মিন শুক্কুক জালাম
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
জনগুলি
قابلنا الضابط الكبير على انفراد، وسألنا أسئلة عادية لا تنم عن أي اهتمام بنا، بل كانت الزيارة تبدو وكأنها الإمضاء الأخير على مكافأة ينالها فريق التحقيق ثمنا لجهوده في قطع رقابنا المنتظر. إلا أنه مع ذلك ورغم هذه الأجواء المزيفة المخادعة بالتعامل الدبلوماسي الهادئ الناعم الذي يطرح به المدير أسئلته الباردة الخالية من كل روح، إلا أن النوايا الخبيثة كانت سافرة جدا في الوقت نفسه تفضحها نظراته الماكرة هو وفريقه. وكما كان مقررا فقد شكا البعض منا للمدير الظروف القاسية التي دفعته كمعتقل لتقديم إفادات مزيفة، ومع كل الشفافية المدعاة إلا أنه حتى هذه الشكوى لم تنل رضاه ولا رضا ضابط التحقيق (ع. ع.)، وتحولت المقابلات من لقاءات منفردة مع المدير إلى لقاء جماعي بحضور ضابط التحقيق لكبح هذه الجرأة على الإنكار من تكرارها ثانية. وبالطبع لم يتغير أي شيء بعدها كما كنت واثقا متيقنا، ومع كل ذلك لم يغير ما حصل من عرض مسرحي سخيف قناعة معتقلين آخرين كانوا مصرين على أن هذه فرصة يجب استثمارها، واختلفنا في ذلك بحوارات ونقاشات لم تخل من عتب وربما في بعض النوبات كانت تحمل تلميحا لي بالجبن والضعف، مع أنهم كانوا يعرفون إلى أي حد تحملت التعذيب، بل إني كنت واحدا من أكثر الموجودين ممن صمد بوجه التعذيب والتحقيق إلى آخر المطاف، إذا لم أكن فعلا الأكثر صبرا على التعذيب بينهم. لم أش بأي أحد على الإطلاق ولم أقدم للمحققين شيئا ذا نفع في كل مراحل التحقيق، وظلت أسرار عملي الحقيقي حبيسة صدري، بالمقابل غيري ممن كان يعاتبني ويتهكم على تصرفي مع مدير الأمن قد فعل الكثير جدا مما يجب أن يخجل منه أمام نفسه أولا قبل أن يستحيي من الآخرين.
لم أك بحاجة لأثبت لأحد ما أنا عليه ولربما غيري وجد في هذه المقابلة فرصة سانحة ليكفر فيها عن انهياره الشامل أثناء التحقيق، وصار الآن متحمسا يملك جرأة كبيرة ليقنع نفسه أولا بأنه لم يكن ضعيفا. كانت ريادة الاحتجاج أمام زعيم ضباط التعذيب فرصة وهمية منه لجبر ما كسر أو محاولة ترضية داخلية وإصلاح ذاتي نفسي هو في حاجة إليه وليس أحد غيره. للأسف كانت صحوة متأخرة جدا فات وقتها وجاء القطار ليس متأخرا، بل حين كانت السكة قد رفعت وما عاد له أن يسير ولا حتى نصف خطوة. هذا الموقف وهذه الحادثة قدمت لي درسا لما تبقى من عمري تعلمت منه أن الصراخ بصوت عال لا يكشف إلا عن ضعف مثله أو لربما أكبر في خبيئة صاحبه.
انتابني حينئذ شعور مرير؛ لأني كنت أعيا في الإقناع، فاشلا في التبرير، عاجزا عن مواجهة هذا الهجوم برد قوي. لم أكن أريد أن أعكر العلاقات بيننا، إلا أنه علي الاعتراف بأني كنت ضعيفا حتى في هذه ولم أتضامن مع موقفهم الجماعي كما تقتضي المصلحة العامة، لربما حالتي النفسية وعدم اكتراثي كانا وراء ضعفي هذا، بيد أني على أي حال لم أقدر على تغيير رأيي ولا بوارد انتقاده رغم كل الضغوط النفسية الكبيرة آنذاك. كنت واثقا من عدم جدوى الشكوى لأي من هؤلاء الجلادين الوحوش؛ لأنها لم تكن لتغير شيئا أبدا حتى بحسابات المصلحة النفعية.
كنت متيقنا أن قرار الحكم علينا بالموت قد صدر من لحظة انتهاء التحقيق، والتوقيع أمام قاضي التحقيق صادق عليه بالختم الرسمي بشكل نهائي. وهذه المقابلة ما كانت إلا بمثابة نظرة أخيرة على جثمان مسجى ينتظر الدفن بعد برهة قصيرة. وستثبت الأيام ذلك قريبا، وقريبا جدا. وحسنا فعلت حين لم أستجد من قلوب ختم عليها بصنعها القبيح وفي أسماعها حشر حجر صمها، وأسدلت على أبصارها ستائر غشاوة لا يتسرب منها نور الحقيقة فأضحوا يعيشون في ظلمات قاع بحر لجي، فأنى لهم مع كل هذا النظر إلى شمس الحقيقة ولو كانت تسطع مشرقة فوق يم الحياة والإنسانية.
