وقد جاء وقت الغداء واجتمع القوم إلى طعامهم وهم يعبثون ويمضون في تمثيلهم هذا على أحسن وجه، لا يحس أحد أن في الأمر مكرا مدبرا، إلا أن الممثلين أنفسهم يعرفون ما يأتون، ويجدون في إتقان التمثيل. وهذه المعلمة تنكر تكلف ذلك العبث، كما تنكر تكلف الأدب، وكما تنكر التكلف كله. وهنا يصطدم الجد والهزل ويصطدم الصدق والكذب، وتصطدم الصراحة والمصانعة، وتتبين الحقيقة واضحة جلية مؤلمة؛ لأننا لا نريد أن نعترف بها. فهذه المعلمة تريد أن يعود الناس إلى طبيعتهم، وأن يطرحوا التكلف والرياء، وهؤلاء الناس يبينون لها أن التكلف والرياء أصل من أصول الحياة المنظمة وأساس من أسس الحضارة التي لا تستقيم بدونها، فإذا أنكرت عليهم ذلك أظهروا الرجوع إلى الطبيعة، فملئوا قلبها خوفا ورعبا واضطروها إلى الفرار. أما هذا فيأكل بملء يديه، وأما هذا فيتجشأ في غير احتياط، وأما هذا فيتجرد من ثيابه، والمعلمة ترى فتنكر ثم تفزع ثم تولي منهم فرارا. وإذن فلا حياة بين الجماعات إلا إذا قامت على التكلف، ولا حضارة إلا إذا قامت على الرياء. والخير أن يتخذ الرياء الذي لا بد منه وسيلة إلى السعادة وسببا إلى الأمل والرجاء. •••
ثم يرفع الستار بعد ستة أشهر، وقد أشرفت هذه القصة الغريبة القريبة على آخرها، فلا بد لكل قصة من آخر. وهذا اليوم الذي نحن فيه هو الذي سيشهد انتهاء التمثيل. ولا بد من أن ينتهي التمثيل انتهاء حسنا، والقوم مبتهجون مضطربون يتهيئون لعيد من أعياد الكرنفال سيكون فيه عبث كثير وسيكون فيه تنكر وتغيير للأزياء. وهم يعدون ثياب الكرنفال، كل قد اختار الزي الذي يرضيه والشكل الذي يلائمه، وإنما يعنينا من هذه الأزياء والأشكال زيان اثنان؛ أحدهما هذا الزي الذي اختاروه للمرأة المعلمة، وهو زي يمثل الموت، وهم يقدرون أنها سترفض اتخاذ هذا الزي، بل سترفض اتخاذ أي زي آخر. والثاني زي الدكتور فريجولي، فهو قد اتفق معهم على أنه سيتخذ زي شخص من أشخاص اللهو، ولكنه اتفق سرا مع الممثل الجميل على أنه سيرى في بعض الوقت مقدم راهب من الرهبان؛ ذلك أن هذا الممثل الجميل يشتغل بحرفة أخرى يكتمها، فهو جاسوس، وهو يبحث لأولئك النسوة الثلاث اللاتي أشرت إليهن في أول القصة عن هذا الرجل الذي خدعهن وتزوج بهن جميعا. وقد وعدته العرافة بأن تدله على هذا الرجل، وقد أنبأته بأن هذا الرجل سيشهد العيد معهم اليوم في زي راهب. فما عليه إلا أن يدعو هؤلاء النسوة ليستكشفنه وليظفرن به وليدفعنه إلى موقف القضاء.
ونحن نفهم مما نسمع من أحاديث القوم أن أعضاء الفرقة التمثيلية سيحضرون جميعا متنكرين ليشهدوا هذا العيد، وأهل البيت يعلمون حق العلم أن القصة تنتهي اليوم. فأما الممثل الجميل فقد أنبأ الفتاة التي كانت بائسة بأنه يحبها حقا، ولكنه متزوج وامرأته مريضة فلا بد له من أن يسعى إليها. وأما الراقصة فقد أنبأت الفتى الذي كان بائسا بأنها مضطرة إلى أن تعود إلى أهلها في الريف، وإن كانت تجد في هذه العودة ألما شديدا لأنها تحبه حقا، وقد رضيت الفتاة عن سفر صاحبها، فهي تحبه ولكنها لا تريد أن تدفعه إلى القسوة والإثم. والحب الصادق لا يدفع إلى قسوة ولا إثم، وحسبها أنها ظفرت منه بهذه السعادة التي ردت إليها الأمل والحياة، والفتى راض عن صاحبته، وإن كان يحزنه هذا السفر؛ فهو يحبها ولكنه لا يستطيع أن يفرق بينها وبين أهلها. فالحب الصادق لا يحتمل القسوة ولا الجحود، وحسبه منها أنها أسعدته وردت إليه الأمل والحياة. وهذه المعلمة قد أقبلت وهم يتحدثون إليها عن زيها، فتعلن كما كان مقدرا أنها لن تشترك في هذا العبث، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تكرهها على ما لا تريد. ولكن صاحبها المضحك قد تبعها إلى غرفتها وخرج يعلن إلى أصحابه أنها قد رضيت أن تشترك معهم في لهوهم، وقبلت أن تتخذ زي الموت. والحب من غير شك هو الذي استطاع أن يردها إلى قبول ما كانت ترفضه منذ حين.
