মিন নাকল ইলা ইবদাচ তাদউইন
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
জনগুলি
30
وهذا لا يمنع من قيام دراسات أخرى أكثر دقة حول النص العربي القديم، النص اليوناني وترجماته السريانية والعربية ومراحل الشرح والتلخيص والجمع والتأليف أكثر دقة، ليس استشراقا بل أبحاثا وطنية خالصة تحمل هموم العلم وهموم الوطن، هم التراث وهم التجديد، هم القديم وهم الجديد، رصيد التاريخ وأزمة الإبداع. هناك دافع وطني في البحث العلمي حتى ولو كان مجرد يقظة الذات تجاه الموضوع، خاصة الموضوعات التاريخية والحضارية، تضع الأنا في مواجهة الآخر؛ فالأنا غاية والآخر وسيلة، علوم الأنا هي علوم الغايات، وعلوم الآخر هي علوم الوسائل، خاصة وقد أخذ الآخر موقف الهجوم من الأنا منكرا دوره في التاريخ بعد أن تصدر المركز ودفع بجميع الحضارات البشرية إلى الأطراف. والوعي الحضاري هو أساس الوعي العلمي.
فبعد اتصالنا بالغرب منذ أكثر من مائتي عام، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بدأت علاقة التتلمذ والتعلم على يديه. وتم نقل المعلومات منه إلينا حتى أصبح العالم هو المتعلم؛ أي حامل العلم وناقله وليس مبدعه وخالقه. وطالت مدة نقل المعارف دون أن ينشأ علم جديد. ولما كان معدل الغرب في الخلق والإبداع أسرع بكثير من معدلنا في النقل والترجمة، ازدادت المسافة بيننا. وكلما ظننا أننا قاربنا اللحاق اليوم بما أنتجه بالأمس اتسعت الهوة بيننا حتى نصاب بالصدمة الحضارية، ونيأس من التقدم، ونكتفي بدور التابع، ويصبح الآخر في المقدمة ونحن في المؤخرة، حتى لا نكاد نراه فيتبع بعضنا بعضا. ونتحول إلى تلميذ أبدي لا دور له إلا النقل. ويكون الغرب هو المعلم الأبدي، دوره الأساسي في الإبداع. وتتراكم المعلومات طبقة فوق طبقة، وعلما فوق علم، حتى نطمس معالم الواقع ويغيب التنظير المباشر له. فتكون الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ويصبح العلم حرفة وليس رسالة، وينشأ التكسب بالعلم، وتظهر طبقة من حملة العلم ونقلة المعلومات، تحصل على الشهادات والأوسمة، وتنال الجوائز المحلية والعالمية، وتصبح نجوما في أجهزة الإعلام تنافس نجوم الرقص والغناء. وتتكافأ النظريات، وتتعادل المذاهب دون قدرة على الاختيار أو النقد إما بمراجعتها على العقل أو بالتحقق من صدقها في الواقع، وتنفصل عن بيئتها الأولى التي خرجت منها، وتصبح «عالمية» خاصة بعد سيطرة أجهزة الإعلام الغربية على وسائل نقل المعلومات، فتنتشر حضارة الغرب وحدها، وتطمس معالم الثقافات المحلية، وتصبح الحضارة الإنسانية ذات بعد واحد، أحادية الطرف، وحيدة القرن. بل إن ثقافات الغرب قد تمت السيطرة عليها بثقافة أعم هي الثقافة الأمريكية؛ أي اللاتاريخي اللاحضاري الآلي الذي حاول الجمع بين الثقافات الأوروبية المحلية، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والإسبانية، على أيدي المهاجرين الجدد والفارين من القانون والباحثين عن الذهب، العنصري الطائفي الذي لم تؤثر فيه فلسفة التنوير في الأعماق، في التصورات وفي السلوك. ولما كانت الثقافة الأساس النظري لكل انتشار آخر، فسرعان ما تعم السيطرة الاقتصادية والعسكرية، وتعم التبعية، وتضيع الهوية لدى كل الشعوب غير الأوروبية. ولا خلاص من ذلك إلا بثورة عارمة مضادة تنقل الأمة من الفعل إلى رد الفعل، من التغريب إلى مقاومة الغرب؛ فمقاومة الغرب إنما هي نتيجة التغريب ورد فعل عليه. يولد الشيء نقيضه، ويتضمنه ليرثه ويحل محله.
