وقد ذهب الكاتب في قصته هذه مذهبا طريفا في تصوير ما أراد تصويره؛ فاعتمد على التناقض في هذا التصوير، وذلك أنه صور لنا شخصين متناقضين فيما بينهما تناقضا شديدا: أحدهما خرج من الطبقات الشعبية الدنيا، كان عاملا بائسا سيئ الحال، فما زال يجد ويكد ويحتمل الجهد والعياء حتى أثرى وعظم حظه من الثراء، وأصبح من أصحاب الملايين، وإذا هو ينظر إليه على أنه من الأغنياء، الذين يجب أن تحاربهم طبقات العمال وتحطمهم الثورة حطما. وهو على ذلك يعيش بين ملايينه عيشة الرجل الساذج السهل الذي يكره الترف ويمقت اللذة، ويحرص على القصد والاعتدال أشد الحرص، ويعطف على العمال والبائسين أشد العطف.
والآخر رجل خرج من بيئة غنية؛ فتعلم في المدارس، وتخرج في مدرسة الهندسة، وانتهى من الترف العقلي والشعوري إلى حظ عظيم، ثم اتخذ الاشتراكية أو الشيوعية له مذهبا، واندفع في نصر العمال وتأييد ميلهم إلى الثورة، حتى أحبه العمال وآثروه واتخذوه وكيلا لهم في مجلس النواب، وهو على ذلك يعيش عيشتين متناقضتين: إحداهما عيشة الثائر الزاهد، والأخرى عيشة المترف الحريص.
والتناقض بين هذين الرجلين في القصة واضح أشد الوضوح: فالأول مهمل في زيه وشكله، ساذج في حديثه وتفكيره وسيرته كلها، والآخر ظريف لبق واضح العناية بشكله، بين الحرص على أن يأخذ بحظه من نعيم الحياة، لا حظ له من سذاجة إذا قال أو فعل. على أن الكاتب لم يقف عند هذا الغرض في قصته هذه، وإنما قصد إلى غرض آخر ليس أقل خطرا من الغرض الأول؛ فصور لنا انخداع الفتاة التي لا تستطيع أن تحب إلا إذا أكبرت من تحبه إكبارا، وأخرجته عن طوره وجعلته أرقى منها، وجعلت نفسها دونه بحيث يستطيع أن يأمر وتستطيع هي أن تأتمر. وصور لنا في الوقت نفسه اضطراب الفتى الذي أحب، واستأثر الحب به، ولكنه رأى عشيقته تكبره وتراه بطلا؛ فلم يستطع إلا أن يلعب دور البطل كما يقولون، ويتخذ صورة الرجل العظيم، ويسير سيرته ليحتفظ بما يملأ نفس صاحبته من الحب.
ثم تتكشف الحوداث عن كل هذا الخداع والانخداع، ويظهر للعاشقين أن الحب خليق أن يعتمد على نفسه، وأن يستغني بها دون أن يستعين بالعظمة أو البطولة؛ فتعود الأمور إلى حيث يجب أن تكون، ويظهر الحب آخر الأمر ظافرا منتصرا. ولا بد من إتقان اللغة الفرنسية وإتقان الأدب الفرنسي أيضا؛ لتذوق هذه القصة وفهم ما ترمي إليه من الأغراض، فإن الكاتب قد أخفى سخريته إخفاء، وسترها سترا. وإن كثيرا من الناس لخليقون أن يقرءوا هذه القصة فلا يجدوا لها خطرا ولا يتذوقوا فيها جمالا.
ثم لا بد من شيء من الصبر والأناة والثقة بالكاتب؛ لينتهي القارئ أو الناظر إلى ما ينبغي أن ينتهي إليه، من الحكم الصادق على هذه القصة؛ فالحركة فيها لا تكاد تشعر، والحوار فيها مشتت مختلط، شديد الاختلاط لا يكاد يضبط وليس إلى تلخيصه الدقيق من سبيل.
