1
والنقاد يحدثوننا بأن هذه القصة عرضت في سبعين ملعبا من الملاعب الألمانية في وقت واحد، وبأنها قد عرضت قبل ذلك في السينما، وهي بعد هذا كله قد ترجمت إلى لغات مختلفة ومثلت في ملاعب أجنبية مختلفة، منها ملاعب باريس، وظفرت بإعجاب النظارة في هذه البلاد كلها، واستأثرت بثناء النقاد في هذه البلاد كلها أيضا، وهي مع ذلك لم تعظ أحدا، ولم تصرف عن الحرب أحدا من القادرين على أن يشبوا أو يخمدوا نار الحرب. فلنسلم راضين أو كارهين بأن طبيعة الإنسان أقوى من الحضارة، وبأن منافع الإنسان أقوى من مثله الأعلى، وبأن غرائز الإنسان أقوى من فنه وأدبه. ولننتظر راضين أو كارهين أن تشرق على الإنسان غدا أو بعد غد في هذا القرن أو في القرن الذي يليه، شمس ذلك اليوم الذي يسمع الناس فيه القول فيتبعون أحسنه، ويرى الناس فيه الشر فيجتنبونه، ويرون فيه الخير فيسعون إليه.
أما الآن فلنكتف من إكبار الفن بحبنا له وإعجابنا به والتوسل إلى الله في أن يهيئ له الفوز والاستئثار بالنفوس.
وهذه القصة التي أريد أن ألخصها اليوم تصور طائفة من آثار الحرب لا غلو فيها ولا مبالغة، وإنما هي أمور شهدها الناس في بلاد المحاربين، وسمعوا الحديث عنها وقرءوا ما كان يكتب فيها. ولعلهم رأوا بأنفسهم بعض ما أثارت من هذه الخصومات المنكرة التي لم تمح آثارها بعد. والكاتب متأثر في هذه القصة بكاتبين أجنبيين قد بعد أثرهما في كتاب هذا العصر الذي نعيش فيه؛ أحدهما الكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو، والآخر الفيلسوف النمسوي فرود.
ولست أريد أن أطيل عليك في تفصيل الأثر الذي تركه هذان الكاتبان في هذه القصة، وإنما الخير أن يدلك التلخيص نفسه على هذا الأثر دون أن أضيع وقتك ووقتي في الشرح والتعليل. •••
نحن أمام سجن من هذه السجون التي كانت تتخذ في البلاد المحاربة لاعتقال الأسرى، وهذا السجن في روسيا بين أوروبا وآسيا كما يقول الكاتب في بعض أجزاء القصة.
ونحن نشهد في حجرة من حجر هذا السجن أسيرين ألمانيين؛ أحدهما ريشار؛ وهو أكبرهما سنا، والآخر كارل؛ وهو أدناهما إلى الشباب. ونحن نرى ريشار مريضا يألم أشد الألم؛ لأن ساقه تؤذيه، وهي متورمة، وتورمها يزداد من حين إلى حين. وهو يشفق على حياته من هذا المرض، وهو يتمنى أن يعنى به الجراحون قبل أن ينتهي به الداء إلى طور لا ينفع فيه الجراحة. ولكنه لا يدري كيف يسعى إلى ذلك أو يبلغه، فحياة الأسرى لا تسمح بالمرض ولا بذكره ولا بالشكوى منه ولا بالتماس العلاج له، وليس من سبيل إلى إبلاغ أمر هذا المرض إلى الطبيب ولا إلى من هو دون الطبيب. فرقيب هذا السجن رجل منكر خبيث شرير، والشكوى في هذا السجن ذنب يعاقب عليه بالموت. ألم ينفذ حكم الموت في نيف وستين من الأسرى مرة واحدة لأنهم تأخروا قليلا عن الاستجابة لدعاء الليل؟ وهؤلاء الأسرى مع هذا كله لا يتعظون ولا يعتبرون. وهم يشكون من سوء حالهم يكتبون شكواهم في ورقة ويقترعون بينهم على أيهم يعلق هذه الورقة بحيث يراها مدير السجن. وهم يعلمون أن من ستقع عليه القرعة ميت لا محالة إن أخذ وهو يعلق ورقته أو استكشف بعد ذلك. ولكنهم مع ذلك يتمون أمرهم ويجمعون على أن لا بأس بأن يذهب واحد في سبيل الجماعة، وإن كانوا يخافون أن الروسيين ربما أماتوا الجماعة في سبيل واحد.
