المجلد الأول
مقدمات
مقدمة التعريف بكتاب الملل والنحل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة تعريف بكتاب "الملل والنحل":
موضوع هذا الكتاب دراسة الأديان والمذاهب والفرق. ويعتبر هذا الكتاب فريدا في بابه، بل هو عمدة في هذا الموضوع، فهو دائرة معارف مختصرة للأديان والمذاهب والفرق؛ بل للآراء والفلسفة.
وقد نال هذا الكتاب من الشهرة قدرا عظيما، وذلك من علماء الشرق والغرب على السواء. فيقول عالم جليل مثل ابن السبكي عنه: "هو عندي خير كتاب صنف في هذا الباب". ويقول العالم الإنجليزي الأستاذ "ألفرد جيوم" عن هذا الكتاب: "إنه ظل المخلص الوافي، الذي تبوب فيه الملل على اختلافها وخصائص ومميزات كل منها مما يجعله بحيث لا يمكن الاستغناء عنه في أي زمان".
وأما "هابركر" الألماني فيقول: "بوساطة الشهرستاني في كتابه الملل والنحل نستطيع أن نسد الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم والحديث".
تعريف بالمؤلف:
اسمه محمد بن عبد الكريم بن أحمد. وكنيته أبو الفتح، وشهرته المعروف بها الشهرستاني؛ نسبة إلى بلدة "شهرستان" مسقط رأسه، ومثوى رفاته.
أما مولده، فقد اختلف في تاريخه، فمن قائل يقول إنه ولد سنة ٤٦٧هـ وقائل يذهب إلى أنه ولد سنة ٤٦٩هـ.
1 / 3
ولعل أصدق الأقوال أنه ولد سنة ٤٧٩هـ وتوفي في شعبان سنة ٥٤٨هـ الموافق ١١٥٣م، وبذلك يكون قد عاش ٧٠ سنة.
والشهرستاني من حيث المذهب شافعي، ومن حيث الأصول أشعري. وقد تلقى الفقه على شيخه "أحمد الخوافي" قاضي طوس، وزميل الإمام الغزالي. وقرأ الأصول على "أبي القاسم الأنصاري" الذي كان متكلما وشيخا متصوفا ومفسرا وأصوليا. وسمع الحديث على "أبي الحسن المدائني" الإمام التقي.
وكان الشهرستاني مولعا بطلب العلم، بدأ نبوغه في تحصيل العلوم وشغفه بالدروس منذ صغره، وكان لا يدخر في طلب العلم وسعا، فكان يطوف بالبلاد الإسلامية في عصره يتعلم ويعلم، وظل ذلك حاله، حتى بلغ من العمر ثلاثين عاما قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وبعد ذلك سافر إلى بغداد حيث استقر بها ثلاث سنوات كانت حافلة بما ألقاه من دروس نافعة بالمدرسة "النظامية" أعلى المدارس ببغداد، حيث يلتف حوله كبار العلماء للاستفادة منه.
وبلغ من جلال مجالسه العلمية أنها كانت تسجل وتدون، وذلك لعمقها. ومن صفوة الشيوخ الذين كانوا يحضرون هذه المجالس: أبو الحسن بن حمويه، والبيهقي، والإمام أبو منصور، وموفق الدين أحمد الليثي، وشهاب الدين الواعظ، وغيرهم من أئمة الفقه والعلم.
وخلاصة القول أن الشهرستاني وصل إلى قمة السلم العلمي وأربى عليها، فقد لقب بالإمام، بل بالإمام الأفضل. يقول ابن السبكي:
"وكان لعلمه يلقب أيضا بالأفضل: برع في الفقه والأصول والكلام" ويقول عنه ابن تغرى بردي: "كان إمام عصره في علم الكلام، عالما بفنون كثيرة من العلوم، وبه تخرج جماعة من العلماء". ويقول عنه ياقوت إنه "المتكلم الفيلسوف صاحب التصانيف".
1 / 4
ولم يقتصر الأمر على علماء الشرق، فقد عرف علماء الغرب أيضا منزلته وقدروا قدره. فيقول العالم الإنجليزي "ألفرد جيوم": "الشهرستاني كان رجلا دينا إلى الأعماق، وإخلاصه للعقيدة لا يمكن أن يشك فيه أي إنسان قرأ مؤلفاته، التي تكفي بنفسها لدحض ادعاءآت المنتقصين من شأنه ... وهو جدير بأن ينظر إليه باعتباره ذا أصالة فكرية".