فالقارئ أو الناظر خليق أن يجد السأم حين يقرأ القصة أو يشهدها، ولكنه إذا فكر واستأنى وجد في هذا العيب الظاهر مزية قيمة حقا. فهذا الحوار المختلط المنتشر يصور الحياة الواقعة أحسن تصوير وأصدقه، ويخفي أثر الفن في هذا التصوير نفسه، ويخيل إليك أنك تحيا مع هؤلاء الناس الذين تعرضهم عليك القصة وتشاركهم فيما يكون بينهم من حوار، وما ينجم بينهم من خصومة أو خلاف.
ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في قصر فخم من قصور الأغنياء؛ نرى سيدة قد جاوزت الشباب، ومعها فتى لم يجاوز الشباب بعد، وهما يسألان عن صاحب القصر، والخادم يدخلهما غرفة الاستقبال وينبئهما بأنه سيذهب ليدعو سيده، ولكن بعد أن يهيئه للاستقبال.
ونحن نفهم من الحوار بين هذه السيدة وبين الخادم أمورا؛ منها أن السيدة تعرف صاحب القصر ومن يحيط به معرفة دقيقة، ومنها أن بينها وبين الخادم معرفة قد ارتفعت منها الكلفة. فهي تسأله عن أبنائه، وهو ينبئها بأن أحدهم يدرس الصيدلة، وبأن الآخر يدرس علم المكتبات، وبأن الثالث يتهيأ لفن القصص. فهم إذن أبناء رجل موسر لا أبناء خادم يعيش من خدمة غيره. وهذا يدلنا على أن هذا الخادم قديم في القصر، ميسر عليه من مولاه. ومنها أن صاحب القصر رجل ساذج مهمل؛ فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في اتخاذ ما ينبغي له من اللباس، ولا بد من أن يعينه خادمه من ذلك على الجليل والدقيق. فإذا خلت السيدة إلى صاحبها الفتى فهمنا أن بينهما قرابة، وأنها قد أقبلت بهذا الفتى لتقدمه إلى صاحب القصر الذي يريد أن يتخذه مربيا لابنه. وهذا الفتى غريب الأطوار، فهو دكتور في الأدب، ودكتور في العلم، ودكتور في الحقوق، يجد لذة في الامتحان فيحرص عليه، ويجتهد في الظفر بما يستطيع من الدرجات الجامعية. وهو شديد الحياء، شديد الكبرياء أيضا، معتدل في عيشته، كان يحب امرأة عاش معها أربع عشرة سنة، ثم انصرف عنها وانصرفت عنه، فدفع لها مقدارا من المال، واشترى حريته ورد إليها حريتها كذلك.
وهذا صاحب القصر يقبل فلا يكاد يلقى هذين الزائرين حتى نفهم أن قد كانت بينه وبين هذه السيدة صلات حب لم تنته إلى الزواج، ولكنها انتهت إلى صداقة دائمة. وهذا الرجل كما صورناه آنفا ساذج لا يحب التكلف ولا الترف، غني كريم ولكن في غير إسراف، وهو يلقى مربي ابنه لقاء حسنا، ويعده منحا كثيرة إن استطاع أن يقوم ابنه ويثقفه ويجعل منه رجلا صالحا لاحتمال تبعات الحياة. وهو يقدم إليه تلميذه؛ فإذا غلام في الخامسة عشرة من عمره قد أفسده الترف أو كاد، فهو محب للطعام، مسرف في هذا الحب، لا يشتغل إلا بالمطبخ والطباخ. وقد خلا المعلم إليه وأخذ يلقي عليه الدرس الأول، ولكن أخت الفتى قد أقبلت ومعها شابان من أصحابها الذين يلعبون معها ويلهون. ويكفي أن نسمع ما بين هذه الفتاة وصاحبيها من الحوار لنعرف أنها فتاة مترفة لاهية، لا ترى الحياة إلا لعبة ولذة، وقد جلست تستمع للدرس، فلم يكد الأستاذ يمضي فيه حتى غضبت أشد الغضب؛ لأن الأستاذ ذكر الأغنياء والفقراء، فعطف على هؤلاء