كل هذا - فيما أظن - خليق أن يدعونا إلى التفكير في أمر التمثيل من تلقاء أنفسنا، فكيف إذا عرضت لنا قصة من أروع ما أخرج الكتاب الممثلون أثناء العام الماضي تمس هذا الموضوع، بل تدرسه درسا عميقا. ولعل من الطريف حقا أن يتحدث التمثيل عن نفسه، وأن يدرس التمثيل أمره ويبحث عن أعراض العلة التي أصابته ويتبين مصادر هذه الأعراض، ويلتمس لها الدواء ويدل نفسه عليه، ويأخذ نفسه أيضا بالجد في إصلاح ما فسد من شئونه على اختلافها.
فكاتب هذه القصة من أبرع الكتاب الممثلين في باريس، ومن أعلمهم بالتمثيل وبكل ما يعرض له من العلل الظاهرة والخفية، وما ينتابه من الأحداث الواضحة أو الغامضة. وهو من غير شك محزون حزنا عميقا لما أصاب التمثيل من ضعف، وهو قد وضع هذه القصة ليظهر فيها أسباب هذا الضعف، وليظهر فيها التمثيل معترفا بعيبه، مسجلا لعيب غيره، ملتمسا الدواء لهذا العيب أو ذاك. ويقال إن هذه القصة عرضت على ملعب من ملاعب باريس، فقبلها وهم بتمثيلها، ثم عرض لهذا الملعب ما حال بينه وبين العمل في الفصل الماضي؛ فاشترك جماعة من الممثلين، وأنفقوا ما يملكون من جهود مادية وفنية، ومثلوا هذه القصة لحسابهم كما يقولون. وقد نجحت نجاحا باهرا؛ فأحبها جمهور النظارة، وشغف بها وأكثر الاختلاف إليها، وأجمع النقاد الفرنسيون على إكبارها والإعجاب بها. لم يلاحظوا إلا شيئا واحدا: وهو أن القصة جاءت متأخرة في فرنسا، فقد أخذ التمثيل الفرنسي ينهض من كبوته ويسترد قوته وسلطانه، ويغالب الصعاب في شيء غير قليل من الفوز والانتصار.
وإذا كانت هذه القصة قد جاءت متأخرة في فرنسا، فأظن أن الحديث عنها لم يأت متأخرا في مصر، وإنما جاء ملائما كل الملاءمة للوقت الذي ينبغي أن يذاع فيه؛ وهو وقت العناية بإصلاح أمر التمثيل.
وسترى أن الكاتب يرد ضعف التمثيل إلى أسباب مختلفة: منها ما يتصل بالممثلين، ومنها ما يتصل بالملاعب، ومنها ما يتصل بالكتاب، ومنها ما يتصل بالذوق العام، ومنها آخر الأمر ما يتصل بالسينما. ونحن حين يرفع الستار في دار قديمة مهملة من دور التمثيل يشرف عليها منذ ثلاثين عاما رجل يحب الفن حقا ولكنه يحب المال أيضا، وهذا الرجل قد عرف الثروة والفوز حين كان الزمان زمانا، وحين كان التمثيل متسلطا على الباريسيين لا يقاومه غيره، من أسباب اللهو والتسلية، فلما تغيرت الأيام ولم تتغير نفس هذا الرجل، أخذ يغالب المصاعب ما استطاع، ولكنه يقاوم هذه المصاعب بأسلحة قديمة لا تلائم العصر الذي يعيش فيه، وهو يائس من الفوز يهم أن يبيع ملعبه لرجل من الأمريكيين، يريد أن يحوله إلى دار من دور السينما، ولكنه لا يجد الشجاعة على هذا البيع، فهو يغالي في الثمن، ويتردد في إتمام الصفقة، وهو قد أجر ملعبه لممثلة غنية ضخمة الثروة وضخمة الجسم أيضا وعظيمة الحظ من الغرور والأثرة مع ذلك. وهذه الممثلة تستغل الملعب وتستغل الذين يعملون فيه من الممثلين وغير الممثلين من العمال، تفرض نفسها عليهم فرضا، وتتحكم فيهم تحكما عنيفا؛ لأنها صاحبة المال، تنفق فتمكنهم من العيش . وهي لا تتحكم في الملعب وأهله فحسب، وإنما تتحكم في الكتاب وقصصهم أيضا، فهي تريد أن تكون صاحبة الأدوار الأولى في كل قصة، وأن يمحى غيرها من الممثلين والممثلات بحيث لا يظهرون إلا إذا كانوا لها تبعا. وهي من أجل ذلك تفرض على الكتاب تغيير قصصهم بما يلائم أغراضها هي من الحذف، والزيادة، ومن التغيير والتبديل. وأهل الملعب ضيقون بهذا أشد الضيق، منكرون له أشد الإنكار، ولكنهم مضطرون إلى الإذعان والتسليم؛ ليعيشوا. والكتاب كذلك مضطرون إلى الإذعان والتمثيل لتظهر قصصهم في الملعب. ونحن نرى الممثلين أو بعض الممثلين والممثلات ومعهم كاتب من الكتاب قد وضع قصة رائعة كلها شعر من أرقى ما عرف الأدب التمثيلي. والممثلون معجبون بالقصة محبون لها، حريصون على أن تفوز، ولكن الشخصية البارزة في هذه القصة تصور أنثى من طير الماء ألفت بحارا من الناس، فأحبته وتبعته إلى وطنه. ولا بد لها من أن تكون خفيفة رشيقة ظريفة الحركة والحديث، وقد اختارت رئيسة الممثلين لنفسها هذا الدور وأخذته قهرا، وأخذت تتحكم في القصة وممثليها وصاحبها حتى أفسدت القصة إفسادا، وحالت بينها وبين ما كان مقدرا لها من الفوز؛ فأخفقت إخفاقا منكرا، وأجمع النقاد على عيبها والتشهير بها.