ويقول "كارادي" الفرنسي: "إن عقلية الشهرستاني لم تكن في جوهرها إلا عقلية فلسفية".
وذهب الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أن الشهرستاني من أهل الفلسفة الإسلامية اللذين يستشهد بآرائهم، مثله مثل ابن سينا.
مؤلفاته:
للشهرستاني عديد من المؤلفات فله:
١- الإرشاد إلى عقائد العباد: ذكره الشهرستاني نفسه في كتابه "نهاية الأقدام".
٢- الأقطار في الأصول: نسبه إلى الخوارزمي.
٣- تاريخ الحكماء: وقد نسبه إليه "كيورتن" في مقدمته لطبعته لكتاب "الملل والنحل".
٤- تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام: نسبه إليه ابن خلكان وأبو الفداء، وحاجي خليفة.
٥- دقائق الأوهام: نسبه إليه الخوارزمي.
٦- شرح سورة يوسف بعبارة فلسفية لطيفة: نسبه إليه الخوارزمي.
٧- العيون والأنهار: نسبه إليه البيهقي.
1 / 5
٨- غاية المرام في علم الكلام: نسبه إليه الخوارزمي.
٩- قصة موسى والخضر: نسبه إليه البيهقي.
١٠- المبدأ والمعاد: نسبه إليه الخوارزمي.
١١- مجالس مكتوبة: رآها البيهقي -وكانت المجالس لا تكتب إلا للأئمة نادرا.
١٢- مصارعة الفلاسفة، أو المصارعة والمضارعة: نسبه إليه صدر الدين الشيرازي.
١٣- مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار في تفسير القرآن: نسبه إليه البيهقي.
١٤- المناهج والآيات: نسبه إليه البيهقي وابن خلكان وأبو الفداء.
١٥- شبهان أرسطا طاليس وابن سينا ونقضها: ذكره الشهرستاني نفسه.
١٦- نهايات الأوهام: أشار إليه الشهرستاني في آخر كتابه نهاية الأقدام.
غير أنه مما يدعو إلى الأسف أن هذه الكتب لم تصل إلى أيدينا. ولم يطبع للشهرستاني إلا كتابان فقط هما:
١- نهاية الأقدام في علم الكلام.
٢- والكتاب الذي بين أيدينا "الملل والنحل"، وقد ألفه الشهرستاني بعد أن اكتملت مكانته العلمية، ومكنته سنه من التجربة والتعمق في الأمور وحسن الاستنتاج؛ حيث ألفه بعد سن الأربعين.
ويمتاز هذا الكتاب بالاستقصاء في البحث، والدقة في الموضوعات التي يتناولها. والشهرستاني معتدل في الأحكام التي يصدرها في هذا السفر، فلا يصدرها عن ميل أو هوى، فهو يقول في المقدمة الثانية منه: "وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على وحدته في كتبهم؛ من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم".
ومنهج الشهرستاني في هذا الكتاب يمتاز بالإحاطة التامة لموضوع البحث من جميع أطرافه.
1 / 6
ولعلنا بعد ما قدمناه من أدلة على منزلة الشهرستاني العلمية نقول -ما قاله أستاذنا الكبير الدكتور محمد بن فتح الله بدران: "لعله قد آن لنا أن نقرر في يقين واطمئنان أن الشهرستاني أقام بمفرده مدرسة "فلسفية" للملل والنحل أو تاريخ الأديان".
ونسأل الله العلي القدير أن ينفع به كل طالب للمعرفة وباحث عن طريق الحق والهدى.
عبد العزيز الوكيل
1 / 7
مقدمات المؤلف
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين بجميع محامده كلها؛ على جميع نعمائه كلها، حمدا كثيرا طيبا مباركا كما هو أهله. وصلى الله على محمد المصطفى رسول الرحمة خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين؛ صلاة دائمة بركتها إلى يوم الدين، كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه حميد مجيد.
وبعد: فلما وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والملل١، وأهل الأهواء والنحل٢، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها٣ وشواردها٤، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون، وانتحله٥ المنتحلون؛ عبرة لمن استبصر، واستبصارا لمن اعتبر.
