مرضت أسبوعا، وسافرت أسبوعا، فلم أستطع أن أتحدث إليك، ولقد كنت إلى ذلك مشوقا، ولم تكن تنقصني الخواطر التي تصلح موضوعا للأحاديث، فإن المرض والسفر كليهما ممتلئان بهذه الخواطر التي تصلح موضوعا للنجوى بين الكاتب وقارئه، ولكني كنت عاجزا العجز كله عن أن أملي الخواطر أو أسطرها، وأحسب أني لا أزال عاجزا عن إملاء هذه الخواطر أو تسطيرها؛ لأن بعضها قد ذهب مع المرض والسفر، فلست أذكر منه قليلا ولا كثيرا، ولأن بعضها الآخر قد بقي في نفسي، ولن يذهب ولن يجد النسيان إليه سبيلا، ولكن ليس من سبيل إلى إملائه وتسطيره؛ لأن الوفاء بحقه ليس بالشيء اليسير.
وكيف أستطيع مثلا أن أفي لهؤلاء الأصدقاء الكرام البررة الذين عادوني فأحسنوا العيادة، وودعوني فأحسنوا التوديع، بما أنا مدين لهم به من شكر وثناء. كيف أفي لهم بذلك وهو أجل من أن يفي به كاتب، وأدق من أن يصل إليه واصف، ولا تظن أني أغلو أو أسرف كما جرت بذلك عادة الكتاب إذا أرادوا شكرا أو ثناء، فأنا أبعد الناس عن الغلو، وأشدهم بغضا للإسراف، ويكفيني إذا أردت شيئا أن أسميه باسمه، أو أدل عليه باللفظ الذي وضع له، ولكني كنت أريد أن أحدثك عما بعثت في نفسي عيادة العائدين، وتوديع المودعين، من عواطف مختلفة، وألوان من الشعور متباينة، تختلف باختلاف العائدين والمودعين، وما لهم في نفسي من منزلة، وما لي في قلوبهم من مكانة، ففي ذلك شيء من النفع، وفيه بنوع خاص شيء من اللذة، ولكن محاولة ذلك شاقة؛ لأن هناك عواطف قد لا تجد لها أسماء، وضروبا من الشعور قد لا تجد لها عبارات تؤديها وتفي بما لها من حق. فليس الناس جميعا سواء في حبهم لك، وعطفهم عليك، وليس الناس جميعا سواء فيما تضمر لهم من حب، وما تدخر لهم من مودة. وإذن فتأثرك بعيادتهم وتوديعهم يختلف باختلاف منزلتك في نفوسهم ومكانتهم من قلبك، ولكن هل تستطيع أن تصف ذلك حق الوصف؟ أم هل تستطيع أن تجهر منه بالشيء الكثير؟ أما أنا فأعتقد أن ذلك على نفعه ولذته محال؛ لأن الحياة الاجتماعية وما تواضع الناس عليه في صلاتهم وعلاقاتهم، تحول بيننا وبين ذلك وتأباه كل الإباء، فلأكتف إذن بما كان ينبغي أن أكتفي به منذ بدأت هذه الكلمة، وبما يكتفي الناس به من تسجيل الشكر والثناء للعائدين جميعا والمودعين جميعا، دون أن أفرق بينهم في اللفظ، وإن اضطررت واضطر غيري من الناس إلى التفرقة بينهم في نجوى النفس وحديث الضمير. ولنحتمل إذن، راضين أو كارهين، هذا الظلم البين الذي تضطرنا إليه حياة الاجتماع، فليس هو أثقل ما تضطرنا إليه الحياة الاجتماعية من ضروب الظلم والتقصير، ولو أننا ذهبنا نحلل هذه الحياة وما فيها من ظلم وبغي، ومن إفراط وتفريط، لما انتهينا إلى حد، ولما فرغنا من القول.
ومهما يكن من شيء فإن هناك شعورا لذيذا لا يستطيع أن يتقيه إنسان حساس. يحدث في نفسك أثناء المرض وأوقات السفر حين ترى من حولك ناسا يعطفون عليك ويرقون لك، ويؤثرونك بالمودة واللطف. لذيذ جدا هذا الشعور الذي ينبعث في نفسك حينئذ، فيشعرك بأنك لست وحيدا في الحياة، وبأن هناك قلوبا قد تخفق مع قلبك، ونفوسا قد تشاركك في الألم وتشاركك في اللذة، ولست أعرف شعورا يفوق هذا الشعور لذة وحسن موقع في النفس، والحق أن حظي من هذا الشعور العظيم، وأن اغتباطي به واستعذابي إياه قد رافقاني من القاهرة إلى باريس فحمدت مرافقتهما، وأنست إليهما في أوقات الوحشة.