حياة هؤلاء الأسرى شر كلها، وشر لا يكاد يحتمله الإنسان؛ غذاؤهم رديء، وعيشتهم كلها ألم وأذى، وهم يحتملون راضين أو كارهين، وهم يتعزون عن هذه الآلام التي لا توصف كما يستطيعون. أما هذان الأسيران اللذان نراهما، فليس لهما عزاء إلا المودة والحديث. وأي حديث هو حديث امرأة غائبة، ولكنها على ذلك شاهدة تملأ نفسيهما وتملك قلبيهما وتستأثر بعقليهما استئثارا، وهي «آنا» زوج ريشار. وماذا تريد أن يصنع هذا الأسيران اللذان قضي عليهما بالإسار منذ ثلاثة أعوام، منذ أول الحرب، وأنفقا أكثر هذا الوقت وحيدين يعملان معا في احتفار الخنادق في بعض الفضاء الروسي؟ هما مضطران إلى الحديث، وإلى أن يعيدا الحديث ويبدآه. وفيم يتحدثان؟ أحدهما وحيد في الأرض، كان وحيدا قبل الحرب وهو وحيد بعد الإسار، ليس له إلا صديقه هذا، والآخر وهو ريشار له امرأته التي أحبها أشد الحب، ثم اختطفته الحرب من بين ذراعيها، ولما يطل عهده بها. فهو يتحدث بحبه، وهو يتحدث بشوقه، وهو يتحدث بحرمانه، وهو يقص على صاحبه تفصيل حياته قبل أن يتزوج وبعد أن يتزوج، وهو يقص عليه تفصيل حياة امرأته قبل الزواج وبعد الزواج. وهو يحدثه بدقائق هذا كله وهو يصف له بيته المتواضع في برلين، ويصف له مكان الأشياء في غرفته المتواضعة التي تجمع بين نومه واستقباله وطعامه وكل ما يحتاج إليه الزوجان. وهو ينبئه بمكان هذا الكرسي وبلون هذا الفراش وبوضع هذه المائدة وبهذا الصفير الذي يحدثه الغاز إذا أشعلت النار فيه. وهو يحدثه بكل شيء يمكن أو لا يمكن أن يكون موضوعا للحديث.
وهذا الحديث لا يتصل يوما ولا أياما ولا شهرا ولا أشهرا، وإنما يتصل ثلاثة أعوام كاملة. فأي غرابة في أن يعرف الفتى من أمر صاحبه كل شيء؟ بل أي غرابة في أن تمتزج حياة الفتى بحياة صاحبه، وأن يحس مثل ما يحس، ويجد مثل ما يجد، ويفكر في «آنا» كما يفكر فيها صاحبه، وينتهي إلى حب «آنا» كما يحبها صاحبه؟ ويشتد به هذا الحب حتى ينتهي إلى أقصاه، بل حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه الحب عادة من هذه الغيرة العنيفة من الزوج نفسه، بل ينتهي إلى هذه الجرأة التي لا تتصور إلا في حياة الأسرى الذين استيأسوا من الحرية أو كادوا يستيئسون، والذين طالت بهم العزلة حتى أشرفت بهم على الجنون أو ما يشبه الجنون. كلاهما يتمنى محضر هذه المرأة، وكلاهما يتعلق بهذه الأمنية، وكلاهما يجسم هذه الأمنية تجسيما ثم يمضي بعد ذلك إلى أبعد ما يدفعه إليه الخيال. وهذا الفتى يسأل صديقه الزوج لو أن امرأته حضرت، أفيأذن له في ... ثم يتردد، ثم يلمح، وهذا الزوج لا يضيق أول الأمر بهذا السؤال، ولا يبخل بالإذن على ألا يتكرر، فإن تكرر فمن ورائه الموت.
قلت لك إن العزلة قد انتهت بهما إلى الجنون، ولكنها قد انتهت بالفتى على كل حال إلى طور من هذه الأطوار التي يصورها بيراندلو أقوى تصوير وأروعه. فهو لا يحب «أنا»، ولكنه يراها، وهو يحقق مكانها وما تأتي من الحركات. وهو يتحدث بأنه يراها الآن في شارع من شوارع برلين قائمة تنتظر تحت الأشجار. وهو يرى ثوبها ويفصله ويحقق لونه وصورته. وهو يتحدث إلى صديقه من أمره ومن أمر زوجه بما جهله أو نسيه هذا الصديق. وهو يقص على صديقه حلما رأى فيه «آنا»، وهو يصف له ما رأى في البيت حين زاره، ويصف له وضع الأشياء في هذا البيت كما يعرفها؛ قد انتهى به الحب وانتهى به طول ما سمع وطول ما فكر وطول ما استحضر من الصور، إلى شيء يشبه الكشف الذي يتحدث عنه أصحاب التصوف.
অজানা পৃষ্ঠা