وقبل الخوض فيما هو الغرض لا بد من أن أقدم خمس مقدمات:
المقدمة الأولى: في بيان أقسام أهل العالم جملة مرسلة٦.
المقدمة الثانية: في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق٧ الإسلامية.
المقدمة الثالثة: في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها، ومن مظهرها؟
_________
١ الملل: جمع ملة وهي الدين.
٢ النحل: جمع نحلة بكسر النون وهي الدعوى.
٣ أوانس: جمع آنسة، وهي الشابة الجميلة الطيبة النفس، والمراد هنا المعلومات القيمة.
٤ شوارد: جمع شاردة وهي ما ند ونفر، والمراد المعلومات النادرة.
٥ انتحل الشيء: ادعاه لنفسه.
٦ مرسلة: مطلقة، غير مقيدة.
٧ الفرق: جمع فرقة بالكسرة، وهي في الأصل الجماعة من الناس وغيرهم.
1 / 9
المقدمة الرابعة: في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، وكيفية انشعابها١، ومن مصدرها، ومن مظهرها؟
المقدمة الخامسة: في بيان السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب.
_________
١ انشعابها: انقسامها وتفرقها.
المقدمة الأولى: في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة: ١- من الناس من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن١. ٢- ومنهم من قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي: الشرق، والغرب، والجنوب، والشمال. ووفر على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع، وتباين الشرائع. ٣- ومنهم من قسمهم بحسب الأمم، فقال كبار الأمم أربع: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج٢ بين أمة وأمة؛ فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات٣ والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات٤ والكميات٥، واستعمال الأمور الجسمانية. ٤- ومنهم من قسمهم بحسب الآراء والمذاهب. وذلك غرضنا في تأليف هذا الكتاب. وهم منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل. _________ ١ الألسن: جمع لسان والمراد هنا اللغات. ٢ زواج بين الأمرين: خالط بينهما وقارن. ٣ ماهية الشيء: أصله وحقيقته. ٤ الكيف: حالة الشيء وصفته. ٥ الكم: الكمية والمقدار.
المقدمة الأولى: في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة: ١- من الناس من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. وأعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف الطبائع والأنفس التي تدل عليها الألوان والألسن١. ٢- ومنهم من قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي: الشرق، والغرب، والجنوب، والشمال. ووفر على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع، وتباين الشرائع. ٣- ومنهم من قسمهم بحسب الأمم، فقال كبار الأمم أربع: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج٢ بين أمة وأمة؛ فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات٣ والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية. والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات٤ والكميات٥، واستعمال الأمور الجسمانية. ٤- ومنهم من قسمهم بحسب الآراء والمذاهب. وذلك غرضنا في تأليف هذا الكتاب. وهم منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل. _________ ١ الألسن: جمع لسان والمراد هنا اللغات. ٢ زواج بين الأمرين: خالط بينهما وقارن. ٣ ماهية الشيء: أصله وحقيقته. ٤ الكيف: حالة الشيء وصفته. ٥ الكم: الكمية والمقدار.
1 / 10
فأرباب الديانات مطلقا مثل المجوس، واليهود، والنصارى، والمسلمين.
وأهل الأهواء والآراء مثل الفلاسفة، والدهرية١، والصابئة٢، وعبدة الكواكب والأوثان، والبراهمة٣.
ويفترق كل منهم فرقا. فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم. وأهل الديانات قد انحصرت مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها. فافترقت المجوس على سبعين فرقة واليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة. والمسلمون على ثلاث وسبعين فرقة. والناجية أبدا من الفرق واحدة، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة، ولا يجوز أن تكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل، إلا وأن تقتسما الصدق والكذب. فيكون الحق في إحداهما دون الأخرى. ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في أصول المعقولات بأنهما محقان صادقان. وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدا؛ فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة وإنما عرفنا هذا بالسمع، وعنه أخبر التنزيل في قوله ﷿: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ ٤ وأخبر النبي ﵇: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
وقال ﵇: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" وقال ﵇: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
_________
١ الدهري: بفتح الدال المهملة وتضم: القائل ببقاء الدهر، الذي لا يؤمن بالحياة الأخرى.
