মিন শুক্কুক জালাম
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
জনগুলি
أمام هذه الفوضى الشاملة في انعدام الرعاية الصحية بالمطلق، كان فريق من أطباء أو متدربين في التمريض أو حتى طلبة في كلية الطب اعتقلوا قبل إكمالهم الدراسة يعملون ما في وسعهم لتقديم المعونة بوسائل هي بنفسها تخلو من الظروف الصحية، إلا أنه ليس باليد من حيلة كما يقال.
انتشرت بكثرة حالة مرضية تدعى الجيوب المائية تصيب الرئة والصدر، وكان لا بد من سحب التقيحات والسوائل من تلك الجيوب، إلا أن الطريقة التي كان يتم فعل ذلك بها أشبه بحكاية رسوم متحركة تلائم خيال الأطفال، أو واحدة من بطولات جندي أمريكي لا ينتصر إلا في خيال مخرجي الأفلام السينمائية الهوليودية.
يأتي الطبيب السجين بخرطوم دقيق يستعمل فيما يعرف بالمغذي، ويثقب جسم المريض بأي أداة حادة متوفرة عنده لإدخال الخرطوم من خلالها، ليبدأ بعدها بسحب القيح من تلك الجيوب وسط صرخات الألم من المريض، وعندما ينتهي الطبيب من تلك العملية الجراحية يطحن قرص « بارسيتول أو أسبين» على موضع الجرح لتعقيمه، والأنكى من هذا كله أن الطبيب كان يقف في الممر والمريض داخل الزنزانة تفصل بينهما القضبان لتجري العملية من خلف القضبان. لم يكن هذا حادثا عرضيا أو عابرا يحصل لمرة واحدة، بل لمرات متعددة جدا. عمليات جراحية أخرى كانت تجرى باستعمال موس حلاقة لشق غدد وأكياس لا أعرف ماهيتها، لكنها كانت تنمو في أماكن متفرقة من أجساد السجناء. كل هذه العمليات الجراحية، رغم الآلام التي فيها، كانت تتم بلا تخدير؛ لأنه ترف غاية في الزيادة ولاستحالة توفره.
زرق الإبر كان هو الآخر من القصص الغريبة والحكايات العجيبة، ليس لأن عدم توفر الدواء الكافي وحده معضلة كبيرة، بل ندرة الإبر الصالحة كانت مأزقا أكبر. الإبرة برأسها الدقيق يمكن أن تستعمل لمرة واحدة فقط، وربما أكثر من مرة في بعض الحالات، أما الحاجة إلى الاستعمال المتكرر ولعشرات المرات فكان خيالا فرضه واقع الوضع الصحي المتدهور بكثرة الإصابات بشتى الحالات يرافقه نقص دواء هائل أجبر الأطباء على تقسيم دواء الإبرة الواحدة على أكثر من مريض.
قطعا إن رأس الإبرة الدقيق يغدو غليظا بعد الاستعمال المتعدد ولا يمكن له أن ينفذ في الجلد، مما يعني عمليا عدم صلاحية الإبرة للاستعمال. ولأن الأشياء كلها في السجن ذات قيمة كبيرة ولو كانت تعد نفاية غير قابلة للاستعمال بنظر من يعيش خارجه، كان لا بد أن تبرد الإبر ليعاد استعمالها، إنما هذا حل صعب للغاية فمن أين تحصل آلة برد؟ ومع العجز عن إيجاد واحدة منها فقد اهتدى المشرفون على الأمور الطبية إلى حل لا يرد على بال ولا يمر على خاطر؛ إذ وجدوا أن بحوزتهم أكبر آلة برد ومتوفرة في كل زاويا السجن وأركانه. إنها الأرض الإسمنتية الخشنة، وهكذا جاء الحل السحري الناجع وبه انتهت المشكلة، ونفخت الروح في الإبر العاطلة ودخلت الخدمة من جديد. صار بالإمكان استخدام الإبرة مرات ومرات مع زيادة في الألم يتحملها السجين وهي تنفذ إلى الجسد، وهذا أمر لم يكن صعبا عليه تكبده، وهو الذي عانى أكثر بكثير من هذا من الألم وتحمل أنواع الصعاب والمشقة.
