سلسلة من أعلام السلف_الإمام الأعمش
من أعلام السلف وعلمائهم وأئمتهم الإمام الأعمش ﵀ الذي رفعه الله بالعلم، حتى لقد كان السلاطين أحقر الناس في مجلسه، وقد عرف عنه الدعابة، ومع ذلك كان من أعبد الناس.
1 / 1
بين يدي ترجمة الأعمش ﵀
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فمع علم جديد من أعلام السلف، وهو من علماء الكوفة ومن صغار التابعين، اسمه سليمان بن مهران الملقب بـ الأعمش، له علم وفضل وملح ونوادر، إمام في القرآن والحديث، لقب بالمصحف لصدقه، وكانوا يصححون مصاحفهم من حفظه، فقد كانت المصاحف تكتب باليد، لكنهم كانوا يصححون مصاحفهم المكتوبة من قراءته.
كان فقيرًا من الدنيا ولكنه كان مليئًا من العلم.
قال عيسى بن يونس: ما رأينا الأغنياء والسلاطين في مجلس قط أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم.
قال أبو نعيم في وصفه: ومنهم الإمام المقرئ الراوي المفتي، كان كثير العمل قصير الأمل، مع ربه راهبًا ناسكًا، ومع عباده داعبًا ضاحكًا، يعني: إشارة إلى كثرة مزاحه.
سليمان بن مهران الأعمش تتلمذ عليه الأكابر، كـ شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود.
فهو من صغار التابعين، وتتلمذ عليه أئمة كبار أتباع التابعين.
وكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود، رأى أنس بن مالك، ولكنه لم يرو عنه إلا بواسطة، وكانت له عجائب ونوادر وملح سنذكر شيئًا منها في غضون الترجمة، فرحمه الله وسائر الأئمة الأعلام والعلماء الكرام.
1 / 2
نسب الأعمش ﵀ ومولده وصفته
اسمه: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي الأعمش، وكاهل هو: ابن أسد بن خزيمة، أصله من نواحي الري.
فقيل: ولد بقرية أمه من أعمال طبرستان في إحدى وستين، وقدموا به إلى الكوفة طفلًا، وقيل: حملًا.
صفته: عن ابن عيينة قال: رأيت الأعمش لبس فروًا مقلوبًا، وثيابًا تسيل خيوطه على رجليه، ثم قال: أرأيتم لولا أني تعلمت العلم من كان يأتيني؟ لو كنت بقالًا كان يقذرني الناس أن يشتروا مني.
فانظروا إلى شرف العلم، وكيف أن العلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ورد في الصحيح: أن عمر بن الخطاب لقى نافع بن الحارث بعسفان، وعسفان ما بين مكة والمدينة، وهي أقرب إلى مكة، وكان قد استخلفه عمر على أهل الوادي، فلما لقيه قال: (من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى.
قال: من ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا -والمولى يطلق على العبد، ويطلق على العبد الذي أعتق - فقال: رجل من موالينا، فقال عمر ﵁: استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر ﵁: ألا إن نبيكم ﷺ قد قال: إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين).
وعن أبي بكر بن عياش قال: رأيت الأعمش يلبس قميصًا مقلوبًا فيقول: الناس مجانين، يلبسون الخشن مقابل جلودهم.
وعن أبي هشام قال: سمعت عمي يقول: قال عيسى بن موسى لـ ابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء.
كان عيسى بن موسى أميرًا، فأمر ابن أبي ليلى أن يجمع الفقهاء فجمعهم، فجاء الأعمش في جبة فرو وقد ربط وسطه بشريط فأبطئوا، فقام الأعمش فقال: إن أردتم أن تعطونا شيئًا وإلا فخلوا سبيلنا، فقال: يا ابن أبي ليلى! قلت لك تأتي بالفقهاء تجيء بهذا؟ قال: هذا سيدنا الأعمش.
1 / 3
ثناء العلماء على الأعمش ﵀
قال أحمد بن عبد الله العجلي: الأعمش ثبت، وكان محدث الكوفة في زمانه.
ويقال: إنه كان له أربعة آلاف حديث، ولم يكن له كتاب، أي: كان ضبطه ضبط صدر وليس ضبط كتاب.
قال: وكان يقرأ القرآن وهو رأس فيه، وكان فصيحًا.
وقال عيسى بن يونس: لم نر نحن مثل الأعمش، وما رأيت الأغنياء عند أحد أحقر منهم عنده مع فقره وحاجته.
قال الذهبي: كان عزيز النفس قنوعًا، وله رزق على بيت المال في الشهر خمسة دنانير، قررت له في آخر عمره.
وعن ابن عيينة قال: سبق الأعمش الناس بأربع: كأن أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى.
وقال أحمد: أبو إسحاق والأعمش رجلا أهل الكوفة، يعني: في زمنهم.
وأبو إسحاق هو السبيعي.
