أنشأ يخرق أثوابي ويضربني
أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا!
وفي البيت رواية أخرى: «أنشا يمزق أثوابي يؤدبني»، وفيه رواية أخرى: «أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا». وحسبي أن تختلف الروايات في البيت إلى هذا الحد لأشك فيه ولا أتخذه أساسا للغة.
ولست أدري أوفق الرافعي أم لم يوفق حين قال إن هذه الكلمة لم ترد قافية في الشعر القديم، ولكن هذا لا يعنيني، فرأيي في الشعر الذي سبق الإسلام معروف، فهو عندي لا يثبت شيئا ولا يصلح دليلا على شيء. فإذا ثبت استعمال الكلمة في الشعر الذي نظم بعد الإسلام فذلك لا ينقض ما أذهب إليه من أن هذه الكلمة حديثة عرفت بعد القرآن. ومما يرجح هذا أن الأستاذ الشيخ علام نفسه يقول في شيء من الحزن والرثاء، إن هذه الكلمة قد أدركتها حرفة الأدب فلم تذكر في القرآن، والحق أنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر في القرآن الدأب بسكون الهمزة، ومعناه العادة كالدأب بتحريكها. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن هذه الكلمة لا توجد في اللغات السامية المعروفة. وإذن فهي كلمة عربية خالصة للعرب دون غيرهم من الشعوب السامية. ونظن أنها من هذه الكلمات التي نشأت عندما تطورت قريش واتسعت هذا الاتساع العظيم بعد ظهور الإسلام.
أنا إذن لا أوافق الرافعي ولا الشيخ علام في اشتقاق الأدب من الأدب بمعنى الدعاء، ولكني لا أرى بأسا بما كتب الرافعي في كتابه عن معاني هذه الكلمة وأطوارها وإن كان قد أوجز هذا البحث إيجازا شديدا.
وسواء أكانت كلمة الأدب مشتقة من الأدب أو من الدأب، فإن الخلاف بين الشيخ علام وبيني لا يقف عند اللفظ، وإنما يتجاوزه إلى المعنى أيضا. ولست أريد أن أناقش الأستاذ في المعاني القديمة لهذه الكلمة، ولا أن أقف عند هذا الكلام الذي يضيفه إلى النبي وعمر وعلي ومعاوية في غير نقد ولا احتياط، وإنما أقف عند جملة واحدة أرى أنها تشخص الأستاذ الشيخ علام وأصحابه من أنصار القديم تشخيصا مضحكا، وهذه الجملة هي قول الأستاذ:
وكل علم من العلوم له غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه، إلا هذا العلم وعلم والتاريخ، فإنهما يزيدان كل يوم ولن يزالا في نمو مطرد.
وما كنت أعرف قبل اليوم أن «لكل علم غاية ينتهي عندها فتكمل مباحثه إلا علم الأدب والتاريخ» حتى جاء الأستاذ فأنبأني بهذا النبأ الغريب الذي هو فصل ما بين أنصار القديم وأنصار الجديد.
فنحن نعلم أن الحركة العلمية لن تنتهي من فرع من فروع العلوم إلا يوم يفنى العقل الإنساني ويحال بينه وبين البحث والتفكير، ولا أعرف علما من العلوم انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، وإنما أعرف أن كل علم قابل لأن يتغير ويتجدد ويحذف جحودا. وقد كان أهل القرون الوسطى يعتقدون أن علم الفلك قد انتهى عند غايته، وكملت مباحثه، وقيلت فيه الكلمة الأخيرة، ثم جاء من أنبأ بأن العلم لم يبدأ وإنما هي كرة منتقلة متحركة، وأن أفلاك السماء لم يستكشف منها إلا أقلها وأضألها. وكانوا يعتقدون أن فلسفة أرستطاليس هي خاتمة الفلسفة وخلاصتها، وكلمتها الأخيرة، فجاء ديكارت وأنبأهم أن فلسفة أرستطاليس هي بدء الفلسفة لا آخرها ولا وسطها. وكان الناس منذ سنين يرون أنهم قد وصلوا في الطبيعة والرياضة إلى نتائج علمية بعيد أن تنقض، فجاء هنري بوانكاريه، وأينشتين، وأظهرا أن نقض هذه النتائج ليس بالشيء العسير.
ولعل الأستاذ الشيخ علام يعتقد أن الأمر في العلم كالأمر في النحو عند صاحب الورقة الصفراء الذي كتبت له قواعد فحفظها ، وخيل إليه أنه قد حفظ النحو كله. نعم هذه الجملة تشخص الغلاة من أنصار القديم تشخيصا لذيذا، فهم يرون أنه يكفي أن يحفظ أحدهم جملا من العلم ليكون قد ألم بالعلم كله. ولعلهم يمتازون بأنهم يؤمنون بأن كل شيء قد انتهى وأقفل بابه، فلا يمكن أن يضاف إليه ولا أن يزداد فيه. ولقد جاء الأستاذ الشيخ علام بمعجزة حين استطاع أن يعلن أن الأدب لا ينتهي عند غاية، ولا تكمل مباحثه كما تكمل مباحث العلوم الأخرى. وما رأي الأستاذ إذا قلت له إن النحو لم تكمل مباحثه بعد، رغم ما كتبه سيبويه وابن خروف وابن عصفور وابن هشام وابن مالك، ومن إليهم من أعلام الشرق والغرب الإسلاميين؟ بل ما رأي الأستاذ إذا قلت له إن كل علوم اللغة العربية لم تنته عند غايتها ولم تكمل مباحثها، بل هي في حاجة إلى التجديد واستئناف الدرس، ولا سيما النحو والصرف وعلوم البلاغة؟ وما رأي الأستاذ إن قلت له إن الأدب العربي كله محتاج إلى التجديد واستئناف الدرس؟
অজানা পৃষ্ঠা