على أطلال طروادة
هذا عنوان فصل قيم كتبه صديقنا الأستاذ الدكتور محمد عوض، وهنا أقف مترددا وقفة قصيرة في تسمية الصحيفة التي كتبها فيها الأستاذ الصديق، لا لشيء إلا لأن الصديق نفسه حين كتب الفصل الذي كتبه إنما كان يريد أن يرد علي فيما ذكرته به في مقالي «بين كأسين»، فسماني وسمى الفصل الذي أراد أن يناقشه، ولكنه لم يسم الصحيفة التي نشر فيها هذا الفصل.
ومن الناس من قرأ مقالة الأستاذ ولم يكن قرأ مقالتي، فأحب أن يعرف أين نشرت فسألني عن ذلك. وواضح جدا أن الأستاذ لم يقصد إلى هذا الإهمال، وإنما شغل عنه بالفكرة التي كان يريد أن يؤديها، وإن كان الأصل المقرر عند العلماء أن ذكر المصادر فرض على من يكتب في العلم.
على أني لا أستطيع أن أصلح خطأ بالتورط في مثله، فلا بد لي إذن من أن أسمي المصدر الذي نشر فيه مقال الأستاذ الصديق وهو مجلة الهلال الغراء. وأكبر ظني، بل أكبر يقيني - إن كان اليقين يكبر ويصغر - أن الصديق إذا رد على هذا الفصل أو على غيره مما أكتبه أنا أو يكتبه غيري سيتوخى الأصل العلمي اليسير فلا يكتفي بتسمية الكاتب الذي يرد عليه، بل يسمي معه المصدر الذي كتب فيه.
وبعد، فإن بين الصديق وبيني خصومتين: إحداهما لا تكاد تحتمل الجد، والأخرى لا تكاد تحتمل المزاح. فأما الأولى فمصدرها أن الصديق قد قرر حين قرأ الفصل الذي كتبته أني رويت ما رويت فيه من الحديث عن صاحب لي كان مريضا قد أدركه الزكام، أو ألم به البرد، فخيل إليه أن الأستاذ قد أسرف في الإساءة إلى هيلانة حين أضاف حرب طروادة إلى التجارة والتماس المنافع. وأنا أستطيع أن أؤكد للصديق تأكيدا قاطعا أن صاحبي لم يكن مريضا ولا مزكوما ولا متأثرا بالبرد القوي أو الضعيف حين ألقى إلي حديثه، ولا حين قرأ الفصل الذي نشرته الهلال، ولقد سألته وألححت عليه في السؤال فأقسم جهد أيمانه ما أدركه البرد ولا الزكام، ولا ألم به المرض أثناء قراءة هذا الفصل، وأثناء التحدث إلي بتأثير في نفسه، ولم أطمئن إلى حديث صاحبي غلوا في العناية وإلحاحا في التحقيق، فجئت وأطلت البحث، واستقصيت وأنعمت في الاستقصاء، وسألت عن صاحبي القريب منه والبعيد عنه، فانتهت إلي الأنباء كلها بأنه كان صحيحا موفورا أثناء هذه الأوقات، لم يدركه برد، ولم يلم به زكام، فكان مالكا لعقله وقلبه وقوته وحلمه جميعا، وأن الصديق بما كتب عن هيلانة قد أخرجه عن طوره شيئا ونفره من العلم قليلا، ودفعه إلى الأدب دفعا فتحدث إلي بهذا الحديث. ولعل الصديق ينصف صاحبي فيعترف بأنه لم ينكر العلم ولم يثر به ولم يخرج عليه، وأنا أضطر إلى الإذعان له والخضوع لما ينتهي إليه من النتائج حين يحصي ويستقصي، وحين يعلل ويحلل، وحين يقلب الأمور ظهرا لبطن أو بطنا لظهر، ويضربها أخماسا في أسداس أو أسداسا في أخماس، وينتهي إلى ما يغني حينا، وإلى ما لا يغني أحيانا.