٢ الصابئة: قوم كانوا يعبدون النجوم، وأصل الفعل صبأ يعني خرج من دين إلى آخر.
٣ البراهمة: فرقة معينة، وهم في الأصل خدمة إله الهنود برهما.
٤ الأعراف آية ١٨١.
1 / 11
المقدمة الثانية:
في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية:
اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق.
ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما؛ في مسألة ما، عد صاحب مقالة. وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد. ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات. فلا بد إذن من ضابط في مسائل هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، ويعد صاحبه صاحب مقالة.
وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا١ في إيراد مذاهب الأمة كيف اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر. فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، وتقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي الأصول الكبار.
القاعدة الأولى: الصفات والتوحيد فيها. وهي تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية، إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة. وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب لله تعالى، وما يجوز عليه، وما يستحيل، وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة والمعتزلة.
القاعدة الثانية: القدر والعدل فيه، وهي تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر والكسب، وإرادة الخير والشر، والمقدور، والمعلوم؛ إثباتا عند جماعة، ونفيا
_________
١ استرسل في الكلام: بسطه.
1 / 12
عند جماعة. وفيها الخلاف بين: القدرية، والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية.
القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام. وهي تشتمل على مسائل الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتكفير، والتضليل؛ إثباتا على وجه عند جماعة، ونفيا عند جماعة. وفيها الخلاف بين المرجئة، والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية.
القاعدة الرابعة: السمع والعقل، والرسالة، والإمامة. وهي تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة. وشرائط الإمامة، نصا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة. وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع. والخلاف فيها بين الشيعة، والخوارج، والمعتزلة والكرامية، والأشعرية.
فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القاعدة، عددنا مقالته مذهبا وجماعته فرقة. وإن وجدنا واحدا انفرد بمسالة فلا نجعل مقالته مذهبا، وجماعته فرقة. بل نجعله مندرجا تحت واحد ممن وافق سواها مقالته. ورددنا باقي مقالاته إلى الفروع التي لا تعد مذهبا مفردا؛ فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية. فإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق الإسلامية، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض.
كبار الفرق الإسلامية أربع
"١" القدرية. "٢" الصفاتية. "٣" الخوارج. "٤" الشيعة.
ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة.
1 / 13
ولأصحاب كتب المقالات طريقان في الترتيب:
أحدهما: أنهم وضعوا المسائل أصولا. ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة وفرقة فرقة.
والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا، ثم أوردوا مذاهبهم، في مسألة مسألة.
وترتيب هذا المختصر على الطريقة الأخيرة، لأني وجدتها أضبط للأقسام، وأليق بباب الحساب.
وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم؛ من غير تعصب١ لهم، ولا كسر عليهم٢؛ دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعين حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج٣ الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل، وبالله التوفيق.
_________
١ تعصب له: مال إليه وجد في نصرته.
٢ كسر عليه: غض منه وانصرف عنه.
٣ مدارج: جمع مدرج، وهو المذهب والمسلك.
المقدمة الثالثة: في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها في الأول ومن مظهرها في الآخر: اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم ﵇ وهي الطين. وانشعبت١ من هذه الشبهة سبع شبهات، وسارت في الخليقة، وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة٢ في شرح الأناجيل _________ ١ انشعب: افترق وتباعد. ٢ مسطورة: مدونة مكتوبة.
المقدمة الثالثة: في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، ومن مصدرها في الأول ومن مظهرها في الآخر: اعلم أن أول شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم ﵇ وهي الطين. وانشعبت١ من هذه الشبهة سبع شبهات، وسارت في الخليقة، وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة٢ في شرح الأناجيل _________ ١ انشعب: افترق وتباعد. ٢ مسطورة: مدونة مكتوبة.
1 / 14
الأربعة: إنجيل لوقا، ومارقوس، ويوحنا، ومتى، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود، والامتناع منه.
قال كما نقل عنه؛ إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق، عالم قادر، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته، وأنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون، وهو حكيم، إلا أنه يتوجه على مساق حكمته١ أسئلة، قالت الملائكة: ما هي؟ وكم هي؟ قال لعنه الله: سبعة.