وقسا على أولئك، واصطنع في ذلك لهجة الشيوعيين. والفتاة ثائرة على الأستاذ أشد الثورة، والأستاذ يلقى الغضب بالغضب، والنكير بالنكير، ويعلن أنه لن يبقى في هذا القصر، وتعلن الفتاة أنها أيضا لا تريد أن يبقى. وقد فسد كل شيء وخرج الأستاذ، فأمر بإعداد متاعه للرحيل، وذهبت الفتاة إلى أبيها، فأنبأته بالأمر على حين لا يحفل الفتى إلا بالمطبخ والطباخ. وهذا صاحب القصر قد أقبل فلم يكد يلقى الأستاذ ويتحدث إليه حتى عرف أن الأمر يسير هين، وأن الأستاذ بريء من السياسة، وهو يدعو ابنته إليه، فينبئها بأنه قد قطع كل صلة مع هذا الأستاذ، وأنه سينصرف الآن. ولكنه يذكر فقر الأستاذ وما سيدركه من خيبة الأمل، وإذا الفتاة قد رقت ولانت وأعلنت إلى أبيها أنها قد أساءت إلى هذا الشاب وظلمته، وأنها تريد أن تعتذر إليه، ثم اقترحت على أبيها أن يضاعف له الأجر. وهذا الأستاذ يقبل، فتلقاه الفتاة لقاء جميلا، ولا تكتفي بالاعتذار إليه، وإنما تطلب إليه أن يكون أستاذها ومرشدها؛ فقد استكشفت أنها آثمة سيئة الخلق مسرفة في البطر، فاحشة الحظ من الكبرياء. ولا يكاد الستار يلقى حتى نفهم في وضوح وجلاء أن الفتاة مفتونة بالأستاذ، وقد وضعته في غير موضعه، ورأت فيه رجلا عظيما.
فإذا كان الفصل الثاني؛ فقد مضت الأمور مسرعة، وتم الزواج بين العاشقين. ونحن نراهما حين يرفع الستار وقد خلا كل منهما إلى صاحبه في الجناح الذي خصص لهما من القصر، والذي لم تتم تهيئته بعد. والفتاة هائمة بزوجها العظيم، والزوج يتكلف العظمة ليحتفظ بهذا الحب؛ فهو يتكلف الاقتناع بمذهب الشيوعية، بل هو زعيم من زعماء الحزب، وهو يتهيأ لاستئناف عمله السياسي بعد أن انقطع عنه شهر العسل. فأما امرأته، فقد اعتنقت مذهب الشيوعية واندفعت فيه مسرفة، فهي تعطف على البائسين أشد العطف؛ أليست قد وقفت سيارتها في الطريق لأنها رأت بائسة أدركها الرعاف فدفعت إليها منديلها، ولم تلق من هذه البائسة رضى ولا شكرا، وإنما لقيت منها لوما وتأنيبا لأن منديلها منديل صغير من مناديل المترفين، وكانت خليقة أن تكبر حجمه وتخفف من تعطيره. أوليست قد ذهبت إلى أبعد من هذا، فمضت توزع المنشورات الداعية إلى الثورة في مدرستها القديمة. وهؤلاء رجال الشرطة قد أقبلوا يتحدثون في ذلك إلى أبيها، وزوجها يهدئ من هذه الحدة، ويخفف من هذا العنف. فهو فيما بينه وبين نفسه لا يحب الثورة ولا يحفل بالشيوعية، وإنما يتكلف ذلك تكلفا، حتى لا يفقد إعجاب امرأته به. وهو قد دعا زعيما من زعماء الشيوعيين يمثلهم في مجلس النواب، فلما خلا إليه أنبأه بحقيقة الأمر، وفهمنا من حوارهما أنه حين كان فقيرا كان شديد الدفاع عن أصحاب اليمين، فلما أصهر إلى هذا الرجل الغني تحول إلى الشيوعيين، ولكنه لم يتحول إلا تكلفا كما رأيت. وهو يستعين بالزعيم الشيوعي على أن ينضم إلى الحزب ويخطب في الاجتماعات، وزعيم الحزب يعده بذلك ويدعوه إلى اجتماع سيعقد في اليوم نفسه، وينبئ امرأته بذلك فتبتهج له وتدعو الزعيم إلى العشاء، فيستجيب لها على أن يصطحب سكرتيرة الحزب.
অজানা পৃষ্ঠা