء. أما المخاطر، الذي يتعلق من أوجه الممكن تعلقا يصدر في الغالب عن فعل لا معقول، فهو وحده الذي يستطيع أن يحقق إمكانيات وجوده قدر المستطاع، ولا عليه بعد إن أخطأ ولم يصب نتيجة مرجوة، فالمهم أنه حيي الوجود على الأقل في هذه التجربة، بدلا من التوقف العاجز الذي لا يحيا فيه المرء غير عجزه وفراغ إرادته، بل وسلب حريته.» (ص160).
ولا شك أن الإنسان إذ يخاطر حرا باختيار ما يختاره من فعل، فإنما يتصدى لمسئولية تتناسب مع قدر الخطر وجسامة الفعل الذي أقدم عليه. ولما كان الشعور بالمسئولية مشروطا بحرية الاختيار، فإن الشعور بالحرية لا يتوافر في شيء قدر ما يتوافر في المخاطرة. هكذا جاءت فلسفة الدكتور بدوي حافزا لنا على العمل الجريء، لنكون أحرارا بقدر ما يكون في أعمالنا من جرأة. •••
ولقد كانت حياتنا الفلسفية لينقصها شيء كثير لو لم يقم فينا من يوجه دعوته إلى الاهتمام بالروح إلى جانب تلك الدعوات التي أصرت على تحكيم العقل بالمعنى المعروف لهذه الكلمة في دنيا العلم والمنطق. ولقد حمل هذه الأمانة الدكتور عثمان أمين، وأطلق على مذهبه اسم «الجوانية».
8
إشارة منه إلى التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو باطن، فعنده أن الظاهر عرض والباطن جوهر، أو هي تفرقة «بين الكمي والكيفي، بين الآتي والأبدي، بين المادي والروحي. وبعبارة أخرى هي التفرقة بين موقف الإنسان حين ينظر إلى الناس والموضوعات بعيون الجسم، فيشاهدها من الخارج، وكأنه «يتفرج عليها» وبين موقفه حين ينظر إليها بعيون الروح فيشارك فيها ويعانيها من الداخل» (من مقالته عن «الجوانية الأخلاقية عند الغزالي»).
ويقابل صاحب مذهب الجوانية بين ما هو «جواني» وما هو «براني». والأول طريق الإدراك فيه هو الحدس، والثاني طريق الإدراك فيه هو الحواس، فيقول موجها الحديث إلى من يقفون عند الظواهر «البرانية» ولا يعمقون في بواطن نفوسهم: يستطيع «الوضعيون» أن يتشككوا في يقين الحدس كما يشاءون، ويستطيع «الواقعيون» أن ينكروا حقيقة الغيب جازمين قاطعين، ولكنا نقول لهم ما قاله من قبلنا أفلاطون والفارابي والغزالي وابن عربي وديكارت وكانط وهيجل ومحمد إقبال وياسبرز، وهو أننا لا نريد منكم إلا أن تتدبروا الأمر بأيسر قدر من الجهد: انظروا إلى أنفسكم حين تطلقون على الأشخاص والأفعال حكما أخلاقيا أو حكما تقويميا على العموم، ما بالكم تصفون الفعل بصفات تختلف باختلاف فاعليه، مع أن الفعل في الظاهر واحد؟ ولماذا يكون مسعى زيد إخلاصا رفيعا، ومسعى عمرو رياء وضيعا؟ أليس مرجع الأمر في الحكم على الفعل بالحسن أو القبح إلى النية والباعث والقصد؟ أو ليست كل هذه أمورا مطوية غير مرئية؟ ولكن أمام النظرة البرانية، أعني النظرة الواقفة عند ظواهر الأمور، والتي تقيس الأشياء بمقاييس الكم والحاضر والمباشر، الكل أمامها واحد بلا تفريق، ما دامت حركات الجوارح واحدة، وما دامت ألفاظ اللغة أو نغمات الصوت واحدة، وما دامت الظروف الخارجية المصاحبة لتحقيق الفعل واحدة كذلك. أفليس الفرق بين الأفعال كله في الداخل؟ وأليس الداخل كله غيبيا غير مرئي؟ (من المقالة المذكورة).
ويأخذ صاحب هذا المذهب الروحي على المسرفين في الإعجاب بالعلم الحديث أنهم قد نسوا أن المعارف العلمية لا تكفي للحياة الإنسانية الصحيحة، وفاتهم أن تنمية القوى الروحية في الفرد أهم من تنمية قواه الذهنية؛ إذ بغير الأولى لا يصل الإنسان إلى النضج بمعناه الصحيح؟ فما نضج الإنسان إلا ذلك التطور الروحي الذي تمارسه النفوس الصافية في حياتها، فتشعر حينئذ بأنها متآزرة، لا مع أهل الوطن الواحد فحسب، بل مع جميع أفراد الإنسانية بصرف النطر عن اختلافهم في اللغات والأديان والأجناس والأوطان (مقدمة كتابه «محاولات فلسفية» 1952م). •••
অজানা পৃষ্ঠা