ولكن انظر هذا الدكتور فريجولي قد خلا لحظة إلى المضحك، وإذا هو يعلم منه أنه قد خدع المعلمة وخيل إليها أنه يهواها فانخدعت له وصدقته، وأنه قد انتهى إلى ما كان يريد، فستمنحه مقدارا ضخما من المال يستعين به على إنشاء ملعب خاص له. ولا يكاد الدكتور يسمع منه هذا حتى ينكره أشد الإنكار، ويشفق على هذه المرأة من هذا الكذب والتضليل، ومن هذا الخداع الذي اتخذ وسيلة إلى الشر. وهو يحاور صاحبه ويريد أن يصرفه عن ذلك فصاحبه يأبى عليه. والخصام بينهما شديد قد انتهى إلى الفرقة، وهذا المضحك يعلن إلى الطبيب أنه سيفضح الأمر كله، وسيعلن أن القصة من أولها إلى آخرها كيد متكلف لا أصل له، فليس هناك حب ولا شيء يشبه الحب، وكل هذه الأسماء، وكل هذه الأعمال قد اخترعت اختراعا ودبرت تدبيرا. ويلح الطبيب على صاحبه ألا يفعل فلا يسمع له، فيدعه وما يريد بعد أن يعلن إليه أن أحدا لن يصدقه ولن يطمئن إلى ما يقول. وهما في هذا الحوار، وإذا باب المعلمة قد فتح ووقفت المعلمة من دونه تسمع لهما دون أن يشعرا بها، ثم يغلق الباب وقد فهمنا نحن ولم يفهما أن المعلمة قد عرفت كل شيء، وعرفت بنوع خاص أن صاحبها قد كان كاذبا فيما زعم لها من حب. وقد افترق الرجلان؛ فأما المضحك فذهب ينبه أهل البيت جميعا إلى أن القصة كلها كيد وخداع، ولكن أحدا لا يسمع له، ولا يحفل به، وإنما هم جميعا يسخرون منه، ومنهم من يتجاوز السخرية إلى البغض وإلى النذير. ويعود الرجل مستيئسا، ولكنه ينظر فيرى شبح الموت، فيتحدث إليه يظن أنه المعلمة، ولكنه ينظر فلا يرى شيئا، فيرتاع لذلك ويستغيث، فإذا أسرع إليه أهل البيت دخلوا معه غرفة المعلمة فوجدوها ميتة. وبينما هم جميعا مرتاعون لما يرون مشغولون به، يقبل النساء الثلاث يلتمسن الراهب فيجدنه، فإذا كشف لهن عن وجهه عرفنه، وهذه زوجته الغنية تعنفه وتريد أن تقوده إلى القضاء، ولكن هذه زوجته التي كانت مومسا فاستنقذها من الإثم تحبه وتدافع عنه، وتقوم دونه وتراه قديسا، وتتحدث إليه بنفس اللهجة التي كانت تتحدث بها الخاطئات إلى المسيح. وزوجه الخرساء الصماء مضطربة بين المرأتين، ثم منتهية إلى الرضى والصفح، والغنية تحس الخذلان من صاحبتيها فتنصرف معهما راضية أو كالراضية. بل راضية، أليست مستعدة لأن تدفع إلى الجاسوس أجره، وإن لم يصنع شيئا؟ وهذا الجاسوس قد أقبل وأراد أن يأخذ الراهب ليقدمه إلى القضاء، ولكن الراهب قد ألقى عن نفسه ثياب الرهبان، فإذا هو يظهر في زيه الذي تم عليه الاتفاق، وإذا هو يعرف نفسه إلى صاحبه، فهو الطبيب، وهو العرافة، وهو الزوج الخائن، وهو الراهب. هو كل هؤلاء الأشخاص، وهو يدفع إلى الجاسوس ما كان ينتظر من أجر. وهذا شخص آخر يقبل راضيا، فالمعلمة لم تمت وإنما همت أن تذوق الموت حين عرفت خيانة صاحبها فردت إلى الحياة. وهؤلاء قوم كثيرون يقبلون متنكرين في أزياء مختلفة، وهم أعضاء الفرقة التمثيلية الذين اختار الطبيب من بينهم أشخاصه الثلاثة الممثلين. فقد تمت القصة ولا بد من أن تعرف لها خاتمة. وهم يتساءلون فيما بينهم