ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم، وإذا الأدباء ينسون حديث مختار إن كانوا قد ذكروه؛ لأن حديثا آخر قد فتحت لهم أبوابه، ومدت لهم أسبابه، وهو حديث صحيفة اضطرها حكم القضاء إلى الصمت، فتفرق كتابها، وانتشر أصحابها في الأرض يبتغون من فضل الله عليهم وعلى الناس، وسكت هذا الصوت، أو هذه الأصوات التي كانت تسمع مع الصباح في كل يوم، والتي كانت تفتح للساسة والأدباء وأصحاب الاقتصاد والذين يلتمسون الأنباء فنونا من القول وألوانا من الحديث. تحدث الأدباء عن هذا الحدث الأدبي السياسي، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال، وتساءلوا ما باله لم ينطق الأدباء بشيء؟ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
ثم مضى من الأسبوع يوم ويوم ويوم، وإذا حفل يقام واجتماع يحتشد له الناس في ملعب من ملاعب التمثيل، وإذا خطب تلقى مختلفة ألوانها، متباينة أشكالها. وإذا شاعر يكرم بهذا الاجتماع الضخم، وبهذا الاحتفال الرائع، وبهذه الخطب الطوال، وإذا الأدباء - أستغفر الله - بل الشعراء منهم خاصة، يتحدثون بهذا الحدث الأدبي، ويتناقلون أنباءه، ويفسرونها ويؤولونها، في السر أو في الجهر، في النوم أو في اليقظة، في الحقيقة أو في الخيال. ثم يتساءلون ما بال الشعر لم يأخذ بحظه من تكريم الشعر، وما بال الشعراء لم يشاركوا في تكريم الشاعر؛ فكان الجواب أن مصر الآن نائمة تستريح.
وأنا أعترف بأني لم أكره هذا الجواب، ولم أضق به؛ فحب النوم والإغراق في الراحة شر، ولكن بعض الشر أهون من بعض. وأنا أعترف بأني أوثر هذا الجواب على جواب آخر بغيض، لا أحب أن أسمعه ولا أن يسمعه غيري، ولا أن يكون هو المصور لحقيقة الأمر. وقد كان يهمس به بعض الناس الذين يفترون الكذب على الله وعلى الناس، فكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما تثاقل الأدباء والمثقفون من ذكر مختار لأن ذكر مختار شيء يخاف. وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما سكتت أصوات الأدباء عن صمت أولئك الكتاب لأن التعرض لصمت أولئك الكتاب أو نطقهم شيء يخاف. وكانوا يقولون وليتهم لم يقولوا: إنما ثقل الشعر عن تكريم العقاد لأن تكريم العقاد شيء يخاف من جهة، وشيء يشق على الشعراء من جهة أخرى. وقد استقر الخوف على أحد جناحي الشعر، واستقرت المنافسة على جناحه الآخر، فظل المسكين جاثما على الأرض، لا يستطيع أن يرقى في الجو، ولا أن يسبح في الهواء.
أما أنا فلم يعجبني الجواب الأول لأني رجل لا أحب النوم ولا أستريح إلى الراحة، ولم يعجبني الجواب الثاني لأنه كذب كله، أملاه سوء الظن وحب الكيد. ولهذا أعرضت عن أحاديث الأدباء في هذا الأسبوع، وتحدثت إلى نفسي، وإلى نفسي وحدها، بحديث لا صلة بينه وبين الأدب، ولا صلة بينه وبين السياسة، ولا صلة بينه وبين شيء مما يعنى به الناس الممتازون في هذه البلاد الآن، وهو حديث المنجمين. لا تعجب ويأخذك الدهش، فقد فكرت في المنجمين وأطلت التفكير. ألم تزعم لنا الصحف أن السلطان يطارد التنجيم والمنجمين في مصر؟ فما يمنعني أن أفكر في التنجيم والمنجمين وأنا أقرأ في الصحف الأوروبية أن التنجيم ينهض في أوروبا بعد كبوته ويستيقظ بعد نومه الطويل، ويسترد مكانته العليا في قصور الملوك ودواوين الوزراء، أستغفر الله، بل في ميادين القتال، بل في الجامعات أيضا؟ فهذه صحيفة فرنسية - النوڤيل ليترير - تحدثنا بأن صاحب الجلالة جورج الملك الإمبراطور، قد عني بالتنجيم وحديث المنجمين، فأبى أن يسافر ابنه إلى أستراليا في يوم كان المنجمون يخافون منه الشر، واحترقت فيه طيارة فرنسية كانت تحمل حاكم الهند الصينية العام.
والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الزعيم الإيطالي العظيم يحفل بالتنجيم والمنجمين، كما يحفل بالسياسة والساسة، وهي تحدثنا بأن الألمانيين كانوا قد ألحقوا بقيادتهم العليا أثناء الحرب منجمين، وكانت كلمة هؤلاء المنجمين مسموعة، وكانت وعود المنجمين لقواد الألمان أصدق من وعيد المنجمين للمعتصم بن الرشيد. والصحيفة نفسها تحدثنا بأن الألمانيين أنشئوا كرسيا للتنجيم في جامعة برلين سنة 1918. ثم الصحيفة نفسها تلوم فرنسا لأنها لا تعنى بالتنجيم والمنجمين عناية الإنجليز والإيطاليين والألمان، فكيف لو علمت هذه الصحيفة أن المصريين يعدون التنجيم إثما، ويرون المنجمين جماعة من المتشردين؟ ألا يؤذن لنا في أن نلفت السلطان إلى أنه ليس من الضروري أن يكون بيننا وبين الأوروبيين هذا الأمد البعيد فنحارب التنجيم ونعرض عنه حين يؤيده الأوروبيون ويقبلون عليه؟ أليس من الخير أن يكون لكل وزارة منجمها؟ بل ما لنا وللوزارات ومنجميها؟ ألسنا نرى أن التحدث إلى النفس في التنجيم والمنجمين خير من التحدث إليها في الأدب والأدباء؟
من لغو الصيف إلى جد الشتاء
كنا نلغو أثناء الصيف، فلنجد أثناء الشتاء، وماذا كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير إلا على مهل يشبه الوقوف، وفي أناة تضيق بها النفوس. كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين؛ غرف الاستقبال مقفلة، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغلقة ولا تذكر الموسيقى والغناء، فمن للموسيقيين أو المغنين بهذا الجو القوي الحي الذي يبعث النشاط والخفة والمرح في النفوس والقلوب، وفي الألسنة والأيدي!
جو ثقيل يستتبع فتورا ثقيلا، يضطر الناس إلى أن يغدوا على أعمالهم فاترين، ويروحوا إلى بيوتهم مثقلين، لا يكادون ينظرون إلى المائدة حتى ينصرفوا عنها، تنازعهم نفوسهم إلى النوم، وتنازعهم أجسامهم إلى أمهم الأرض، فلا يكادون ينظرون إلى سرير أو شيء يشبه السرير حتى يسرعوا إليه، ويلقوا بأنفسهم عليه، وإذا هم يتصلون به ويتصل بهم، وإذا هم يمتزجون به ويمتزج بهم، وإذا هم يصبحون مثله شيئا جامدا خامدا لا حركة فيه ولا حياة إلا هذه اليقظة الفاترة البطيئة الثقيلة السمجة التي تلم بهم من حين إلى حين، حين يثقل عليهم الحر، ويشتد عليهم القيظ، فيفيقون أو يهمون بالإفاقة، ثم يغرقون في النوم ليفيقوا، ثم ليعودوا إلى الغرق فيه، ثم ينحسر النهار عن الأرض بشمسه المحرقة الملتهبة.
ويقبل الليل متثاقلا متثائبا، يبعث في الجو أنفاسا حارة، كأنها أنفاس العاشق الولهان المحروم قد أوقد الحب الخائب في قلبه نارا مضطرمة قوية اللظى، فلا تكاد أطراف هذا الليل الكسلان تمس الأرض حتى تبعث في الناس نشاطا كسلا يدفعهم إلى حركات متخاذلة، فيخرجون من بيوتهم متثاقلين قد ضاقوا بالدنيا وضاقت بهم. فهم يهيمون إن حملتهم أقدامهم يلتمسون مكانا خضرا نضرا لعلهم يجدون فيه فضلا من نسيم قد صافح الماء، وأطال عشرته بعض الوقت، فيحمل إلى وجوههم وإلى قلوبهم شيئا من هذا البرد الخفيف اللطيف الذي يردهم إلى شيء من الدعة والهدوء.
هنالك يريدون أن يخرجوا من أنفسهم وأن ينسوا أشخاصهم؛ فيعمدون إلى اللغو يقبلون عليه كما يقبل المريض على الطعام، لا يكادون يذوقونه إلا على كره وفي مضض، ولعل الجو أن يعتدل، ولعل النسيم أن يرق، ولعل هذه الأشربة الباردة المثلوجة أن تخفف بعض هذا اللظى الذي يجدونه في نفوسهم وفي أجسامهم فتطلق الألسنة من عقلها بعض الشيء، وتستطيع النفوس أن تحرك أجنحتها قليلا وأن تصعد في الجو بعض التصعيد، ويستطيع المرح الهادئ أن يبعث في القلوب شيئا من الراحة والابتهاج. ثم يتقدم الليل ويذكر الناس أن الصبح سيشرق بعد حين ومعه الأعمال والأثقال، والتكاليف والحر والضيق، وإذا هم مضطرون إلى أن يعودوا إلى بيوتهم ويسعوا إلى مضاجعهم كارهين.
অজানা পৃষ্ঠা