وقال محمد بن سعد: وكان الأعمش صاحب قرآن وفرائض وعلم بالحديث، قرأ عليه طلحة بن مصرف القرآن، وكان يقرئ الناس، ثم ترك ذاك في آخر عمره، وكان يقرأ القرآن في كل شعبان على الناس في كل يوم شيئًا معلومًا حين كبر وضعف، ويحضرون مصاحفهم فيعرضونها ويصلحونها على قراءته.
وعن عيسى بن يونس قال: ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ولا الطبقة الذين كانوا قبلنا، وما رأينا الأغنياء والسلاطين في مجلس قط أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم.
وكان القاسم بن عبد الرحمن يقول: ليس أحد أعلم بحديث عبد الله من الأعمش.
وذلك لأن عبد الله بن مسعود سكن الكوفة، وكان الأعمش من علماء الكوفة، فكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود.
وعن ضرار بن صرد قال: ما كان هذا العلم إلا في العرب وأشراف الملوك.
فقال له رجل من جلسائه: وأي نبل كان في الأعمش؟ قال شريك: أما لو رأيت الأعمش ومعه لحم يحمله وسفيان الثوري عن يمينه وشريك عن يساره، وكلاهما ينازعه حمل اللحم لعلمت أن ثم نبلًا كثيرًا.
وعن إسحاق بن راشد قال: قال لي الزهري: وبالعراق أحد يحدث؟ قلت: نعم.
قلت له: هل لك أن آتيك بحديث بعضهم؟ فقال لي: نعم.
فجئته بحديث سليمان الأعمش، فجعل ينظر فيها ويقول: ما ظننت أن بالعراق من يحدث مثل هذا؟ قال: قلت: وأزيدك؟ هو من مواليهم.
وقال علي بن المديني: حفظ العلم على أمة محمد ﷺ ستة، فلأهل مكة عمرو بن دينار، ولأهل المدينة ابن شهاب الزهري، ولأهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي وسليمان بن مهران، ولأهل البصرة يحيى بن أبي كثير وقتادة.
وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش.
وقال عبد الله بن داود الخريبي: سمعت شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف، المصحف.
وقال عمر بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف من صدقه.
وقال محمد بن عمار الموصلي: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش ومنصور بن المعتمر، ومنصور أفضل من الأعمش إلا أن الأعمش أعرف بالمسند وأكثر مسندًا منه.
1 / 4
الأعمش والتدليس
قال الذهبي: الأعمش أبو محمد أحد الأئمة الثقات، عداده في صغار التابعين، ما نقموا عليه إلا التدليس.
والتدليس يعني: إخفاء عيب في الحديث، والتدليس على أقسام.
تدليس الشيوخ: وهو أن المشهور بالاسم يذكر بالكنية أو ينسب إلى اسم غير مشهور به حتى يوعر الطريق إلى معرفته.
وهناك تدليس الإسناد وهو: أن يسقط شيخًا ضعيفًا بين ثقتين ويكون هذا الشيخ الذي أسقط هو شيخه الأقرب.
وهناك تدليس آخر يسمى تدليس التسوية وهو: أن يسقط ضعيفًا بين ثقتين ولا يكون هذا الضعيف شيخه الأقرب.
وتدليس التسوية أسوأ أنواع التدليس؛ لأنه يصرح بالتحديث من شيخه فيقول: حدثنا فلان فيكون فلان ثقة، ثم يسقط ضعيفًا في بقية السند فيقول: عن فلان، فيكون الذي أسقط ضعيفًا، والعنعنة أو الأنأنة صيغة توهم السماع وليس فيها تصريح بالسماع؛ ولذلك كان شعبة يقول: كفيتكم تدليس الأعمش، يعني: كان ينظر إلى فمه فإذا قال: حدثنا كتب، وإذا قال عن فلان لم يكتب.
فالحاصل: أن التدليس ليس كذبًا، وإنما المدلس يسقط ضعيفًا في السند فيخفي عيبًا فيه، ولا يكون الدافع للتدليس هنا دائمًا هو الغش أو توعير الطريق إلى معرفة السند، ولكن أحيانًا يكون للتجمل، كأن يروي شخص عن شيخ أحاديث كثيرة جدًا، فيذكره مرة بالاسم ومرة بالكنية من أجل أن يجمل الحديث، ويكون هذا الشيخ ثقة ليس ضعيفًا، أو أنه يريد أن يوهم أن السند مرتفع، فيسقط شيخه لتقليل عدد الرواة، وعلى هذا لا يكون الدافع للتدليس هو الغش، وقد وقع في التدليس جماعة من كبار الأئمة؛ كـ الأعمش وكـ سفيان الثوري، إذ كان يدلس عن الضعفاء، وكذلك سفيان بن عيينة، ولكن لم يكن يدلس إلا عن ثقة.
قال الإمام الشافعي في الرسالة: من دلس لنا مرة فقد كشف عن عورته في الرواية، فلا نقبل منه إلا التصريح بالسماع.
يعني: الذي ثبت تدليسه لا يقبل منه شيء إلا أن يقول: حدثنا أو أخبرنا، فإذا عنعن أو أنأن في الحديث، كأن يقول: أن فلان أو عن فلان قال كذا، فلا يقبل منه.
