كما تعودوا أن يستمعوا له. وإذا أنا شديد الشوق إلى أن أنضم إلى حلقتهم فآتي ما يأتون من الحركات وأنطق بما ينطقون به من الألفاظ، وأطرب لما يطربون له من الغناء. قل ما شئت وتصورني كما أحببت، واحكم علي بما تريد أن تحكم به، ولكني أحب حلقات الذكر وأطرب لإنشاد المنشدين، وأجد في هذا الجو المصري الخالص لذة ومتاعا وشعورا بالمصرية الخالصة.
وكذلك زرت صديقتي أسيدورا في الصباح وشهدت مجلس الذكر في المساء، وأحسست في هذين الطورين من أطوار حياتي في ذلك اليوم أني مصري حقا، وأن في مصر ما يحب، وأن فيها ما ينبغي أن يفتدى بكل ما يستطيع الإنسان بذله من نفس وجهد ومال.
أترى إلى هذا الذي فر من الحياة العقلية في القاهرة إلى حياة الحيوان في الصحراء فلم يستطع أن يخلص من عقله ولا من تفكيره؟ ولكني انصرفت عن مجلس الذكر، أستغفر الله، بل انصرف عني مجلس الذكر وترك في نفسي أصداء لم تفارقني أثناء الليل، فلما أصبحت قال قائل في الجماعة: لنذهب إلى أسيوط. فأجابت الجماعة كلها: لنذهب إلى أسيوط. ولم أستطع إلا أن أذهب إلى أسيوط. وهناك في أسيوط كان العجب العجاب؛ كان ثلاثة من أساتذة الجامعة قد بلغوا الساعة الرابعة من المساء. وقد انتهى بهم الجوع وبأسرهم إلى أقصاه، وبلغ بهم غايته، فانتهوا إلى ما يحبون من الحياة الحيوانية الخالصة؛ فهم لا يريدون إلا الطعام، ولا يفكرون إلا في الطعام، ولا يتحدثون إلا بالطعام. وقد دعاهم إلى الشاي كريم من أهل المدينة؛ فأقبلوا إلى الشاي جياعا قد أهلكهم الجوع، ظماء قد أضناهم الظمأ. وهنالك بلغت الحيوانية بهم أقصى ما تستطيع أن تنتهي إليه. وكان صاحب الدعوة قد أعد لهم مقدارا صالحا من هذا اللون الذي يسميه المجمع اللغوي شاطرا ومشطورا بينهما طازج فيما يقول أصحاب العبث، والذي يسميه الفرنسيون ساندويش. فلا تسل عن اندفاعهم على هذا الساندوتش البائس، ولا تسل عن التهامهم له وازدرادهم إياه، حتى أفنوه في دقائق لا تكاد تبلغ العشر. ثم عطفوا على ما أعد لهم من ألوان الطعام الأخرى، فمسحوها مسحا وألغوها إلغاء، ونظفوا المائدة منها تنظيفا. فأما الشاي فما أكثر ما شربوا منه، وما أقل ما أطفأ من ظمئهم. ولكن الظريف الطريف من الأمر أنهم لم يشعروا بإسرافهم في الشره وغلوهم في النهم وتجاوزهم للحد في ذلك كله إلا بعد أن فعلوا الأفاعيل بالساندويش والجاتو والشاي.
