আকিদা থেকে বিপ্লবে (৪): নবুয়ত – পুনরুত্থান
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
জনগুলি
وفي هذه الحالة لا تفنى الدنيا كما قد تفنى الآخرة، وكأنه عندما تضيع الدنيا تخلد وتفنى الآخرة كما هو الحال في التجسيم، وعندما تنال الدنيا تفنى وتبقى الآخرة كما هو الحال في التنزيه، أو كأن خلود الدنيا وفناء الآخرة تعريض ينشأ عن حال الفقد والعجز في الدنيا بإثبات خلودها وفناء الآخرة.
25
وقد تتعدد الديار، دنيا وآخرة، لتجمع بين التصورين الثنائي والواحدي لعلاقة الدنيا بالآخرة؛ فقد تكون الديار خمسا؛ داران للثواب، والثالثة للعقاب، والرابعة للابتداء، والخامسة للابتلاء. وقد كلف الخلق في دار الابتلاء بعد اختبارهم في الدار الأولى، ولا يزال التكوين والتكرير، الاختبار والتكليف، في الدنيا حتى يمتلئ مكيال الخير ومكيال الشر. فإذا امتلأ الأول أصبح العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصا، فينقل إلى الجنة وكأنه لم يلبث طرفة عين. ومطل الغني في الحياة وحبه لها ظلم له. وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شرا محضا، فينتقل إلى النار وكأنه لم يلبث طرفة عين.
26
وقد يعبر عن رسالة الإنسان في الحياة فنيا بالصورة، فتنشأ أمور المعاد، فتكون الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، وتتحول رسالة الإنسان في الحياة ليحققها. فمن حقق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين، في مكانة أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم؛ لأنهم حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحققوا الرسالة هبطوا أسفل سافلين، تسلب منهم الرسالة، ويتحولون إلى أقل مرتبة من الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وحياة الشعور، ثم تعطى لهم فرصة ثانية للاختبار والتكليف. وهكذا تستمر الحياة، تكليف برسالة، ونجاح أو فشل في التحقيق، لا نهاية ولا يأس، بل عملية مستمرة لمزيد من الارتفاع للبعض، ومزيد من الانخفاض للبعض الآخر؛ حتى يظهر التقابل بين الملاك والحيوان، بين النعيم المطلق والعذاب المطلق، بين حياة الوعي وحياة اللاوعي، بين اليقظة والموت.
27
صحيح أن المعاد يكشف عن هم المستقبل لدى كل إنسان ولدى الإنسانية جمعاء، خوفا منه أو ثقة فيه، ويخطط كل كائن حي للمستقبل، بما في ذلك الطير والحشرات من أجل تخزين الطعام وفقس البيض، وأن عبادة الأسلاف وأرواح الموتى والتطلع إلى المستقبل من أجل التعرف عليه والإعداد له، قد يجعل من المعاد أساس الحضارة، وأنه لولاه لانهارت الأمم، وقصر نظر الإنسان. أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداء من حسابات الحاضر؛
28
ولذلك احتوى كثير من النصوص على صور فنية لتصوير المعاد، ليس الغرض منها إصدار أحكام واقع، بل أحكام قيمة. ليس المطلوب منها إيجاد تطابق معانيها مع وقائع مادية، بل كشف هذه المعاني عن جوهر التجربة الإنسانية في المستقبل. لا يحيل النص إذن إلى وقائع مادية، بل يكشف عن وقائع شعورية تعبر عن بنية الوجود الإنساني. إن قسمة الحياة إلى دنيا وآخرة، إلى ديني ودنيوي، لتعبر عن تصور ثنائي للحياة يكشف عن تخلف وكبت وحرمان وتعويض وعجز واستكانة وخور. ولا تعني الآثار المترتبة على الفعل التصوير الفني لهذه الآثار من جنة أو نار؛ فالجنة هي الفائدة المترتبة على النظر، والنار هي الضرر الناتج عن غياب النظر كما هو الحال في تأويل الفلاسفة. الجنة هي آثار الفعل الحميد في الدنيا، والنار هي آثار الفعل القبيح فيها. أمور المعاد إذن هي أولا خطأ في التفسير وتحويل الصور الفنية إلى وقائع مادية، وهي ثانيا خطأ في الاتجاه وتحويل هذا العالم إلى عالم آخر؛ مما يكشف عن موقف مغترب منحرف، معوج منعرج في الحياة، وهي ثالثا خطأ في القصد؛ فليس المقصود منها الحساب الكمي في النهاية، بل توجيه السلوك والتأثير فيه منذ البداية. وكلما عمقت ثقافة الإنسان وقوي وعيه وقلت غربته عن العالم، فإنه لا يكون في حاجة إلى خلق مثل هذه العوالم الوهمية، وأصبح قادرا على التفرقة بين عالم التمني وعالم الواقع. وفي المواقف الثورية تغير المجتمعات حالها بالفعل، وتفرق بين النية والعمل، بين القصد والفعل، بين البداية والنهاية.