قال الذهبي: قال جرير بن عبد الحميد: سمعت مغيرة يقول: أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعيمشكم هذا.
كأنه عنى الرواية عمن جاء، وإلا فـ الأعمش عدل صادق ثبت صاحب سنة وقرآن، ويحسن الظن بمن يحدثه ويروي عنه، ولا يمكننا أن نقطع عليه بأنه علم ضعف ذلك الذي يدلسه، فإن هذا حرام.
وقال الذهبي في خاتمة ترجمته في الميزان: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: (حدثنا) فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كـ إبراهيم -يعني: النخعي - وابن أبي وائل وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
وقال ابن المديني: الأعمش كان كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء.
1 / 5
عبادة الأعمش رحمه الله تعالى
قال وكيع بن الجراح: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى.
وعندما تسمعون عن مزاحه تتعجبون كيف حرصه على العبادة بهذه الطريقة.
وقال عبد الله الخريبي: ما خلف الأعمش أعبد منه.
وعن عبد الرزاق قال: أخبرني بعض أصحابنا: أن الأعمش قام من النوم لحاجة فلم يصب ماءً، فوضع يده على الجدار فتيمم ثم نام، فقيل له في ذلك؟ قال: أخاف أن أموت على غير وضوء.
وعن إبراهيم بن عرعرة قال: سمعت يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظًا على الصلاة في الجماعة وعلى الصف الأول، وهو علامة الإسلام، وكان يحيى - يعني: القطان - يلتمس الحائط حتى يقوم في الصف الأول.
وعن أبي نعيم قال: قال عبد السلام: كان الأعمش إذا حدث يتخشع ويعظم العلم.
1 / 6
شيوخ الأعمش ﵀ وتلاميذه
شيوخه: قال الحافظ: روى عن أنس ولم يثبت له منه سماع.
يعني: أنه رآه، ولكنه لم يسمع منه، وإنما روى عنه بواسطة، وعبد الله بن أوفى يقال: مرسل، وزيد بن وهب وأبي وائل وأبي عمرو الشيباني وقيس بن أبي حازم وإسماعيل بن رجاء وأبي صخرة جامع بن شداد وأبي ظبيان بن جندب وخيثمة بن عبد الرحمن الجعفي وسعيد بن عبيدة وأبي حازم الأشجعي وسليمان بن مسهر وطلحة بن مصرف وأبي سفيان طلحة بن نافع وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وعبد الله بن مرة وعبد العزيز بن رفيع وعبد الملك بن عمير وعدي بن ثابت وعمارة بن عمير وعمارة بن القعقاع ومجاهد بن جبر وأبي الضحى ومنذر الثوري وهلال بن يساف وخلق كثير.
قال الحافظ: وعنه -أي: روى عنه- الحكم بن عتيبة وزبيد اليامي وأبو إسحاق السبيعي وهو من شيوخه، وسليمان التيمي وسهيل بن أبي صالح وهو من أقرانه، ومحمد بن واسع وشعبة والسفيانان وإبراهيم بن طهمان وجرير بن حازم وأبو إسحاق الفزاري وإسرائيل وزائدة وأبو بكر بن عياش وشيبان النحوي وعبد الله بن إدريس وابن المبارك وابن نمير والخريبي وعيسى بن يونس وفضيل بن عياض ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي وهشيم وأبو شهاب الحناط وخلائق من أواخرهم أبو نعيم وعبيد الله بن موسى.
1 / 7
ملح من أخبار الأعمش ﵀
قال الذهبي: وكان مع جلالته في العلم والفضل صاحب مزاح.
قيل: إنه جاءه أصحاب الحديث يومًا فخرج فقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم.
وسأله داود الحائك: ما تقول يا أبا محمد! في الصلاة خلف الحائك؟ فقال: لا بأس بها على غير وضوء.
قيل: فما تقول في شهادة الحائك؟ قال: تقبل مع عدلين.
وقيل: إن الأعمش كان له ولد مغفل، فقال: اذهب فاشتر لنا حبلًا للغسيل.
فقال: يا أبت! طول كم؟ قال: عشرة أذرع، قال: في عرض كم؟ قال: في عرض مصيبتي فيك.
1 / 8
درر من أقوال الأعمش ﵀
عن حفص بن غياث قال: سمعت الأعمش يقول: يوشك إن احتبس علي الموت إن وجدته بالثمن اشتريته.
وعن الحسن بن صالح عن الأعمش قال: إنا كنا لنشهد الجنازة فلا ندري من نعزي من حزن القوم.
يعني: من حزن الجميع لا يعرف أهل الميت.
وعن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام:١٢٩] ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم.
قال حميد: سمعت أبي يقول: سمعت الأعمش يقول: لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير، يعني: لا تبذلوا العلم لمن لا يستحقه.
وقيل لـ حفص بن أبي حفص الأبار: رأيت الأعمش؟ قال: نعم، وسمعته يقول: إن الله يرفع بالعلم أو بالقرآن أقوامًا ويضع به آخرين، وأنا ممن يرفعني الله به، لولا ذلك لكان على عنقي دم صحن أطوف به في سكك الكوفة.