عن هذه الخاتمة كيف تكون أو كيف يقدر النظارة أنها ستكون. وهم يقترحون حلولا لهذه العقد، فمن يدري لو استمرت القصة، لعل الراقصة كانت تحب صاحبها البائس حبا صحيحا وترغب في فراق زوجها، ولعل زوجها كان يحب صاحبته حبا صحيحا ويرغب في فراق امرأته. ولكن الطبيب يريد أن يريح جمهور النظارة من هذا التفكير الطويل، وأن يظهر لهم حقيقة الأمر. وحقيقة الأمر سهلة جدا، فكل هؤلاء الذين تراهم على المسرح ممثلون من أولهم إلى آخرهم. الطبيب ممثل، والشيخة ممثلة، والفتاة البائسة والفتى البائس والشيخ المريض والمعلمة؛ كلهم ممثلون، ولكنهم أرادوا أن يمثلوا الحياة وأن يمثلوا التمثيل نفسه، فوفقوا من ذلك إلى ما رأيت. وهم جميعا يعلنون الحق ويعترفون به، وينبئونك أنت وينبؤنني أنا بأنهم لم يكن فيهم خادع ولا مخدوع، وإنما كانوا جميعا خادعين، يخدعونك أنت ويخدعونني أنا، ويخدعون غيرك وغيري من هؤلاء النظارة الذين يملئون دار التمثيل. وهم يريدون أن يعزوك ويعزوني ويعزوا النظارة جميعا عن هذا الخداع، فيفرحون ويمرحون ويرسلون نيران الفرح والمرح. وتنتهي القصة التمثيلية في هذا الابتهاج العام: ممثلون قد أتقنوا التمثيل حتى خدعوك وغروك وهم مبتهجون بهذا الإتقان، ونظارة قد أحسنوا الاستماع، وأحسنوا الانخداع، وأحسنوا التأثر بالتمثيل، وهم مبتهجون لهذه الحقيقة التي تتجلى لهم، بعد أن خفيت عليهم وغرتهم عن أنفسهم غرورا.
أرأيت إلى هذا الفن الطريف في التمثيل؟ فاعلم إذن أن بيراندلو قد أتقنه وبرع فيه ووضع فيه قصصا ثلاثا، هي حديث النظارة والنقاد في هذه الأعوام الأخيرة، وأنا أرجو أن أتحدث إليك عنها أو عن بعضها في يوم من الأيام.
كارل وأنا
للكاتب الألماني ليونارد فرانك
يجب أن تكون قلوب الناس قد صيغت من الصخر أو من الحديد، أو يجب أن تكون ذاكرة الناس أضعف وأوهى من أن تذكر شيئا أو تستبقي شيئا، أو يجب أن تكون شهوات الناس ومنافعهم العاجلة أقوى وأعظم سلطانا على النفوس من أن تحفل بالأهوال أو تتعظ بالخطوب، أو يجب أن يكون الإنسان إنسانا ليقدم اليوم على ما لقي منه أمس الشر كل الشر، وليستأنف غدا ما يجني منه اليوم أخبث الثمر وأمره وأشده إفسادا للحياة.
فهؤلاء الأوروبيون يتحدثون عن الحرب حديث المنتظر لها المتوقع لمقدمها، ومنهم من يهيئ لها تهيئة ويدبرها تدبيرا. ولو قد أقبلت الحرب لرأيتهم ينفرون إليها خفافا ويقدمون عليها سراعا، كأنها لم تعذبهم أثقل العذاب، ولم تبلهم بأعظم المحن التي عرفها الإنسان منذ بضع عشرة سنة. ومع ذلك فهم كانوا وما يزالون يذكرون سيئات الحرب الكبرى ويصورون في آدابهم وفنونهم وعلى ملاعبهم ومسارحهم روعها وهولها وطائفة من آثارها التي تسجل قسوة الناس على الناس، وتسجل عجز الحضارة الحديثة عن أن ترقى بالإنسان إلى مثله الأعلى الذي هو السلم والأمن.
وهذه القصة التي ألخصها لك اليوم في إيجاز صورة من هذه الصور المنكرة التي استحدثتها الحرب الأخيرة، والتي عرضت على الأوروبيين فزعموا أنها أثرت في نفوسهم أعظم تأثير وأبلغه.
অজানা পৃষ্ঠা