জানালা থেকে
من النافذة
জনগুলি
بعض أسرار اللغات (وقد حذف الأستاذ العقاد هذا البيت الأخير - ولعله سقط سهوا - حين نشر الأجزاء الأربعة الأولى من ديوانه في مجلد واحد سنة 1928.)
وقد أخذت عيني اليوم فتاة أسميها زكية - لا أدري لماذا - ولكنها تبدو على حال غير حالها المألوف، فإن عهدي بها أنها تلميذة، وقد اعتدت أن أراها في الشتاء الماضي ترتدي زي التلميذات وتحمل حقيبة الكتب، أما اليوم فإنها تلبس السواد وتحمل في يدها شيئا ملفوفا في جريدة قديمة، فأنا أرجح أن يكون أبوها قد انتقل إلى الدار الأخرى. مسكينة!
وقاتل الله هذه المنايا ورميها حبات القلوب على عمد، أو عفوا، فإن الأمرين سيان.
وقد تركت المدرسة - ولا شك - بعد أن فقدت عائلها، وأصبحت لا قبل لها بنفقات التعلم. ومن يدري؟ ماذا كانت خليقة أن تكون لو كان قد أتيح لها أن تواصل الدرس. ولكن متوجهها أخذ عليها فهي تكف عن التحصيل، ويسوء حال أسرتها - فإن الثوب يبدو رثا - فيدفعها شظف العيش إلى العمل؛ أي: نعم العمل، فإني أراها تصدف عن الترام رقم 3 وتركب الآخر الذي رقمه 33، وهو يذهب إلى إمبابة، وهناك وفي الطريق إلى هذه القرية مصانع شتى، ولا شك أن هذا الشيء الملفف الذي تحمله في يدها تارة، وتضعه تحت إبطها تارة أخرى، رغيف وإدام لغذائها. مسكينة! صارت التلميذة التي كانت في خصب من العيش ولين، والتي كانت تتطلع إلى مستقبل حسن، وتطمع أن تكون معلمة أو طبيبة أو محامية أو غير ذلك، صارت وهمها الآن أن تكسب رزقها بعرق الجبين! أأقول: رزقها؟ كلا! بل رزقها ورزق أخواتها وأمها أيضا على الأرجح، ولعل لها أخا يستعين بالقليل اليسير الذي تكسبه على التعليم، وعسى أن يكون اعتماده عليها بعد الله في كسوة العيد! من كان يظن أن فتاة مصرية في مثل هذه السن الغضة تسد مسد الرجال وتعول أسرة أعسرت بموت أبيها؟!
وكرت بي الذاكرة - وأنا أفكر في هذا - إلى أيام الطلب والتحصيل، وكنت تلميذا في المدرسة الخديوية، وبيتي في حي السيدة زينب وطريقي إلى المدرسة ومنها على درب الجماميز، وكان في الدور الذي يلينا أسرة حسنة الحال - على خلافنا - لها فتاة تتعلم في المدرسة السنية، فكانت تخرج مؤتزرة، ولعل من القراء من يذكر «الحبرة» القديمة اللماعة، والنقاب الأبيض، فهذا كان ما تكتسي به وتستر فوق ثيابها، كأن الثياب لم تكن سترا كافيا! وكان الخادم يخرج معها ويحمل عنها الكتب والكراسات وغيرها من الأدوات، وينتظرها على باب المدرسة عصرا ليعود بها، فما كان يليق يومئذ أو يجوز في حال ما، أن تسير فتاة ناهد وحدها في الطريق. ثم مات أبوها، ولم يخلف لأسرته غير الدعوات الصالحات أن «يسترها»، فلم تتخلف الفتاة عن المدرسة ولم تنقطع، فقد راحت الأم تبيع حليها وتنفق على بيتها وفتاتها، حتى عطلت، فشرعت تبيع ما بها غنى عنه من أثاث البيت، ورأت أن هذا لا يكفي فاتخذت الخياطة لكسب الرزق وسد الخلة، ولكنها كانت تفعل هذا سرا، فكانت صديقاتها يرسلن إليها الثياب فتفصلها وتخيطها وتردها، ولا يعلم بذلك أحد سوى خاصتها ممن هن موضع سرها، وخطبت الفتاة فعجلت بزواجها واستراحت من همها، ومضت هي على سننها تكسب رزقها بالعمل ليلا على ضوء مصباح البترول، وتكف عنه وتخفي ما كانت فيه إذا جاء ضيف أو زارها أحد من الأهل والأصهار. إي نعم، فقد كانت تخفي سرها عن هؤلاء الأهل مخافة أن يأنفوا ويستنكفوا أو يعيبوا أو يشهروا، وإن كانوا لا يعينونها بشيء ما. وكانت فتاتها تود أن تواظب على الدرس حتى تتخرج وتصبح معلمة، ولكن أمها فضلت الزواج، لما جاء الكفء، وقالت: إن هذا المستقبل هو الطبيعي لكل فتاة، فلا داعي للإرجاء، فكان ما أرادت.