ومر أنه كان يقول: لو كنت بقالًا لقذرني الناس -يعني: ما أتوه- ومع ذلك كان يذهب إليه الأكابر؛ لما عنده من العلم، وكان الأغنياء أحقر الناس حين يكونون في مجلسه، وهو محتاج إلى درهم.
1 / 9
وفاة الأعمش ﵀
عن أبي بكر بن عياش قال: دخلت على الأعمش في مرضه الذي توفي فيه، فقلت: أدعو لك الطبيب؟ قال: ما أصنع به؟ لو كانت نفسي معي لطرحتها في الحش، إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدًا، واذهب بي واطرحني في لحدي.
قال الذهبي: يقال: مات الأعمش في ربيع الأول سنة (١٤٨هـ) بالكوفة.
1 / 10
سلسلة من أعلام السلف_الإمام الشافعي
الإمام الشافعي أحد أئمة المذاهب المتبعة، ناصر الحق وسنة المصطفى ﷺ، طلب العلم منذ نعومة أظفاره، ونبغ فيه وفاق أقرانه، كان عابدًا ورعًا تقيًا لا يخاف في الله لومة لائم، له المصنفات الكثيرة والنادرة، وهو أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، أخذ عن جملة من العلماء وأخذ عنه كذلك مشاهير العلماء كأحمد بن حنبل وغيره، وأثنى عليه العلماء ثناء عطرًا، فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.
2 / 1
التعريف بالإمام الشافعي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فما زلنا مع علماء السلف ﵃، ونحن اليوم مع إمام من أئمة المذاهب المتبعة، ناصر الحق والسنة محمد بن إدريس الشافعي، نتعرف على اسمه ونسبه ومولده ونشأته وصفته ﵀.
اسمه: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
كنيته: أبو عبد الله، وهو ابن عم رسول الله ﷺ، يلتقي معه في جده عبد مناف، فرسول الله ﷺ من بني هاشم بن عبد مناف، وإمامنا الشافعي من بني المطلب بن عبد مناف، قال النبي ﷺ: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد).
قال الإمام النووي: اعلم أنه ﵁ كان من أنواع المحاسن بالمحل الأعلى والمقام الأسنى؛ لما جمعه الله له من أنواع المكرمات، فمن ذلك شرف النسب الطاهر، والعنصر الباهر، واجتماعه هو ورسول الله ﷺ في النسب، وذلك غاية الشرف ونهاية الحسب.
ومن ذلك: شرف المولد والمنشأ؛ فإنه ولد بالأرض المقدسة ونشأ بمكة.
مولده ونشأته: قال الذهبي ﵀: اتفق مولد الإمام ﵀ بغزة، ومات أبوه إدريس شابًا فنشأ محمد يتيمًا في حجر أمه فخافت عليه الضيعة، فتحولت إلى محتده وهو ابن عامين -يعني: انتقلت به من غزة إلى مكة وهو ابن عامين- فنشأ بمكة وأقبل على الرمي حتى فاق الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشعر فبرع في ذلك وتقدم، ثم حبب إليه الفقه فساد أهل زمانه.
والإمام الشافعي يعتبر من أذكياء العالم.
قال العليمي: أبو عبد الله الشافعي الإمام الأعظم والحبر المكرم أحد الأئمة المجتهدين الأعلام، إمام أهل السنة وركن الإسلام، لقي جده شافع رسول الله ﷺ وهو مترعرع، وكان أبوه السائب -والد شافع- صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت أحرم المسلمين طعمًا لهم في، فأراد أن يكون سببًا في الرزق للمسلمين، ففدى نفسه ثم أسلم.
ولد الإمام الشافعي بغزة من بلاد الشام على الأصح في سنة (١٥٠هـ) وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفة النعمان، فقد ولد الإمام أبو حنيفة سنة (٨٠هـ)، ومات سنة (١٥٠هـ)، أما الإمام الشافعي فإنه ولد سنة (١٥٠هـ)، ومات سنة (٢٠٤هـ)، فعاش (٥٤) سنة ﵀، وقيل: إن الشافعي ولد في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة.
وقيل: كان مولده بعسقلان وقيل: باليمن، ونشأ بمكة وكتب العلم بها وبمدينة رسول الله ﷺ، وقدم بغداد مرتين، وخرج إلى مصر فنزلها وكان وصوله إليها في سنة (١٩٩هـ)، ومكث في مصر خمس سنين وأفتى بها، وعندما يقولون: قال الشافعي في الجديد، فيقصدون ما كتبه وهو في مصر، وهي الخمس السنين الأخيرة من عمره؛ فإنه مكث في مكة فترة وفي بغداد فترة، ومر على بلاد كثيرة، وقيل: دخل مصر سنة (٢٠١هـ) ولم يزل بها إلى حين وفاته.
صفته ﵀: روى أبو نعيم بسنده عن إبراهيم بن برانة قال: وكان الشافعي طويلًا نبيلًا جسيمًا.
