وهذا الخادم قد أقبل يصلح من شأن الغرفة، فإذا هذا الرجل لا يستطيع أن يمنع نفسه من التحدث إليه؛ لأنه شقي بالندم الذي يملأ قلبه. وهو يسأل الخادم عن سنه، ثم عن حبه، ثم عن خليلته، فينبئه الخادم بأنه يحب امرأة صديق له، فقد وجد هذا الرجل إذن زميلا له في الخيانة، فهو يسأله كيف أقدم على هذه الخيانة وكيف وجد أثرها في نفسه، والخادم ينبئه بأنه كره ذلك أول الأمر ولكنه ألفه وتعوده بعد قليل.
ولكن التليفون ينبئ بأن الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول تستأذن في لقاء هذا الرجل، فإذا أذن لها رأيناها قد أقبلت اليوم كما أقبلت بالأمس تحمل رسالة من تيبو إلى صديقه، فهو قد أنفق الليل كله أو أكثره خارج القصر وعاد مع الصبح، فسيزور صاحبه متأخرا بعض الشيء.
والفتاة ساخرة من قريبها، ساخرة من صديقه، تزعم له أن قريبها يثق به الثقة كلها، فلا يكاد الرجل يسمع لفظ الثقة حتى يضطرب له، وتثور نفسه، وإذا هو ساخط أشد السخط على هؤلاء الأصدقاء الذين يثقون بأصدقائهم، وعلى هؤلاء الضعفاء الذين يثقون بالأقوياء ، وعلى هؤلاء الناس الذين يعجزون عن تدبير أمورهم، فيعتمدون على غيرهم في تدبير هذه الأمور. والفتاة لا تفهم هذه الثورة المفاجئة، ولكننا نحن نفهمها حق الفهم؛ فالرجل نادم على ما فرط في ذات صديقه، ولكنه يحمل صديقه تبعة هذا التفريط؛ فهو الذي وثق به وكلفه تدبير أمره عند لورنس، ولو لم يفعل لما لقيها، ولما فرط في ذات الصديق.
وهذا تيبو قد أقبل، فانصرفت الفتاة وخلا الصديقان، ولم يكد تييري ينبئ صاحبه كارها متكلفا بأنه قد دبر الأمر عند لورنس، وأن لورنس قد قبلت عذره ورأت أن تسافر أياما تجنبا لكل مضايقة، لم يكد ينبئه بهذا حتى سمع منه عجبا. سمع منه أنه لا يحفل بلورنس ولا يريد أن يراها؛ لأنه لقي هنرييت فتجدد حبه لها وشق عليه فراقها، وأنفق الليل كله في إقناعها بأنه لم يخنها وبأنه لم يحب لورنس ولم يزد على أن أكثر معها الحديث، وقد اقتنعت هنرييت ثم شكت، ثم اقتنعت، ولكنها ستعود قطعا إلى الشك. ومن أجل ذلك يعتمد الفتى على صديقه في أن يمحو من نفسها كل ريب، ويرد إليها الثقة والاطمئنان.
والصديق سعيد بما يسمع؛ فهو يبرئه من الخيانة. وأي بأس عليه من أن يحب لورنس، وقد انصرفت عنها نفس صاحبه، وأي بأس عليه من أن يقنع هنرييت بأن الفتى لم يخنها؛ فذلك يرد هذين العاشقين إلى عشقهما، ويخلي له وجه صاحبته. فهو إذن يقبل هذه المهمة الثانية، وينصرف عنه الفتى بعد أن ينبئه بأن هنرييت قادمة للقائه وبأنه هو سيلقاه بعد الغداء.
وما هي إلا لحظات ينعم فيها الرجل براحة الضمير وهدوء البال، حتى تدخل عليه هنرييت، فإذا امرأة في الثالثة والعشرين من عمرها جميلة ضعيفة محزونة كثيرة البكاء، لا يكاد الرجل يراها حتى يرفق بها، ويخلص في النصح لها، وفي تشجيعها وتبرئة صديقها من الخيانة، ولكن حديثه لا يخلو من نبرات فيها حنان وعطف وشيء قد لا نستطيع أن نسميه الإغراء، ولكنه ليس بعيدا من الإغراء.