قصة الإبر لا تنتهي هنا؛ إذ إن تعقيمها هو الآخر أمر لا مناص منه، وللقيام بذلك لا بد من توفر ماء مغلي. في المحجر زود رجال الأمن السجناء بعلبة معدنية صغيرة لتعقيم الإبر، أما الأقسام الأخرى فقد حرموا منها ؛ لذا جرى تدبير الوضع بتوصيل سلك كهربائي من المصدر الوحيد للكهرباء في المصباح المعلق بالسقف، وفي نهاية السلك توضع ملاعق وتدخل في الماء لتعمل على تسخين الماء بطريقة الدائرة الكهربائية، الماء الزائد عن حاجة التعقيم كان يستخدم في تحميم المرضى. وفي قسم الحجر الصحي وبسبب انعدام الرقابة الأمنية كانت عملية غلي الماء تجري بشكل مريح وبصورة واسعة؛ لأن أغلب سكانه من المرضى، بينما كان الاستحمام بالماء البارد عملا روتينيا يفعله باقي السجناء ولا يتغير ذلك صيفا ولا شتاء. ظلت طريقة تسخين الماء تستخدم بنجاح في المحجر إلى أن وقع حادث كبير في أحد الأيام كاد أن يؤدي إلى كارثة كبرى.
فبعد أن استسهلت عملية تسخين الماء، أصبح الماء الحار مطمعا في أيام الشتاء حتى لغير المرضى مع ضعف الأجساد وقسوة البرد. وبدلا من الإناء الصغير لتعقيم الإبر صار برميل ماء بلاستيكي هو المستضيف لهذه العملية المحظورة، وجرت الأمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى أن جاء اليوم الموعود. ففي يوم شتائي محشو بالبرودة ضاعف قرسه وهن الأبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفرش وقلة الأغطية التي ما فتئنا نستعين بها في اليقظة والمنام لرد غائلة البرد عنا. وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون، تحلق قربه بعض السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى عظامهم المنخورة من المرض والبرد. وبينما هم يتسامرون ضاحكين وإذا بصرخة فزع تملأ كل جوانب زنزانة الحجر الصحي تتبعها صرخات. الممر الضيق يزدحم بحشد يعدو على غير هدى وعلى وجه أفراده سيماء فزع ورعب تغطيهم سحابة ضخمة من بخار كثيف كأنها دخان أبيض. سحابة استوعبت كل شيء، وكأنها غبرة معركة خلفتها ثورة خيول جامحة لا تتوقف عن الخب، وسيطر الذهول على الجميع وظن البعض من السجناء أن رجال الأمن شنوا هجوما لقتل السجناء، وما هي إلا دقائق حتى تبينت الكارثة ولاح جزء من تداعياتها الحقيقية.
كان الماء يواصل فورانه بعد أن بلغ درجة الغليان وقارب حدا لم يعد البرميل البلاستيكي بقادر على تحمله ليذوب من شدة الحرارة منصهرا، وينهار البرميل بحمولته الكاملة ساكبا الماء الحار بغتة وبسرعة خاطفة على كل من كان يجاور البرميل في غفلة منهم. حاولوا الفرار، لكن لم يقدروا على الإفلات؛ لأن الكهرباء كانت لم تزل تسري في الماء فأوقفتهم في مواضعهم وأسقطتهم أرضا، كل من وثب هاربا غطس بغير أهبة ولا استعداد في بركة ماء يغلي لتسلخ جلده كاملا، إلى أن بادر أحد السجناء بمهارة وخفة إلى نزع السلك الكهربائي، لكن حينها الماء الساخن كان قد فعل فعلته بالوجوه والأجساد بشكل رهيب.
كان الموقف أكبر من أن تتلافاه إسعافاتنا الأولية البائسة؛ لذا تم الاتصال بالأمن لنقل المصابين بالحروق ونقلوا بالفعل لمستشفى مدني خارج السجن في جانب الكرخ من مدينة بغداد. جرت هناك معالجتهم بشكل أولي، إلا أنه كاف لإنقاذ حياتهم من موت محقق حرقا وأعيدوا للسجن ثانية بعد ثلاثة أيام وظلوا قرابة الشهر عراة لا يستطيعون ارتداء ولا حتى قطعة ملابس واحدة لشدة الحروق التي ألمت بهم.
تدبر السجناء أمرهم بصنع ما يشبه القفص غلف بالبطانيات لتدفئتهم ورفع الحرج عنهم بحجز الأنظار والعيون عن أجسادهم المجردة من كل شيء حتى من الجلد. نجوا من الموت وظلت أجسادهم طوال حياتهم تحمل ذكرى الحادث المروع، وفقد السجناء فرصة الاستحمام بالماء الحار من جديد خشية انكشاف أمرهم بعد أن مرت هذه الحادثة بسلام. لم يجر تحقيق في الحادث لسبب لم نفهمه، لعله كان حسن الحظ أو لأن القسم كان مخصصا للمرضى، ولم يشأ المسئول الأمني الذهاب بعيدا في التحقيق خشية اضطراره لإنزال العقاب ببعض السجناء ومع تردي وضعهم الصحي العام كان أي عقاب سيتحول إلى مذبحة حقيقية، وإلا في الواقع لم يكن أي أحد ليصدق ولو كان أبلها كبيرا أن علبة معدنية صغيرة مخصصة لتعقيم الإبر هي التي سببت كل هذه الحروق.
অজানা পৃষ্ঠা