وقال الزعفراني: كان الشافعي يخضب بالحناء، خفيف العارضين.
يعني: خفيف شعر اللحية في العارضين.
وقال المزني: ما رأيت أحسن وجهًا من الشافعي، وكان ربما قبض على لحيته فلا تفضل على قبضته.
2 / 2
طلب الإمام الشافعي للعلم ونبوغه فيه
ابتداء طلبه للعلم ونبوغه فيه: روى أبو نعيم بسنده عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي -أي: الذي كان يحمل أوراقه التي يكتب فيها الحديث- عن الشافعي قال: كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة.
وروى البيهقي بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد.
قال: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يومًا يسير على دابة له، خلفه كاتب أبي، فتمثل الشافعي ببيت من الشعر فقرعه كاتب أبي بسوط ثم قال له: مثلك تذهب مروءته في مثل هذا، أين أنت عن الفقه؟ قال: فهزه ذلك فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجي وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس.
وروى البيهقي كذلك عن أبي بكر الحميدي قال: قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد فقال: يا فتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة؟ قال: وأين منزلك بها؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف قال: بخ بخ! لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه كان أحسن بك؟! قال الذهبي: وعن الشافعي قال: أتيت مالكًا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة -كذا قال، والظاهر أنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة- فأتيت ابن عم لي والي المدينة فكلم مالكًا فقال: اطلب من يقرأ لك.
قلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قد مر: أعده فأعيده حفظًا، فكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى فقال: أنت تحب أن تكون قاضيًا، وفي بعض النسخ: يجب أن تكون قاضيًا.
وقال النووي ﵀: أخذ الشافعي ﵀ في الفقه، وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة ما حصل، ورحل إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس، وأكرمه مالك ﵀ وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وعقله وأدبه بما هو اللائق بها، وقرأ الموطأ على مالك حفظًا فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه بقراءته، ولازم مالكًا فقال له: اتق الله! فإنه سيكون لك شأن.
وفي رواية أنه قال له: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية.
ثم ولى اليمن -صار واليًا أو حاكمًا عليها- واشتهر من حسن سيرته وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة، ثم رحل إلى العراق للاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة - وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، وشاع ذكره وفضله، وتزايد تزايدًا ملأ البقاع، وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون، واعترف به العلماء أجمعون، وعظمت عند الخلائق وولاة الأمور مرتبته، وظهر من فضله في مناظرات أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لسواه.
عكف على الاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وتمسكوا بطريقته، وصنف في العراق كتابه القديم المسمى (كتاب الحجة)، ثم خرج إلى مصر سنة (١٩٩هـ)، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس في الشام واليمن والعراق.
لذلك فإن أكثر أهل مصر شافعية.
2 / 3
ثناء العلماء على الإمام الشافعي
ثناء العلماء عليه: قال الحافظ أبو نعيم: ومنهم الإمام الكامل العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات، المنتشر علمه شرقًا وغربًا، المستفيض مذهبه برًا وبحرًا، المتبع للسنن والآثار، المقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار.
اقتبس عن الأئمة الأخيار فحدث عنه الأئمة الأحبار، الحجازي المطلبي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ﵁ وأرضاه، حاز المرتبة العالية، وفاز بالمنقبة السامية، إذ المناقب والمراتب يستحقها من له الدين والحسب، وقد ظفر الشافعي بهما جميعًا.
شرف العلم والعمل به، وشرف الحسب قربه من رسول الله ﷺ، فشرفه في العلم ما خصه الله من تصرفه في وجوه العلم، وتبسطه في فنون الحكم، فاستنبط خفيات المعاني، وشرح بفهم الأصول والمباني، ونال ذلك بما يخص الله تعالى به قريشًا من نبل الرأي.
وروى الخطيب بسنده إلى إسحاق بن راهويه قال: أخذ أحمد بن حنبل بيدي وقال: تعال حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله، فذهب به إلى الشافعي.
فالإمام الشافعي يعتبر شيخ الإمام أحمد.
وبسنده أيضًا إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: يا أبت أي شيء كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، انظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟ وعن أيوب بن سويد قال: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ركب الشافعي حماره فجعل أبي يمشي والشافعي راكب وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إلى أبي في ذلك؛ فبعث إليه الإمام أحمد فقال: إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيرًا لك.
وعن حميد بن زنجويه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول وهو يروي الحديث عن النبي ﷺ: (إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم)، وإني نظرت في سنة مائة فإذا رجل من آل رسول الله ﷺ وهو عمر بن عبد العزيز -توفي سنة (١٠١هـ) - ونظرت في المائة الثانية فإذا هو رجل من آل رسول الله ﷺ محمد بن إدريس، توفي سنة (٢٠٤هـ).