نعم؛ في أوقات الوحشة! فأنت إذا سافرت إلى مكان بعيد فعبرت البحر وقطعت الفجاج، تحس شيئا من الوحشة غير قليل، مهما تكن لذة السفر، ومهما يكن اغتباطك بما ستلقى إذا استقر بك المقام، ومهما يكن رفاقك في هذا السفر الطويل اللذيذ. ولقد كان يرافقني في هذا السفر أحب الناس إلي، وأعزهم علي، وأرأفهم بي، وأشدهم مشاركة لي في لذات الحياة وآلامها؛ كانت ترافقني زوج برة كريمة، وطفلان هما كل ما آمل في الحياة، ومع هذا فقد وجدت شيئا من الوحشة تسليت عنه بهذا الشعور اللذيذ الذي كان يرافقني، بذكرى أولئك الأصدقاء العائدين والمودعين، بألفاظهم الحلوة، وعباراتهم التي كانت تمتلئ رفقا وودا وإيثارا.
أعبرت البحر؟ أأحسست في السفنية ما أجد من ضروب الحس، وما أشعر به من مختلف الشعور؟ يتحدث الناس بأن الأمد بين مصر وأوروبا قصير، وبأن عبور البحر لذيذ، وبأنه أمن لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، وبأن المسافر ليس عليه إلا أن يركب السفينة، ويستسلم لما فيها من راحة ولذة وتسلية، حتى ينقضي السفر، ولا سيما إذا كان مثلي لا يخشى الدوار ولا يتعرض لشره. بذلك يتحدث الناس، ولعلهم محقون، بل لا أشك في أنهم محقون، ولكني أعترف بأني لم أشعر بذلك، ولم أحس هذا الأمن وهذه الدعة يوما من الأيام منذ ألفت عبور البحر، وإنما وجدت ويظهر أني سأجد دائما إلى جانب هذه اللذة التي يحسها من يعبر البحر شعورا خفيا جدا . لا أقول إنه الخوف، ولا أقول إنه يشبه الخوف، وإنما أقول إنه يظهر الإنسان على قيمته الحقيقية، وعلى مكانته الصحيحة من هذا الوجود. نعم، ليس هذا الشعور خوفا، وليس شيئا يشبه الخوف، ولكنه شيء ينبئ الإنسان بأنه ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يذكر، وبأن حياته شيء أوهن من نسج العنكبوت، لا قدرة له على الثبات، ولا على مقاومة الأحداث. وإذا أحس الإنسان أنه ضئيل إلى هذا الحد، وأن أسباب حياته واهية واهنة إلى هذا الحد، ملكه شيء من البؤس والإشفاق أحسب أن وصفه عسير.
اضطرب البحر ذات ليلة اضطرابا شديدا، واصطخبت أمواجه وعصفت الريح، فكنت لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وصوتا لأخشاب السفينة يشبه الشكوى، وكان السفر نياما فكنت لا تسمع صوت إنسان، وكان هذا المزاج المؤتلف من هذه الأصوات الثلاثة التي ذكرتها لك وحده يملك عليك سمعك ونفسك، ويضطرك إلى أن تحلله وتفكر فيه، وإلى أن تفكر في نفسك وتقيسها إلى هذا الروع الذي يكتنفك، والهول الذي يحيط بك، ولم يكن في نفسي شيء من الخوف ولا من الإشفاق؛ لأني أعلم أن ذلك شيء مألوف، وأنك تعبر البحر كما تقطع شارعا من الشوارع، ومع ذلك فقد شعرت حقا في هذه الليلة بأن الإنسان ليس شيئا مذكورا، كما أنه لم يكن شيئا مذكورا، وكما أنه لن يكون شيئا مذكورا ما دامت الطبيعة على ما هي عليه من القوة والجلال.
في مثل هذا الوقت يذكر المؤمن ربه ويلجأ إليه، ويتقرب إليه بضروب العبادة وفنون التقوى، وفي هذا الوقت يؤمن الملحد إن كان ضعيفا، ويزداد عتوا إن كان ممعنا في الإلحاد، فيسخر من الحياة كما يسخر من الموت، يهزأ بما اشتملت عليه هذه، ويزدري ما عسى أن يخفيه هذا، وأعترف بأني في هذا الوقت أحسست شيئا قد ينكره علي المؤمنون والملحدون جميعا، أحسست أن إيمان المؤمن وإلحاد الملحد ضرب من الكبرياء، وغلو الإنسان في تقدير نفسه وإكبار منزلتها. فإن هذا المؤمن الذي يعتقد أن خالق الكون ومدبره، خالق هذا الكون العظيم الذي لا تشعر بعظمته وأنت مستقر في دارك، أو لاه بالتحدث إلى رفاقك، أو القراءة في كتابك، وإنما تشعر بعظمته حين لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وشكوى السفينة، وحين تشعر شعورا واضحا جدا بأن أسباب الحياة ضعيفة واهية، وبأن أقل شيء يستطيع أن يحطم هذه السفينة التي تقلك، وأن يقطع كل ما بينك وبين النجاة من سبب فتصبح نسيا منسيا، كأنك لم تكن قط، وكأنك لم تعرف أحدا، وكأن أحدا لم يعرفك. أقول إن المؤمن الذي يعتقد أن خالق هذا الكون العظيم ومدبره يختصه بالبر والرحمة، فيعنى به ويحوطه ويحفظه من الطوارئ، ويعصمه من الأحداث، ويرعاه في كل لحظة، بل في كل جزء من أجزاء اللحظة، متكبر يرى نفسه شيئا مذكورا يستحق هذه العناية المقدسة العظمى، مع أن في هذا الكون ما لا يقاس الإنسان إليه عظمة وجلالا.
