كان على التلاميذ أن يكونوا فيها بُعَيْد مطلع الشمس وأن يبقوا فيها إلى قُبيل الغروب، لا يتحركون ولا يتكلمون ولا يكفّون عن القراءة والتمايل، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوَّث وعبّوا مثل الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد. والمكان مغلق دائمًا، لا يُفتح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّدُ له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه فيه من الشيخ بليَّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد، أو ضربات على رجليه بالفلق (١) من قريب، أو (مونولوج) كامل من أبدع الهجاء يقرع أذنيه ...
ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد «العَصْيان» (٢)، وأهله يجرُّونه والمارة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرغ بالوحل، وبكاؤه يقرّح عينيه وصياحه يجرّح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مجرم عات، يرى نفسه مظلومًا ويرى الناسَ كلهم عليه حتى أبويه ... فتصوروا أثر ذلك في نفسه، وعمله في مستقبل حياته!
* * *
وما عجب أن تبكوا -يا أولادي- رغبة في المدرسة وقد
_________
(١) الكلمة عربية فصيحة.
(٢) بوزن فَعْلان (مثل كسلان ونعسان): تعبير من عامية أهل الشام، يصفون به الولد الذي يستعصي على تنفيذ الأمر ويتشبث بالرفض فيثبّت نفسه ويأبى التحرك من مكانه (مجاهد).
1 / 49