وعن محمد بن الفضل البزار قال: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلنا عند أحد الناس بمكة، وخرج أبو عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل - باكرًا وخرجت أنا معه، فلما صلينا الصبح بدأت المجالس، فجئت مجلس سفيان بن عيينة، وكنت أبحث مجلسًا مجلسًا طلبًا لـ أبي عبد الله حتى وجدته عند شاب أعرابي وعليه ثياب مصبوغة وعلى رأسه جمة فزاحمته حتى قعدت عند أحمد بن حنبل.
فقلت: يا أبا عبد الله! تركت ابن عيينة وعنده الزهري يعني: محمد بن مسلم بن شهاب وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ومن التابعين ما الله بهم عليم؟ فقال: اسكت فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول فلا يضرك في دينك ولا في عقلك أو فقهك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدًا أفقه في كتاب الله تعالى من هذا الفتى القرشي، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي.
وعن سويد بن سعيد قال: كنا عند سفيان بن عيينة فجاء محمد بن إدريس فجلس، فروى ابن عيينة حديثًا رقيقًا فغشي على الشافعي فقيل: يا أبا محمد مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.
قال الرازي ﵀: إن ثناء العلماء على الإمام الشافعي أكثر من أن يحيط به الحصر، ونحن نذكر السبب في محبتهم له وثنائهم عليه، فنقول: الناس كلهم كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله ﷺ إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أصحاب الرأي سؤالًا أو إشكالًا بقوا على ما في أيديهم عاجزين متحيرين.
وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب الجدل والنظر إلا أنهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسنن، وهي مدرسة الكوفة، وأما الشافعي فإنه كان عارفًا بسنة النبي صلى الل
2 / 4
عبادة الإمام الشافعي وزهده وورعه
عبادته وزهده وورعه.
قال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت أتقى لله ولا أورع من الشافعي، ولا أحسن صوتًا منه بالقرآن.
وعن الحسين الكرابيسي قال: بت مع الشافعي ثمانين ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل، وما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المؤمنين، فكأنما جمع له الرجاء والرحمة معًا.
وعن بحر بن نصر قال: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة من حسن صوته.
وعن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، يعني: الحديث، والثلث الثاني: يصلي، والثلث الثالث: ينام.
وعن حرملة قال: قال الشافعي: ما حلفت لله صادقًا ولا كاذبًا.
وقال الحارث بن مسكين: أراد الشافعي الخروج إلى مكة فأسلم إلى قصارٍ -يعني: خياطًا- ثيابًا بغدادية مرتفعة، فوقع الحريق فاحترق دكان القصار والثياب، فجاء القصار ومعه قوم، فتحمل بهم على الشافعي في تأخيره ليدفع إليه قيمة الثياب.
فقال له الشافعي: قد اختلف أهل العلم في تضمين القصار -يعني: هل يضمن ثمن ما ضاع عنده- ولم أتبين أن الضمان يجب، فلست أضمنك شيئًا.
وعن الحارث بن شريح قال: دخلت مع الشافعي على خادم للرشيد وهو في بيت قد فرش بالديباج يعني: بالحرير، فلما وضع الشافعي رجله على العتبة أبصره فرجع، ولم يدخل، فقال له الخادم: ادخل، فقال: لا يحل افتراش هذا، فقام الخادم فتبسم حتى دخل بيتًا قد فرش بالأرض، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه فقال: هذا حلال وهذا حرام، وهذا أحسن من ذلك وأكثر ثمنًا، فتبسم الخادم وسكت.
وعن الربيع قال: قال عبد الله بن عبد الحكم للشافعي: إن عزمت أن تسكن البلد -يعني: مصر- فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزز به.
فقال له الشافعي: يا أبا محمد من لم تعزه التقوى فلا عز له، ولقد ولدت بغزة، وربيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة وما بتنا جياعًا.
وقيل للشافعي: ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، يعني: في الدنيا.
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! أنست بالفقر حتى صرت لا أستوحش منه.
وعن الربيع بن سليمان قال: قال لي الشافعي يا ربيع! عليك بالزهد، فللزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد.
وعن عبد الله بن محمد البلوي قال: جلسنا ذات يوم نتذاكر الزهاد والعباد والعلماء وما بلغ من زهدهم وفصاحتهم وعلمهم، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباته فقال: بماذا تتحاورون؟ قلنا: نتذاكر الزهاد والعباد والعلماء وما بلغ من فصاحتهم.
فقال عمر بن نباته: والله ما رأيت رجلًا قط أورع ولا أخشع ولا أفصح ولا أسمح ولا أعلم ولا أكرم ولا أجمل ولا أنبل ولا أفضل من محمد بن إدريس الشافعي.
2 / 5
سخاء الشافعي وجوده
أما سخاؤه وجوده ﵀: فعن الحميدي قال: قدم الشافعي ﵀ من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل، فضرب خباءه في موضع خارجًا من مكة، فكان الناس يأتونه، فما برح حتى ذهبت كلها.
وعن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي راكبًا حمارًا فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين فأخذ السوط ومسحه بكمه وناوله إياه، فقال الشافعي لغلامه: ادفع الدنانير التي معك إلى هذا الفتى.