الأول منها: أنه قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل مني، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
والثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته؛ فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة، ولا يتضرر بمعصية؟
والثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي إياه؟
والرابع: إذ خلقني وكلفني على الإطلاق، وكلفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد لآدم، فلم لعنني وأخرجني من الجنة؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا إلا قولي: لا أسجد إلا لك؟
والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقا، وخصوصا؛ فلم أطع فلعنني وطردني، فلم طرقني٢ إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستي٣، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم، وبقي خالدا فيها؟
_________
١ مساق حكمته: يقال "ساقه مساق غيره" عامله معاملة غيره.
٢ طرقني: جعل لي طريقا. والمراد أنت الذي جعلت لي الطريق إليه.
٣ الوسوسة: مرض يحدث من غلبة السوداء. ويختلط معه الذهن، وسوس الشيطان له حدثه بشر.
1 / 15
والسادس: إذ خلقني وكلفني عموما، وخصوصا، ولعنني، ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم؛ فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم، وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم١ عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم، وأليق بالحكمة؟
والسابع: سلمت هذا كله: خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا، وإذ لم أطع لعنني وطردني وإذ أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم، فلم إذ استمهلته٢ أمهلني، فقلت: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ٣، ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ ٤. وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم والخلق مني وما بقي شر ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟!
قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة.
قال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة ﵈، قولوا له: إنك في تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي بلم، فأنا الله الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل، والخلق مسئولون. وهذا الذي ذكرته مذكور في التوراة، ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته.
وكنت برهة من الزمان أتفكر وأقول: من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهة وقعت لبني آدم؛ فإنما وقعت من إضلال الشيطان الرجيم٥ ووساوسه، ونشأت من
_________
١ يحتالهم عنها: يحولهم عنها ويصرفهم.
٢ استمهلته: سألته المهلة.
٣ الأعراف آية ١٤. وأنظرني: أخرني.
٤ الحجر: آية ٣٧، ٣٨.
٥ الرجيم: الملعون المطرود من رحمته تعالى.
1 / 16
شبهاته. وإذا كانت الشبهات محصورة في سبع، عادت كبار البدع والضلالات إلى سبع. ولا يجوز أن تعدو شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات، وتباينت الطرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور، وترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، وإلى الجنوح١ إلى الهوى في مقابلة النص.
هذا، ومن جادل نوحا، وهودا، وصالحا، وإبراهيم، ولوطا، وشعيبا، وموسى، وعيسى، ومحمدا؛ صلوات الله عليهم أجمعين، كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته. وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم، وجحد أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم، إذ لا فرق بين قولهم ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ ٢ وبين قوله: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ ٣ وعن هذا صار مفصل الخلاف، ومحز٤ الافتراق ما هو في قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ ٥ فبين أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى، كما قال المتقدم في الأول: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ ٦ وقال المتأخر من ذريته كما قال المتقدم: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ ٧ وكذلك لو تعقبنا أقوال المتقدمين منهم لوجدناها مطابقة لأقوال المتأخرين ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ ٨ ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ ٩.
_________
١ الجنوح: الميل والإقبال.
٢ التغابن آية ٦.
٣ الإسراء آية ٦٠.
٤ محز: أصل الحز القطع، والمحز آلة القطع.
٥ الإسراء آية ٩٤.
٦ الأعراف آية ١٢.
٧ الزخرف آية ٥٢.
٨ البقرة آية ١١٨.
٩ يونس آية ٧٤.
1 / 17
فاللعين الأول لما حكم العقل على من لا يحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق. والأول غلو١، والثاني تقصير.
فثار من الشبهة الأولى مذاهب: الحلولية، والتناسخية٢، والمشبهة، والغلاة من الروافض، حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بأوصاف الإله.
وثار من الشبهة الثانية مذاهب: القدرية، والجبرية، والمجسمة، حيث قصروا في وصفه تعالى حتى وصفوه بصفات المخلوقين.