هنالك، هنالك ليس غير، أحسوا أنهم قد تجاوزوا حدود الحضارة، وتعدوا ما ينبغي للمترفين ألا يتعدوه، وساروا سيرة الحيوان لا سيرة الإنسان. وهنالك أحس أساتذة الجامعة الثلاثة أنهم أسرفوا على أنفسهم وعلى أسرهم وعلى مضيفهم، وأنهم كانوا يستطيعون أن يملكوا أنفسهم أكثر مما ملكوها، وأن يضبطوا غرائزهم أكثر مما ضبطوها، وأن كلمة ساندويش قد أصبحت معادلة لكلمة الخزي والخجل والعار. وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة أن في حياة الناس شيئا يسمى الخجل، وأنهم قد بلغوا من هذا الخجل أقصاه وانتهوا به إلى غايته. وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس هؤلاء الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة أنهم يستطيعون أن يجعلوا لفظ الساندويش مرادفا للفظ الخجل، وأن يصرفوه تصريفا فرنسيا كما يصرف لفظ الخجل في اللغة العربية. وأن يقول قائلهم لمن يأتي الأمر العظيم: ألا تشعر بالساندويش؟ كما يقول القائل العربي لمن يأتي الأمر العظيم: ألا تشعر بالخجل؟
وهنالك، وهنالك ليس غير، أحس هؤلاء الأساتذة الثلاثة من أساتذة الجامعة، بأن من الممكن أن تصبح كلمة الساندويش الأجنبية مرادفة لكلمة الخجل في اللغة العربية.
ولكن ماذا عسى أن ينفع هذا الإحساس بعد أن التهم الساندويش التهاما وازدردت الفطائر ازدرادا ومسحت مائدة الداعي مسحا، ولم يبق عليها إلا أطباق فارغة وفناجين نقية وأباريق قد خلت من كل شيء إلا من بقايا الشاي؟!
وقد تقول حين تصل إلى هذا الموضع من هذا الفصل: ما قيمة هذا الحديث، وما نفع هذا القصص، وما فائدة هذه الدعابة؟ معذرة يا سيدي القارئ العزيز، أتستطيع أن تنبئني عن قيمة اختلاف نوابنا المحترمين في رياسة مجلس النواب وفي عضوية مكتب مجلس النواب في هذه الأيام حين تحاول ألمانيا هدم الإمبراطورية البريطانية فلا تستطيع، وحين تحاول إيطاليا سحق الدولة اليونانية فلا تستطيع؟ معذرة يا سيدي القارئ، لماذا تقبل أن تحدثك الأهرام والمصري في الصباح وأن يحدثك البلاغ والوفد والمقطم في مساء، باختلاف نوابنا المحترمين في رياسة مجلس النواب ومكتب مجلس النواب، ولا تقبل أن أحدثك أنا عن زيارتي لبيت أسيدورا وشهودي لمجلس الذكر وإسراف ثلاثة من أساتذة الجامعة وأسرهم على ساندويش كريم من كرماء أسيوط؟ أتشعر بأن هنالك فرقا بين دعابة الأفراد ودعابة الأمم؟ إن العالم يمثل في هذه الأيام مأساة تمزق القلوب وتفطر الأكباد، وقد يكون لها أعمق الآثار في حياته المقبلة، والأمة المصرية تعبث فيتنافس نوابها فيمن يكون الرئيس، وفيمن يتألف منهم مكتب المجلس؛ فلم تقبل منهم هذا العبث ولا تقبل مني أن أقص عليك زيارتي لصديقتي العزيزة أسيدورا وشهودي لمجلس الذكر في تونة الجبل، وتهالك أصحابي وأسرهم وأسرتي معهم على ذلك الساندويش الذي أؤكد لك أنه كان لذيذا متقنا حقا؟
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو؛ فلنلعب ولنله يا صديقي القارئ العزيز، ولنترك الجد لأصحاب الجد من الأوروبيين، ومن يدري؟ لعلهم أن يكونوا مخطئين فيما يصطنعون من جد، ولعلنا أن نكون مصيبين فيما نصطنع من دعابة وهزل.
المصري الغريب في مصر
هو مختار رحمه الله؛ فقد كان في حياته مرآة صادقة كل الصدق لنفس مصر الخالدة التي لا تحد ولا تحصر. كنت تجد في هذه المرآة صورا صادقة لنفس مصر القديمة، ولنفس مصر الإسلامية، ولنفس مصر هذه التي يكونها هذا الجيل، ولآمال مصر ومثلها العليا بعد أن يتقدم الزمان ويتقدم، وترث أجيال أخرى أرض الوطن عن هذه الأجيال التي تضطرب فيها الآن.
অজানা পৃষ্ঠা