قال الربيع: فلست أدري كانت تسعة دنانير أو ستة.
وعن الربيع بن سليمان قال: تزوجت فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟ فقلت: ثلاثين دينارًا، قال: كم أعطيتها؟ فقلت: ستة دنانير، فصعد داره وأرسل إلي بصرة فيها أربعة وعشرون دينارًا.
كان ابن عبد الحكم مالكيًا ثم رجع عن مذهبه وصار شافعيًا، ولما أوصى الإمام الشافعي بحلقته إلى البويطي رجع ابن عبد الحكم إلى المذهب المالكي مرة ثانية، قال ﵀: كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، وكان يمر بنا، فإن وجدني وإلا قال: قولوا لـ محمد إذا جاء يأتي المنزل فإني لا أتغدى حتى يجيء، فربما جئته، فإذا قعدت معه على الغداء قال: يا جارية أنضجي لنا فالوذجًا -يعني: فطيرًا- فلا تزال المائدة بين يديه حتى يفرغ منها ويتغدى.
وعن الربيع قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعذرني عنده.
وعن الربيع قال: كنا مع الشافعي رحمه وقد خرج من مسجد مصر، فانقطع شسع نعله -وهو رباط النعل- فأصلح له رجل شسعه ودفعه إليه، فقال: يا ربيع معك من نفقتنا شيء؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: سبعة دنانير، قال: ادفعها إليه.
ولعل النعل كله لا يساوي هذا المبلغ.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جاءنا الشافعي إلى منزلنا قال: فقال لي: اركب دابتي هذه قال: فركبتها، قال: فقال لي: أقبل بها وأدبر ففعلت، فقال: إني أراك بها لبقًا فخذها فهي لك.
قال: وكان من أسخى الناس ثم ذكر قصة التمر.
وقصة التمر رواها البيهقي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي ﵀ من أسخى الناس قال: وكنت آكل مع الشافعي تمرًا ملوزًا -وهو التمر الذي ينزع منه النوى ويوضع فيه اللوز، فجاء رجل فقعد وأكل وكان يجلس إليه، فلما فرغ من الأكل، قال الرجل للشافعي: ما تقول في أكل الفجأة؟ قال: فلوى الشافعي عنقه إلي وقال: هلا كان سؤاله قبل أن يأكل.
لأنه لو قال له: لا يجوز كان كف عن الأكل.
وقال الشافعي ﵀: السخاء والكرم يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد ألا يلحقهما بدعة.
وعن إبراهيم بن محمد قال: كنت في مجلس أحمد بن يوسف النقلي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام فجرى ذكر الشافعي وأخلاقه وفقهه وسماحته فقالوا: ما شبهناه إلا بأبيات أنشدها حفص بن عمر الأزدي المقرعي لبعض الأعراب: إن زرت ساحته ترجو سماحته بلتك راحته بالجود والكرم أخلاقه كرم وقوله نعم يقولها بفم بحبحت فاحتكم ما ضر زائره يرجو أنامله إن كان ذا رحم أو غير ذا رحم الجود غرته والنجم غايته يقولها بفم قد لج في نعم وعن الربيع بن سليمان قال: دفع إلي الشافعي دراهم لأشتري له حملًا -وهو الكبش أو الخروف- وأمرني أن أشوي ذلك، قال: فنسيت واشتريت سمكتين وشويتهما فأتيته بهما، فنظر فقال: يا أبا محمد! كلهما فقد اشتهيتهما.
2 / 6
اتباع الشافعي للسنة وذمه لأهل الأهواء
اتباعه للسنة ﵀ وذمه لأهل الأهواء.
عن ميمون بن مهران قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب أتبع للسنة من الشافعي.
وعن أبي جعفر الترمذي قال: أردت أن أكتب كتب الرأي، فرأيت النبي ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله! فأكتب رأي الشافعي فقال النبي ﷺ: إنه ليس برأي، إنه رد على من خالف سنتي.
وعن أحمد بن حنبل قال: قدم علينا نعيم بن حماد وحثنا على طلب المسند -يعني: الحديث بالإسناد- فلما قدم علينا الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء.
قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بها ودعوا ما قلته.
قال: وقال له رجل: يا أبا عبد الله نأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله ﷺ حديثًا ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وقال الحميدي: روى الشافعي يومًا حديثًا فقلت: أتأخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة أو علي زنارًا -وهو الحبل الذي يربط في الوسط علامة لأهل الكتاب-، حتى إذا سمعت عن رسول الله ﷺ حديثًا لا أقول به.
وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط.
إلى غير ذلك من الأقوال التي ثبتت عن الإمام الشافعي.
2 / 7
فقه الإمام الشافعي
فقهه ﵀: قال عبيد بن محمد بن خلف البزاز: سئل أبو ثور فقيل له: أيهما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة؟ فقال أبو ثور: الشافعي أفقه من محمد وأبي يوسف وأبي حنيفة وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وإبراهيم يعني: النخعي وعلقمة والأسود، يعني: أن كلهم من مدرسة الرأي في الكوفة.