فالمعتزلة مشبهة الأفعال، والمشبهة حلولية الصفات، وكل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء، فإن من قال: إنما يحسن منه ما يحسن منا، ويقبح منه ما يقبح منا، فقد شبه الخالق بالخلق؛ ومن قال: يوصف الباري تعالى بما يوصف به الخلق، أو يوصف الخلق بما يوصف به الباري تعالى، فقد اعتزل عن الحق. وسنخ٣ القدرية طلب العلة في كل شيء، وذاك من سنخ اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولا، والحكمة في التكليف ثانيا، والفائدة في تكليف السجود لآدم ﵇ ثالثا. وعنه نشأ مذهب الخوارج، إذ لا فرق بين قولهم: لا حكم إلا الله ولا نحكم الرجال، وبين قوله: لا أسجد إلا لك، ﴿أَأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ﴾ ٤ وبالجملة "كلا طرفي قصد الأمور ذميم" فالمعتزلة غلوا في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات. والمشبهة قصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام. والروافض غلوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول. والخوارج قصروا حتى نفوا تحكيم الرجال.
وأنت ترى -إذا نظرت- أن هذه الشبهات كلها ناشئة من شبهات اللعين الأول،
_________
١ الغلو: التشدد والتصلب حتى مجاوزة الحد.
٢ التناسخية: هم الذين يعتقدون أن النفس الناطقة تنتقل من بدن إلى آخر.
٣ السنخ: بالكسر؛ الأصل.
٤ الآية -قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون- الحجر آية ٣٣. مسنون: متغير.
1 / 18
وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الآخرة مظهرها. وإليه أشار التنزيل في قوله تعالى: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ١.
وشبه النبي ﷺ كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة، فقال: "القدرية مجوس هذه الأمة" وقال: "المشبهة يهود هذه الأمة، والروافض نصاراها" وقال ﵊ جملة: "لتسلكن سبل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة ٢، والنعل بالنعل، حتى لو دخلو جحر ضب لدخلتموه".
_________
١ البقرة آية ١٦٨.
٢ القذة؛ بالضم، ريش السهم. وتجمع على قذذ.
المقدمة الرابعة: في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، وكيفية انشعابها، ومن مصدرها، ومن مظهرها: وكما قررنا أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملة وشريعة: أن شبهات أمته في آخر زمانه؛ ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين وأكثرها من المنافقين. وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادى الزمان، فلم يخف في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي ﵇، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه، والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه. اعتبر حديث ذي الخويصرة التميمي إذ قال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، حتى قال ﵊: "إن لم أعدل فمن يعدل؟ " فعاود اللعين وقال:
المقدمة الرابعة: في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، وكيفية انشعابها، ومن مصدرها، ومن مظهرها: وكما قررنا أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملة وشريعة: أن شبهات أمته في آخر زمانه؛ ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين وأكثرها من المنافقين. وإن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادى الزمان، فلم يخف في هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبي ﵇، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه، والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه. اعتبر حديث ذي الخويصرة التميمي إذ قال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، حتى قال ﵊: "إن لم أعدل فمن يعدل؟ " فعاود اللعين وقال:
1 / 19
"هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى". وذلك خروج صريح على النبي ﵊، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجيا، فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجيا. أو ليس ذلك قولا بتحسين العقل وتقبيحه؟ وحكما بالهوى في مقابلة النص، واستكبارا على الأمر بقياس العقل؟ حتى قال ﵊: "سيخرج من ضئضئ ١ هذا الرجل قوم يمرقون ٢ من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... " الخبر بتمامه.
واعتبر حال طائفة أخرى من المنافقين يوم أحد إذ قالوا: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ٣ وقولهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ ٤ وقولهم: ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ ٥ فهل ذلك إلا تصريح بالقدر؟ وقول طائفة من المشركين: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ٦ وقول طائفة: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ ٧ فهل هذا إلا تصريح بالجبر؟
واعتبر حال طائفة أخرى حيث جادلوا في ذات الله، تفكرا في جلاله، وتصرفا في أفعاله حتى منعهم وخوفهم بقوله تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ ٨ فهذا ما كان في زمانه ﵊ وهو على شوكته وقوته وصحة بدنه. والمنافقون يخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم بالاعتراض في كل وقت على حركاته وسكناته، فصارت الاعتراضات كالبذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع.
وأما الاختلافات الواقعة في حال مرضه ﵊ وبعد وفاته بين الصحابة ﵃، فهي اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، وإدامة مناهج الدين.