إن الخلود رغبة إنسانية خالصة، وتعبير عن طموح الإنسان لتجاوز فنائه وحدوثه؛ فهي رغبة على الدوام لتجاوز الزمان، وطموح في البقاء لتجاوز الفناء. ليس في الخلود فترة انتظار من لحظة الموت إلى لحظة قرار الخلود، بل الخلود متصل لا انتظار فيه عندما يؤثر الإنسان في حياته، ويستمر أثره بعد مماته. الخلود واقع وليس تمنيا، حاضر وليس مستقبلا، يكتسب ولا يوهب. وبالخلود يستمر فعل الإنسان، ويظل الإنسان فاعلا مؤثرا من خلال جهده وأثره طالما هو دائما فعال. يتم الخلود في هذا العالم من خلال الأثر الذي يتركه الإنسان في شعور الآخرين وفي واقعهم. لا يحدث الخلود في عالم آخر، بل في هذا العالم، وفي حياة الناس عندما يتحول سلوك الإنسان إلى قدوة، وحياته إلى نموذج. ليس الخلود ميزة فردية يستأثر بها إنسان دون آخر بصادية يفرح صاحبها بنعيمه المقيم وبعذاب الآخرين، بل هي فردية بمعنى أنها مشروطة بجهد الفرد في البداية، ثم تحيل الإنسان كجزء من الحضارة والتاريخ في النهاية. ومع ذلك فالخلود فردي قد يحدث لفرد دون فرد؛ لأنه كسب؛ وبالتالي ليس كل البشر خالدين. الخلود فقط لمن حول حياته الزمانية إلى حياة أبدية. ليست درجات الخلود خارج هذا العالم في مراتب اجتماعية، ومكاسب مادية، ومنازل ودور من أدوار وقصور، أو زمان يقصر أو يطول، بل درجات الخلود في هذا العالم طبقا للأثر الذي يحدثه فعل الإنسان في حياته على الآخرين. قد تحدث أخطاء في عملية التخليد نتيجة للاجتهاد، خطأ أم صوابا، ونتيجة لضعف الباعث أو شدته، أو شوب القصد وطهارته، أو غموض الهدف ووضوحه. تلك هي بنية الجهد الإنساني الحر كدليل على حرية الإنسان واختياره الحر. وقد تحدث مظاهر نكوص في عملية التخليد عندما تضعف الروح، أو يتفتت الأثر، أو عندما يحدث أثر مضاد، ولكن هذه هي حياة الخلود، حياة تسري عليها قوانين الحياة؛ النشوء والنماء، الانكماش والضمور. الخلود في النهاية للحضارة وللتاريخ، وللشعب صاحب الحضارة وصانع التاريخ. الخلود عملية يساهم فيها كل الأفراد، كل يكمل الآخر حتى يخلد الذهن البشري الخالق المبدع، وهو ما سماه الحكماء خلود العقل الفعال، ولكنه هذه المرة عقل الأمة أفرادا وجماعات، حال في التاريخ وليس مفارقا للعالم. وإن الخلود الفردي ليجد كماله في خلود الجماعة في الحضارة والتاريخ.
অজানা পৃষ্ঠা