15
على ذكر قاضي التحقيق، هناك قصة لو تمت لاختلفت الأمور كلها ولسارت في مسار آخر. قلت في بواكير هذه الحكاية: «إننا بلغنا فسحة في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدا للحظة كان يمكن أن تكون تاريخية.» جاء الآن دور هذه الحكاية لأرويها. كانت أجهزة الأمن رغم كل أعمالها التعسفية وممارساتها الخارجة عن القانون، الشبيهة بعمل العصابات الإجرامية، بل هي كذلك فعلا، إلا أنها كانت تحرص جدا على منح كل إجراءاتها شكلا قانونيا صوريا، حتى وإن لم يطبق بالمرة. فمثلا الإعدامات تنفذ بحضور ممثلين عن التنفيذ من جهات معنية به، وإذا قتل شخص أثناء التعذيب تصدر له ورقة يدعى فيها أنه قد حكم عليه بالإعدام من محكمة الثورة ونفذ به الحكم. قريب لي قتل في التعذيب وتسلمت عائلته جثته ودفنته. وبعد سقوط النظام الفاشي وجدنا ورقة رسمية تتحدث عن تنفيذ حكم الإعدام به لكن بعد أربع سنوات من يوم مواراته التراب. إذا أرادوا إعدام صبي لم يبلغ سن البلوغ يأخذونه إلى مستشفى لمقابلة لجنة طبية خاصة تقرر أن عمره الحقيقي غير عمره المثبت رسميا، ثم يقدم إلى محكمة الثورة على أنه رجل بالغ تجاوز السن القانونية ويصدر عليه حكم الإعدام أو المؤبد وفقا للقانون.
التقيت كثيرا ممن قابلوا هذه اللجنة ممن رفعت سنهم القانونية وحكم عليهم كبالغين راشدين وأخذوا أحكاما بالمؤبد، ورأيت بعيني وسكنت مع آخرين في الزنزانة ذاتها مع مجموعة سجناء أعمارهم تحت السن القانونية، حتى إن بعضهم لم يك يتجاوز الثلاثة عشر عاما، وقضوا مددا طويلة في السجن بالظروف نفسها التي كنا نعيشها، كانوا مثل الصبية والأطفال، بل هم كذلك وكنا نرعاهم رعاية خاصة.
ومن ضمن هذه الإجراءات الشكلية بحسب القانون: تحقيقان؛ تحقيق أولي وآخر قضائي. الأول كانت تنتزع الاعترافات فيه تحت التعذيب، أما التحقيق القضائي فيعرض المتهم مع إفادته أمام قاضي تحقيق، ويسأله القاضي بعد أن يقرأ إفادته عليه: هل توافق على هذه الإفادة؟ وإذا أقر المتهم بها يوقع عليها وتصبح رسمية. وطبعا هذا إجراء صوري أما الحقيقة فشيء آخر. إذ كانوا يعرضون المتهم على القاضي. فإن قال نعم، مرت الأمور كما هي، وأما إن أنكر الاعترافات فإنهم يعرضونه لجولة جديدة من التعذيب القاسي المرير ويعاد عرضه ثانية أمام قاضي التحقيق ولا سبيل له لإنكار الإفادة مطلقا شاء أم أبى. في بعض الأحيان يتجاوزون حتى هذا الشكل الصوري ويعتبرون التحقيق الأولي تحقيقا قضائيا، وكانوا يلجئون لهذا الإجراء مع المتهمين الذين حسم أمرهم بمجرد اعتقالهم؛ لأنهم مطلوبون بشدة من قبل الأجهزة الأمنية. السلطة القمعية كانت قد قررت قتلهم مسبقا حتى قبل إلقاء القبض عليهم؛ لذا كل ما كان يحصل هو جولة قاسية من التعذيب لانتزاع المعلومات منهم فقط، ثم يقسر على التوقيع على إفادة تعتبر تحقيقا قضائيا ويرسل إلى الإعدام بأسرع ما يمكن، حتى لو لم يعترف أو رفض التوقيع على الإفادة المفبركة، تعد أوراق تحقيق مزيفة في غرفة خاصة بهذا ويعدم على أي حال.
في نهار يوم شتائي استدعيت إلى قاضي التحقيق كالعادة، وصعدت مع حارس أمني واحد عبر المصعد. وعندما وصلنا الردهة العلوية تركت هناك واقفا بانتظار وصول قاضي التحقيق، تأملت الردهة وعرفت أنها المكان الأول الذي شهد بداية جولات التعذيب. كانت ردهة واسعة بين مجموعة غرف، إلى اليمين هناك غرفة التقيت فيها ضابط التحقيق (ع. ع.) لأول مرة وإلى اليسار يوجد ممر فيه أكثر من غرفة، إلا أن ما لفت انتباهي أن لهذه الردهة الواسعة شباكا كبيرا جدا تماما بحجم الجدار، تنسدل عليه ستائر من قماش سميك رصاصية اللون متراصة بكثافة. لعل الشباك كان عرضه يوازي الخمسة أمتار تقريبا، وكان منظرا غريبا فعلا أن تكون ردهة في طابق ثالث تحتوي على شباك واسع بهذا الحجم، وبدا لي كما لو أنه كان جدارا من زجاج.
كنت أقف في منتصف الردهة وحدي طليق اليدين مفتوح العينين، لا يوجد بالقرب مني سوى شرطي أمن واحد ضخم الجثة، يقف تماما بملاصقة الحائط الزجاجي، وهنا خطرت لي فكرة: ماذا يحصل لو أني ركضت بغتة بسرعة كبيرة باتجاه هذا الشرطي وداهمته بكل قوتي؟ إنه بالتأكيد لن يستطيع تدارك الموقف. سآخذه على حين غرة وسوف نحطم الزجاج باندفاعتي نحوه وبثقل جسدينا، وننزل معا من الطابق الثالث إلى الأرض تهشم عظامنا وتكسر جمجمتانا، ونقتل سوية، وأكون بذلك عاقبتهم على قتلي المقرر لاحقا بقتل واحد منهم.
অজানা পৃষ্ঠা