وفي أثناء ذلك تأتي رسائل برقية للكاتب تنبئه بأن قصته قد أعجبت أصحاب الملاعب في ألمانيا وإنجلترا وغيرهما من البلاد؛ فهم يشترون حق الترجمة وحق التمثيل، ويرى الكاتب وممثلة يحبها وتحبه في هذا كله عزاء عن إخفاق القصة في باريس. فقد رأينا إذن من هذا الفصل الذي ألخصه تلخيصا سريعا موجزا، سببين من الأسباب التي اضطرت التمثيل إلى الضعف والفناء؛ أولهما: شره صاحب الملعب إلى المال، وإهماله في تجديد ملعبه حتى يلائم الحاجات الجديدة للفن، والثاني: استبداد مدير الفرقة، وفرضه نفسه وهواه على الممثلين، وإيثاره نفسه بخير ما في القصة من الأدوار، سواء أكان خليقا بتمثيلها أم لم يكن. ولاحظنا أيضا في هذا الفصل اجتهاد السينما في مزاحمة التمثيل حتى على ملعبه.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في ألمانيا في ملعب من ملاعب برلين، وقد ترجمت القصة إلى الألمانية، ودفعت إلى المخرج وأعدها المخرج للتمثيل، والمترجم الألماني مفتون بالقصة حقا، والمخرج كذلك مفتون بهذه القصة، والكاتب مغتبط سعيد، ولكن انظر: أما المترجم فأديب يحب في القصة جمالها الأدبي ويترجمها ترجمة حرفية دقيقة، وأما المخرج فرجل عملي حديث متأثر بذوق العصر لا يحفل بالأدب ولا بالشعر، وإنما يرثي للذين يحفلون بالأدب والشعر، وهو قد أخذ القصة فغيرها تغييرا تاما؛ جعل مكان الطير قردة، وجعل مكان الكلام حركات، وإشارات، وأصواتا غامضة مبهمة تصور الشهوة الغليظة والحس الحاد، والشعور العنيف قطع كل صلة بين ما سيخرجه في الملعب وبين القصة الأولى. والكاتب يرى ذلك فينكره ويأباه، وينذر بالمحكمة وبالصحف وبما شاء من النذير، والمترجم يشاركه في هذا ولكن المخرج لا يحفل به، وإنما يعرض قصته على النظارة، فتظفر بالفوز الذي لا حد له. وإذا النظارة مبتهجون يلحون في رؤية الكاتب، فيعرض الكاتب عليهم رغم أنفه، وهم يلقونه بالتحية والهتاف والتصفيق، والكاتب ساخط ولكنه مضطر آخر الأمر إلى أن يظهر الرضى، وهو ينصرف من ألمانيا وقد فازت فيها قصته بعد أن مسخت مسخا تاما، وذهب كل ما فيها من الشعر وأصبحت كما يقول المخرج: حركات عنيفة تهيج حس النظارة وشعورهم.
ثم يرفع الستار بعد ذلك عن الملعب الذي شهدناه في باريس، وقد ازداد حظه من البلى والإهمال، وانصرفت عنه تلك المديرة المتحكمة، وجاء الرجل الأمريكي يفاوض مرة أخرى في شرائه، وصاحب الملعب متردد يريد أن يدافع عن التمثيل إلى آخر لحظة، وقد اعتزم أن يبذل الجهد الأخير، وأن يمثل قصة العاصفة من قصص شكسبير؛ فإن نجحت هذه القصة الخالدة فذاك، وإلا انصرف الرجل عن التمثيل انصرافا لا رجعة فيه.