_________
١ الضئضئ: الجنس، والأصل، والمحتد، يقال: فلان من ضئضئ صدق: أي من محتد صدق.
٢ يمرق من الدين: يخرج منه.
٣، ٤، ٥ آل عمران آية ١٥٤، ١٥٦.
٦ النحل آية ٣٥.
٧ يس آية ٤٧.
٨ الرعد آية ١٣، ومعنى المحال القوة والأخذ.
1 / 20
فأول تنازع وقع في مرضه ﵊ فيما رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بإسناده عن عبد الله بن عباس ﵁، قال: "لما اشتد بالنبي ﷺ مرضه الذي مات فيه قال: "ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي" فقال عمر ﵁: "إن رسول الله ﷺ قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله" وكثر اللغط١، فقال النبي ﷺ: "قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع" قال ابن عباس: "الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله ﷺ".
الخلاف الثاني: في مرضه أنه قال: "جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه" فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز من المدينة. وقال قوم: قد اشتد مرض النبي ﵊ فلا تسع قلوبنا مفارقته، والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره.
وإنما أوردت هذين التنازعين، لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة في أمر الدين، وليس كذلك. وإنما كان الغرض كله: إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب، وتسكين نائرة٢ الفتنة المؤثرة عند تقلب الأمور.
الخلاف الثالث: في موته ﵇، قال عمر بن الخطاب: من قال: إن محمدا قد مات قتلته بسيفي هذا؛ وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى ﵇، وقال أبو بكر بن أبي قحافة ﵁: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد إله
_________
١ اللغط: الصوت المبهم والجلبة.
٢ نائرة الفتنة: نأرت في الناس نائرة، هاجت هائجة.
1 / 21
محمد فإن إله محمد حي لم يمت ولن يموت، وقرأ قول الله ﷾: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ ١ فرجع القوم إلى قوله؛ وقال عمر ﵁: "كأني ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر".
الخلاف الرابع: في موضع دفنه ﵇، أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة لأنها مسقط رأسه، ومأنس نفسه، وموطئ قدمه، وموطن أهله، وموقع رحله؛ وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته، ومدار نصرته؛ وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء، ومنه معراجه إلى السماء. ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة لما روى عنه ﵊: "الأنبياء يدفنون حيث يموتون".
الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان. وقد سهل الله تعالى ذلك في الصدر الأول، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري، فاستدركه أبو بكر وعمر ﵄ في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة، وقال عمر: كنت أزور٢ في نفسي كلاما في الطريق، فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر: مه٣ يا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت الفتنة،
_________
١ آل عمران آية ١٤٤.
٢ أزور كلاما: أحسن كلاما وأقومه وأنمقه.
٣ مه: اكفف.
1 / 22
إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة١ وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة٢ يجب أن يقتلا.
وإنما سكتت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي ﵇: "الأئمة من قريش" وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة، ثم لما عاد إلى المسجد انثال٣ الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان من بني أمية. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ كان مشغولا بما أمره النبي ﷺ من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة.
الخلاف السادس: في أمر فدك٤ والتوارث عن النبي ﵇، ودعوى فاطمة ﵍ وراثة تارة، وتمليكا أخرى، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي ﵇: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة".
الخلاف السابع:
في قتال مانعي الزكاة، فقال قوم: لا نقاتلهم قتال الكفرة.
وقال قوم: بل نقاتلهم، حتى قال أبو بكر ﵁: لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، ومضى بنفسه إلى قتالهم، ووافقه جماعة الصحابة بأسرهم. وقد أدى اجتهاد عمر ﵁ في أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم، وإطلاق المحبوسين منهم، والإفراج عن أسراهم.
_________
١ فلتة: دون تدبر وتمهل.
٢ تغرة: غرر بنفسه تغريرا، وتغرة: عرضها للهلاك.
٣ انثال عليه الناس: انصبوا عليه وتكاثروا حوله.
٤ فدك: قرية شمال المدينة، كانت لليهود، ولما انهزم يهود خيبر خشي يهود فدك على أنفسهم فسلموا قريتهم للنبي ﵇ دون قتال فكانت خالصة له ينفق منها على نفسه، وعلى بعض المحتاجين من بني هاشم.
1 / 23