وهذا الملحد الذي يستشعر الإلحاد ويتخذه مذهبا وعقيدة، فيعاند وينازع، ويدفع عن إلحاده كما يدفع المؤمن عن إيمانه، وينكر الله كما يثبته المؤمن، ويعتقد أن العقل كل شيء، وأن آثار العقل وحدها خليقة بالإجلال والإكبار، وأن نجاة الإنسان في عبادة العلم والإذعان له، لا في إكبار الدين والخضوع لأوامره ونواهيه. هذا الملحد الذي يمعن في الغرور بقوة العقل والعلم وآثارهما، وبأنه قد سخر لنفسه الطبيعة فذلل الماء والهواء والبخار، واتخذ الطبيعة لنفسه عبدا يأمر فتطيع وينهى فتنتهي، مغرور متكبر؛ لأن عقله وعلمه وقوته وذكاءه مهما تبلغ من العظمة والسلطان، فلن تستطيع أن تعصمه من الأحداث، ولا أن تجعله بمأمن من أقل هذه الأحداث خطرا وأحطها مكانة. بهذا شعرت وفي هذا فكرت، وأعترف بأني لم ألم المؤمن على إيمانه، ولا الملحد على إلحاده، وإنما أحسست شيئا من الإشفاق على هذا وذاك، وتمنيت لو أتيح للإنسان أن يكون مؤمنا وعالما دون أن يغلو في التعصب للدين أو للعلم. تمنيت للإنسان لو استطاع أن يجمع بين هاتين القوتين اللتين ليس له عنهما غنى ولا منصرف. فإن قوة الدين تعصمه من اليأس والهلع ، وتفتح أمامه أبوابا من الأمل الذي ليس له حد، وتمكنه أن يلقى الخطوب ويتجشم الأخطار راضيا مطمئنا راجيا مستبشرا، وقوة العلم تمكنه من الحياة. ولكن أيستطيع الإنسان حقا أن يجمع في نفسه بين هاتين القوتين، وأن يطمئن إلى كلتيهما اطمئنانا بريئا من التناقض والاضطراب، يطمئن إلى الدين دون أن ينكر العقل، ويطمئن إلى العقل دون أن يجحد الدين؟
يتحدثون أن كثيرا من العلماء قد وفقوا إلى هذا، وأن «باستور» على جلال خطره وبعد أثره في العلم كان أشد الناس تدينا وأكثرهم إيمانا، فمتى يكثر في الناس أمثال «باستور»؟
على أن هذا الشعور وما استتبع في نفسي من تفكير أو هذيان لم يكن كل شيء أحسسته في السفينة، فقد كانت هناك أشياء أخرى لا تخلو من نفع. كان أكثر رفاقنا في السفينة من الإنجليز، وكنت أجهل الإنجليز، وما زلت أجهلهم، ولكني كنت أتصورهم قوما أميل إلى الجد منهم إلى الهزل، وأميل إلى القطوب منهم إلى الابتهاج، وأميل إلى السكون والتؤدة منهم إلى الحركة والنزق، ولعلهم كذلك، ولكنهم لم يكونوا كذلك في السفينة، فلم أر جماعة أميل إلى الفرح وأشد تعلقا بأسبابه ولا أكثر إمعانا في الضحك، وهذه اللذة البريئة من هذه الجماعات الإنجليزية التي كانت تملأ السفينة، والتي كانت تقضي يومها وجزءا من ليلها في فرح ومرح ونشاط عظيم، وحسبك أن غرفة المائدة لم يكن يملؤها أثناء الطعام إلا قهقهة عالية جدا متصلة جدا لا تعرف الهدوء ولا الانقطاع، تمتزج فيها أصوات الرجال والنساء امتزاجا لا يخلو من لذة، ولا يعجز عن أن يحملك على الضحك وإن كنت أشد الناس جدا وأكثرهم عبوسا.
অজানা পৃষ্ঠা