لقد طالت فترة الترجمة والنقل عن الغرب بالرغم من مرور أكثر من مائتي عام. ولم نصل إلى مرحلة الشرح والتلخيص الواعي كمرحلة نحو العرض والتأليف من أجل الوصول النهائي إلى مرحلة الخلق والإبداع. لم نصل إلى مرحلة صياغة الحكمة النظرية والحكمة العملية إلى صياغة منطق وطبيعيات وإلهيات كما وصل القدماء. ترجماتنا معظمها عشوائي لأسباب المهنة، والقليل منها قصدي من أجل المساهمة في النهضة العربية المعاصرة.
31
غلب على مصطلحاتها التعريب؛ أي النقل الصوتي للفظ، وليس الترجمة أي النقل المعنوي، حتى امتلأت اللغة العربية المعاصرة بمعظم المصطلحات العلمية الحديثة المعربة، وخلت من الشروح أو التلخيصات أو التعليقات القادرة على الغوص في المعنى وإعادة عرضها بأسلوب جديد، وتوجيه مقاصدها من الوافد نحو الموروث لخدمة الثقافة المحلية وليس ترويجا للثقافة الأجنبية. وما زالت الترجمة مستمرة، ولم نصل بعد إلى مرحلة التأليف الفلسفي المستقل الذي يجتمع فيه الوافد والموروث، أو الذي يتم فيه توظيف الوافد من أجل إعادة صياغة الموروث طبقا لثقافة العصر، وإعادة عرض القديم من خلال الجديد من أجل بداية إبداع ثقافي عربي جديد.
32
كانت الترجمات امتدادا للموروث داخل الوفد وترويجا لثقافة الخارج في الداخل كنوع من الوكالة الحضارية له؛ فالعقلاني يروج للعقلانية، والعلمي يترجم الاتجاهات العلمية، والإنساني الوجودي ينقل الوجودية، والماركسي يبشر بالماركسية، والبنيوي يدعو إلى البنيوية حتى أصبح الفكر العربي المعاصر مجرد تجاور بين ثقافتين، الموروث والوافد دون تفاعل بينهما إلا في أقل القليل بطريق المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في الآخر وقراءة الآخر في الأنا كما فعل الطهطاوي في «تخليص الإبريز».
كانت الثقافة الغربية نمطا للتحديث في الفكر الغربي المعاصر بتياراته الرئيسية الثلاث: الإصلاح الديني، والفكر الليبرالي، والتيار العلمي العلماني. وكانت فلسفة التنوير مطلبا للجميع، ونموذجا يحتذى به تلبية لمطالب الواقع من عقلانية وحرية ونزعة إنسانية وعلمية طبيعية وتقدم. كما ظهرت مذاهب سياسية تعبر عن اختيارات الصفوة مثل الليبرالية والقومية والماركسية في مقابل إسلامية الجماهير ونزعاتها المحافظة. وذاعت المذاهب والمناهج الفلسفية الغربية من مثالية ووضعية ووجودية وشخصانية وماركسية وظاهرية وبنيوية وأخيرا تفكيكية وما بعد الحداثة. فلما ظهرت عزلتها وسط الثقافة العامة وحصارها من الموروث حاولت التكيف معه. فخرجت لنا «الجوانية» باعتبارها مثالية إسلامية، و«الماركسية التاريخانية» أو «الماركسية الليبرالية» باعتبارها ماركسية عربية، و«الشخصانية الإسلامية» و«الوجودية العربية» و«الاشتراكية العربية» تستخدم فيها الثقافة المحلية لتبرير الثقافة الوافدة، وليس الثقافة الوافدة، كأدوات تعبير عن الثقافة المحلية.
33
অজানা পৃষ্ঠা