لم ينكر صاحبي العلم، ولكنه ضاق به، ومن حق صاحبي أن يضيق بالعلم، ومن حق الأستاذ عوض أن يضيق بالأدب، وليس من الضروري أن ترضى النفوس عن العلم والأدب جميعا في جميع أوقاتها. ولكن أخشى أن أثقل على الأستاذ الصديق بهذا الإلحاح في طلب الإنصاف، فأنا أعلم أن الصديق كان مريضا حين كتب الفصل الذي أرد عليه أنا اليوم. وكان مرضه يسيرا مع السرور، لم يكن يتجاوز بردا خفيفا وزكاما هينا سهلا غير من صوته بعض الشيء، ولعله غير من خلقه فدفعه إلى الضجر بعض الدفع، وإلى الضيق بما لم يتعود أن يضيق به. ومن خصائص الزكام - فيما يقول الناس - أنه يدفع إلى السأم وضيق الصدر، ويشغل عن المزاح ويصرف عن الدعابة ويقبح الحسن ويسوئ المحمود. وأكبر الظن أن الصديق حين أراد أن يرد على ذلك الفصل ظنه جدا مع أنه لم يكن إلا مزاحا، فهاجمه مهاجمة الجاد، وخيل إليه أنه سيدافع عن العلم دفاع الأبطال؛ لأن العلم معرض للخطر، ولأن صرحه الشامخ الشاهق المتين يريد أن ينقض فلا بد من إقامته. والأمر أيسر من هذا وأهون خطرا لولا الزكام، فلم يرد صاحبي أن يهاجم العلم لأنه لم يرد أن يكون سخيفا، وإنما أراد أن يداعب العلم، وويل للحياة إذا حرمت فيها الدعابة على الناس. وأؤكد للأستاذ الصديق أن صاحبي لم يضق بفصله الثاني، ولم يتأذ بشيء من هذا المزاح الذي جاء فيه، ولكنه حريص على أن تقر الأمور في نصابها، وعلى أن يسجل أنه لم يكن مزكوما ولا ضحية للبرد في ذلك الوقت الذي اتهمه فيه الأستاذ بالبرد والزكام. وما أظن الصديق يستطيع أن يجحد أنه كان مزكوما متأثرا بالبرد، وأنه اعتكف اعتكافا ما، وأنه كتب هذا الفصل في ظل ذلك البرد وهذا الزكام وأثناء هذا الاعتكاف. وهذه نقطة خطيرة جدا لا بد من تحقيقها؛ لأن العلم يحرض على مثل هذا التحقيق، فرب زكام أحدث في تاريخ العلم حدثا ذا بال. وكثيرا ما يزعم مؤرخو العلم أن للعلل العارضة والأسقام الطارئة وما يلم بالعلماء والباحثين، وبالحكماء والفلاسفة من عسر الهضم آثارا بالغة فيما يفكرون ويكتبون. والأستاذ يوافقني على أن من الأشياء ذات الخطر أن نؤرخ بصحته الغالية من هذا الانحراف اليسير أحيانا، فيعرضه لما لم يتعود أن يتعرض له من السأم ويغشى ابتسامته الحلوة بما لم تتعود أن تتغشى به من العبوس، والأمر بعد هذا كله لا يعدو أن يكون دعابة ومزاحا.
فأما الخصومة الأخرى فهي أجل من ذلك خطرا وأعظم شأنا لأنها تدور حول طروادة وحرب طروادة، وحول هذا العنق من أعناق الدولة التي تسمى الدردانيل؛ فقد كنت وكان صاحبي على علم منذ زمن بعيد ببحث شليمان عن طروادة، وبهذه المدن التسع التي انتهى إليها هذا البحث من سنة 1871 إلى سنة 1894، وبالنتائج الأخرى الخطيرة التي انتهى إليها بحث شليمان وأصحابه في الجنوب الشرقي لبلاد اليونان. وكنت وكان صاحبي منذ زمن بعيد على علم بفروض شليمان وأصحابه، وبكثير مما قيل حول هذه الفروض مما يثير الشك حينا ويدعو إلى الترجيح حينا آخر. ومع ذلك فإن في الفصل الذي كتبه الصديق شيئا ما أظن أن العلم يطمئن إليه اطمئنانا تاما.