وعن أحمد بن يحيى قال: سمعت الحميدي يقول: سمعت سيد الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي.
وعن الربيع قال: سمعت الحميدي يقول: عن مسلم بن خالد أنه قال للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي، وكان ابن خمس عشرة سنة.
وهذه بعض الأشياء التي تدل على فقهه وفهمه.
وعن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنت طالق، قال: طرحتيها فأنت طالق، بأن تأكل نصفها وتطرح نصفها.
فكما يقولون: ليس الفقه بالتشدد، بل الفقه أن تأتيك الرخصة من العالم الذي يجد المخرج الموافق للشرع.
وعن المزني قال: سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر فقال: لست آمره بشيء، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيسًا عدا على النعامة فذبحها واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة.
وعن معمر بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول لـ محمد بن إدريس الشافعي: يا محمد لأي علة خلق الله الذباب؟ قال: فأطرق ثم قال: مذلة للملوك يا أمير المؤمنين، قال: فضحك المأمون، وقال: يا محمد رأيت الذباب قد سقط على خدي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ولقد سألتني وما عندي جواب، فلما رأيت الذباب قد سقط بموضع لا يناله أحد انفتق في ذهني الجواب.
فقال: لله درك يا محمد.
وقال إبراهيم بن أبي طالب الحافظ: سألت أبا قدامة السرخسي عن الشافعي وأحمد وأبي عبيد وابن راهويه فقال: الشافعي أفقههم.
وعن الربيع قال: كنت يومًا عند الشافعي فجاءه رجل فقال: أيها العالم! ما تقول في رجل حلف إن كان في كمي دراهم أكثر من ثلاثة فعبدي حر، وكان في كمه أربعة دراهم، فقال: لم يعتق عبده، قال: لم؟ قال: لأنه استثنى من جملة ما في كمه دراهم، والدرهم لا يكون دراهم.
فقال: آمنت بالذي فوهك هذا العلم.
2 / 8
براعة الإمام الشافعي في التصنيف وبركة مصنفاته
براعته في التصنيف وبركة مصنفاته: الشافعي ﵀ أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وقد تسابق العلماء والأكابر على اقتناء مصنفاته والاستفادة منها، وأعظم كتبه كتاب (الرسالة) وهي موجودة الآن بتحقيق أحمد شاكر، وأسلوب الرسالة في غاية السهولة واليسر والفصاحة، فهي على سهولة لفظها كثيرة المعاني عظيمة المباني، شاهدة برجاحة عقله وكمال بصيرته.
وعن أبي ثور قال: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن والأخبار وحجة الإجماع والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب (الرسالة).
قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها.
وعن المزني قال: قرأت كتاب الرسالة للشافعي (٥٠٠) مرة، ما من مرة منها إلا واستفدت منها فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى.
والمفروض أن طالب العلم يقرأ كتب العلم في كل فترة من أجل أن يستفيد أكثر وأكثر.
وعن محمد بن مسلم بن واره قال: قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال: كتبت كتب الشافعي قلت: لا، قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفصل، ولا ناسخ حديث رسول الله ﷺ من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال: فحملني ذلك إلى أن رجعت إلى مصر وكتبتها ثم قدمت.
وعن أحمد بن مسلمة النيسابوري قال: تزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل بعد وفاته عنده كتب الشافعي من أجل كتب الشافعي؛ لأن الكتب لم تكن متوفرة كما هو الآن، فوضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي، ووضع جامعه الصغير على جامع الثوري الصغير.
وقال أبو بكر الصومعي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.
وقال الجاحظ: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدرر.
قال العلامة أحمد شاكر: فكتبه كلها مثل رائعة من الأدب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته وعلى فطرته ولا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرؤه بعد القرآن والحديث، لا يساميه قائل، ولا يدانيه كاتب.
وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أريت في المنام كأن آتيًا أتاني فحمل كتبي وبثها في الهواء فتطايرت، فاستعبرت بعض المعبرين فقال: إن صدقت رؤياك لم يبق بلد من بلاد الإسلام إلا ودخله علمك.
2 / 9
شيوخ وتلاميذ الإمام الشافعي
شيوخه وتلامذته: قال الحافظ: روى عن مسلم بن خالد الزنجي ومالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وسعيد بن سلمة القداح والدراوردي وعبد الوهاب الثقفي وابن علية إسماعيل بن إبراهيم -وعلية اسم أمه- وابن عيينة وأبي ضمرة وحاتم بن إسماعيل وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وإسماعيل بن جعفر وغيرهم.
وروى عنه سليمان بن داود الهاشمي وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي وإبراهيم بن المنذر الحزامي وأبو ثور إبراهيم بن خالد وأحمد بن حنبل وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي وحرملة وأبو طالب وغيرهم.
وله كتب كثيرة منها كتاب (الأم) وكتاب السنن المأثورة، وكتاب الرسالة، ومسند يضم الأحاديث التي جمعها، و(اختلاف الحديث) وغير ذلك من الكتب.
2 / 10