ونحن نرى الكاتب يتحدث عما أصاب قصته من الفساد في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا؛ فنفهم أن الذوق العام في هذه البلاد قد تغير، فهو لا يحب الأدب من حيث هو أدب، والناس لا يذهبون إلى الملاعب ليروا فنا، أو ليسمعوا شعرا، وإنما هم يذهبون ليروا أنفسهم كما يحبون أن يروها، متأثرة بالذوق المادي الجديد، الذي يختلف باختلاف الأمم والشعوب، ولكنه على كل حال يتفق في شيء واحد، وهو الانحطاط والتجافي عن الأدب والفن. ولا بد من أن نرى الذوق الفرنسي الجديد نفسه، فهذه قصة شكسبير قد أخذ في تمثيلها، ولكن ماذا نرى؟ نرى أشخاصا يحصون لا يكادون يبلغون العشرة قد أقبلوا لشهود هذه القصة، وهم من طبقات مختلفة، ولكنها على كل حال طبقات متواضعة لم تأت إلى الملعب إلا لتنفق شيئا من الوقت. وقد شهد هؤلاء الناس الفصل الأول فناموا أو كادوا ينامون، ولم يبلغهم شيء من شعر شكسبير، وإنما أعجب الرجال ببعض الممثلات، وأعجب النساء ببعض الممثلين، ونحن نراهم بين فصلين يسخرون من التمثيل والممثلين، ومن الشعر والشعراء، ويتحدثون عن ملاكم فرنسي يخاصم ملاكما أمريكيا في الولايات المتحدة، وهم يتتبعون أخبار هذا الخصام في شغف لا آخر له. فتكون بينهم المحاورات والمراهنات ثم ينصرفون عن الملعب، ليذهبوا إلى حيث تبلغهم الأخبار الأخيرة لهذه الملاكمة.
وإذن فقد أخفقت قصة شكسبير أيضا وظهر سبب آخر من الأسباب التي انتهت بالتمثيل إلى الضعف: وهو فساد الذوق العام، وتأثره بهذه السخافات المادية الغليظة التي فرضها الذوق الأمريكي بعد الحرب على الناس.
وينتهي الأمر بصاحب الملعب إلى التسليم بالهزيمة والاستسلام للقضاء، وهو يبيع ملعبه لهذا الأمريكي، ونحن نرى موظفا من موظفي الملعب يجمع أدوات التمثيل البالية ليبيعها وليخلي منها الملعب إذا كان المساء، وقد اجتمع الممثلون والعمال وهم يتحدثون عما أصاب فنهم من الإخفاق. منهم المحزون الذي لا يتعزى، ومنهم المحزون الذي سيلتمس العزاء إذا عمل في السينما، ومنهم السعيد بموت التمثيل، وكلهم يلتمس أسباب هذا الموت؛ فيذكر ما قدمنا من الأسباب، ويذكر سببا آخر وهو ضعف الكتاب، وإهمالهم للفن، وما دفعوا إليه من التقصير أو القصور. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الحوار المؤثر بين الممثل الذي يحب فنه ولا يستطيع أن يتعزى عنه، وبين الممثل الآخر الذي كان يعيش من التمثيل فهو لا يكره أن يعيش من السينما، ولكن الممثلين قد أخذوا يتفرقون كل لوجهه بعد أن أقبل صاحب الملعب فودعهم وداعا مؤلما، وهذا الملعب قد خلا إلا من آخر موظفيه الذي غلق الأبواب وخرج. ثم يرفع الستار عن آخر منظر من مناظر القصة؛ فماذا نرى؟ نرى الممثل الذي يحب فنه، ويكلف به، ويشفق عليه أن يزول، وهو يتحدث إلى النظارة فيذكر لهم علة الفن، وإشرافه على الموت، ويذكرهم بأنفسهم، وبأن التمثيل إن مات فليس لموته معنى إلا أن النفس الإنسانية قد ماتت. وهو واثق بأن النفس الإنسانية وعواطفها وأهواءها وحبها للجمال وكلفها بالفن وطموحها إلى المثل الأعلى أبقى وأرقى وأقوى من أن تطغى عليها الحياة الآلية التي يمتاز بها العصر الحديث، فتصبح آلات لا تجد اللذة إلا في السينما وما يشبهها من الآلات.
অজানা পৃষ্ঠা