فلنلاحظ قبل كل شيء أن اليقين لم يستقر بعد في نفوس العلماء بأن المدن التي استكشفها شليمان على التل المعروف بحصار لق قد استكشفت في نفس المكان الذي كانت تقوم فيه طروادة هيلانة وباريس والإلياذة وهوميروس. وإنما العلماء مستيقنون أن هذه المدن قد استكشفت في المكان الذي كانت تقوم فيه مدينة طروادة التي أقيمت في العصر التاريخي وأكبر من شأنها اليونان والرومان. فأما المدينة القديمة فالعلماء يقفون منها موقف الترجيح لا موقف اليقين. والصديق يعلم حق العلم أن زملاءه الجغرافيين من اليونان القدماء لم يكونوا متفقين على أن طروادة التاريخية الجديدة كانت تقوم على أطلال طروادة الهوميرية القديمة. والصديق يعلم - من غير شك - أن المدن التي استكشفها شليمان لم تشتمل على نقش مكتوب أو على آية تدل دلالة قاطعة على أنها كانت تقوم حيث قامت طروادة هوميروس. وإذا كان شليمان وأصحابه قد زعموا ذلك فإنما تأثروا بحسن الظن وساروا سيرة المرجحين وأعانتهم على ذلك آثار الحريق. والصديق يعلم أن شليمان كان يعتقد أنه استكشف قبر أجامبون ومدينته في الجنوب الشرقي لبلاد اليونان كما استكشف كنز بريام ومدينته على الساحل الآسيوي للدردنيل. وأن هذا كله ظن لم يقم عليه الدليل التاريخي المقنع بعد، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذا الظن أساسا لحقائق نسميها علما ونقيم عليها حقائق مثلها ونمضي في هذا إلى غير حد. من الجائز جدا - بل من الراجح - أن يكون شليمان قد استكشف طروادة، ولكن الدليل القاطع لم يظهر بعد. فلنؤثر الحيطة حين نتحدث عن هذه المدينة، ولنؤثر الحيطة حين ننتهي من هذا الحديث إلى النتائج الخطيرة التي نسجلها في الفصول العلمية تسجيلا.
وأنا أريد أن أقتنع بأن شليمان قد استكشف طروادة هوميروس، وبأن طروادة هذه كانت تقوم على بعد ثمانية كيلومترات من الدردنيل. وأريد أن أرفض آراء العلماء القدماء والمحدثين الذين يقيمون هذه المدينة في أماكن أخرى. فما رأي الأستاذ الصديق في أني بعد هذا كله لا أطمئن اطمئنانا علميا إلى أن تلك الحرب التي أثارها اليونان على طروادة كانت من أجل الدردنيل ومن أجل السيادة على البحر؟ لأن النص التاريخي الذي يثبت ذلك لم يوجد بعد، فإلى أن يوجد هذا النص يجب أن نتجنب القطع والجزم. ولأن العناية بالبحر الأسود وما ينبسط حوله من الأرض لم تكن قد ظهرت بعد كما يقول الأستاذ نفسه وكما يدل عليه خلو الإلياذة وما يعاصرها من الأساطير من الذكر الواضح لهذه الأرض. وإنما ظهرت العناية بالبحر الأسود وما حوله في عصور متأخرة من عصر الإلياذة، أو عن عصر هذه الحرب التي أثيرت على طروادة، ولأن اليونان في ذلك الوقت كانوا يستطيعون أن يمضوا في البحر محتاطين دون أن يخشوا منافسة بحرية خطيرة في هذه النواحي، فلم يحدثنا الأستاذ ولم تحدثنا الأساطير بأن طروادة كان لها أسطول يستطيع أن يرد اليونانيين عن الوصول إلى البحر الأسود إن حاولوا الوصول إليه.
وليس من شك في أن قصة هذه الحرب رمز لخطوب تتصل بالتنافس حول المنافع بين اليونان وتلك المدينة الآسيوية العظيمة، ولكني أشك الشك كله في أن هذا التنافس كان بحريا، وأرجح أن هذه المدينة كانت ملتقى خطيرا للتجارة التي كانت تأتي من أعماق الشرق الآسيوي، فأراد اليونان أن يستقروا في هذا المكان كما أرادوا أن يستقروا في الساحل الآسيوي كله.
অজানা পৃষ্ঠা