ولكن أم «زكية» - إذا كان لها أم - تقعد في بيتها مرتاحة راضية وتقذف ببنتها الصغيرة على الدنيا لتعمل وتكد وتعود إليها آخر كل أسبوع بعشرات من القروش، لعلها كل مسكة الأسرة من الرزق.
وعسى أن تكون «زكية» مغتبطة مبتهجة، وأكبر الظن أنها لا يخطر لها أن الطريق الجديد الذي حولتها صروف الأيام إليه غاص بالمعاطب، وأن الدنيا قاسية لا تترفق بأحد، فلنسأل الله لها السلامة فإنها صغيرة غريرة. ***
آه زكية! ماذا جرى؟ إنها زكية ولا شك، وإن كانت لا تعرف أن هذا اسمها عندي، وقد ألفت أن أطلقه عليها وأدعوها به حتى لأحسبني خليقا أن أنفر وأستغرب إذا تبينت أن لها اسما غيره، فإن المرء يألف أن يعرف الشيء أو الإنسان أو الحيوان باسم معين، وينكر أن يسمعه يدعى بغيره، ويحس أن الاسم الجديد لا يوافقه، كأن نرى امرأة في زي رجل أو رجلا في زي امرأة. وما أظن أن هذا إلا من فعل العادة، ولو أن فتى عوده ذووه أن يدعو الكلب قطا لأنكر واستهجن أن يرى غيره يقول: إنه كلب.
واحتجت إلى نظارتي لأستثبت؛ فقد ساء بصري قليلا. نعم هي زكية بقدها الممشوق ووجهها الصابح وديباجتها المشرقة، ولكنها على هذا زكية جديدة لا عهد لي بها، فقد خلعت السواد، وحسنا فعلت، فإنه لون يقبض الصدر، ويأخذ بالمخنق، ويعصر القلب، وما أدري كيف يطيقه على بدنه إنسان، ولو كان الأمر إلي لنفيته من الأرض وأرحت الناس من ثقله ومن سوء ما يوحي.
وليس ثوبها الجديد بجديد، فما عدت - فيما أرى - أن عادت إلى القديم الذي طرحته إلى حين، وأكبر ظني أن هذا الذي اتخذته الآن من الكتان الملون، وهو من أصلح ما يلبس في الحر واليبوسة، وإن لم يكن كالحرير رقة واسترسالا وتجلية. ولزكية شعر أثيث مسترخ، وكانت تجمع مقدمه وترفعه وتلويه وتثبته بالمشابك، وتدع ما عداه مسترسلا يعبث به النسيم إذا شاء، واليوم أراها قد زادت ففرقته عن شمال، وأحسبها دهنته بشيء فإنه يلمع، وكانت عاطلا فعلقت في أذنها قرطا من حبة لا أدري من أي شيء هي، وغرزت في شعرها حلية على صفة الوردة، ومن يدري لعلها تطيبت أيضا.
অজানা পৃষ্ঠা