وقد أخذت المرأة تتأثر بهذا العطف وترق لهذا الحنان، وتسحر بهذا الصوت، وإذا هي تدنو منه، وتستدنيه، وهو يحس بهذا الخطر فيبعد عنها ويتكلف الجد، ولكن بعد أن فات وقت الجد. فقد دنت منه المرأة وأخذت في استعطافه، وهو قريب العطف، وما هي إلا أن تلح عليه في قبلة وداع، فإذا منحها القبلة الأولى أخذه الشرك وألقي الستار من دونهما وهي تقول: لن أفارقك؛ لأني لا أحب إلا إياك.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في قصر تيبو بعد الظهر من اليوم نفسه نرى تييري يتحدث إلى الفتاة «أليس» يسألها عن صديقه أين هو، فتنبئه بأنه خرج يلتمسه، وكان شديد الاضطراب كأن أمرا ذا بال يعنيه، فينبئها هو بأنه سيغيب لحظة ليسعى إلى أخيه الذي سيقبل من سفر بعيد ثم يعود بعد ذلك، ولا يكاد يخرج حتى يقبل تيبو ثائر النفس بادي الاضطراب يسأل عن صديقه، فتنبئه الفتاة بأنه سيعود بعد قليل، ولكنه لا يملك نفسه من أن يتحدث إلى الفتاة ببعض اضطرابه، وإذا الفتاة تقص عليه من أمره كل شيء قد علمت ذلك من نفسها، وفهمته من أحاديث الناس، وهي تزدري الفتى وتزدري حبه، وتحزن على هذا الشباب الضائع الذي يسرف فيه صاحبه بغير حساب، وعلى هذه العواطف المبتذلة التي تنحط لها نفوس كان ينبغي أن ترتفع، وتنبئ الفتى أن صاحبته هنرييت لم تكن تحبه حين أظهرت ما أظهرت من الغيرة، وإنما كانت تريد أن تنتقم لما أحست من الخيانة، فإذا سألها الفتى: وما أنت وهذا وما علمك بهذه الأشياء وهل أحببت قط؟ أنبأته بأنها قد أحبت، ولكنها لم تجد صاحبها أهلا لحبها، فأعرضت عن هذا الحب وأخذت نفسها بحياة العزوبة، وأنبأته بأنها تعاف هذه الحياة التي تحياها وبأنها مسافرة مع المساء لتعيش مع أختها وتعنى بابنيها الصبيين، فإذا سألها عمن أحبت أنبأته بأنها أحبته هو، ثم عافته لما رأت من سيرته، ولولا ذلك لما أنبأته بهذا الحب.
ولا يكاد الفتى يسمع بهذا النبأ حتى يفتنه ويسحره، وإذا هو يتلطف للفتاة ويعلن إليها حبه، فتعرض عنه وتفر منه، ويهم أن يتبعها، لولا أن صديقه قد أقبل ومعه أخوه، فلا يلقاهما إلا ريثما يستأذن منهما لحظة ويمضي في أثر الفتاة. ويخلو الأخوان فيتحدثان عن اضطراب الفتى وعما كان من سوء حظه مع صاحبتيه، وعن ندم الصديق الخائن، وعما ينبغي أو لا ينبغي أن ينبئ به صديقه من الأمر، ولكن الفتى قد عاد، وخلا إلى صديقه، ولم يكد صديقه يحدثه عن هنرييت حتى يرده عن الحديث ردا ويعلن إليه أنه يحب أليس، وأن أليس أحبته. ومن يدري لعلها ما زالت تحبه ولكنها لا تريد أن تعترف بهذا الحب. وهو يعتمد على صديقه في إقناعها ... ولكن الصديق يثور هذه المرة ويأبى أن ينهض بهذه المهمة، وهو يلح في الإباء وصديقه الفتى يلح عليه في الرجاء، ثم ينبئه فجأة بأنه قد أنبأ أليس بتوسطه عندها، ثم ينهض فيدعو أليس وينصرف.
والرجل ضيق النفس مضطرب الضمير، كاره لهذه المهمة مشفق من خيانة ثالثة، ولكن الفتاة قد أقبلت فلم يكد يتحدث إليها حتى أحس أنه يتحدث إلى امرأة ليست من جنس النساء اللاتي عرفهن من قبل. يتحدث إلى امرأة لا تحب عن عاطفة، ولا عن شهوة، ولا عن هوى، وإنما تحب بقلبها كله، وبعقلها كله، تحب عن علم بالحياة والأحياء، وعن بصيرة بما تأتي وما تدع، لا ترى في الحب لذة سريعة عارضة، وإنما ترى في الحب ثقة وأمنا وسعادة ومتاعا متصلا.
অজানা পৃষ্ঠা