موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية
موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية
প্রকাশক
مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
প্রকাশনার স্থান
قبرص
জনগুলি
كلمة المركز
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد اتخذ مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية لنفسه منذ ولادته هدفًا ينشده، وهو كشف زور الأعداء، ومحاربة مخططاتهم، وغاية يطلبها وهي إعادة بيت المقدس إلى حاضرة الإسلام، وهذا الهدف وتلك الغاية كان ينبغي ليتم تحصيلها القيام بسلسلة من الإجراءات والأعمال التي توضح -وبنفس الوقت تذيب شُبَه الأعداء -مكانة هذه المنطقة الأسيرة -بيت المقدس- في تراثنا الإسلامي، فهو يؤصل لبيت المقدس تأصيلًا شرعيًّا، علاوة على التأصيل التاريخي، هذان العاملان كفيلان في إعادة اللحمة بين المسلمين، وكفيلان أيضًا في رفع الظلم والاستبداد الذي يقع على أهلنا هناك.
إن بيت المقدس له أهميته البالغة في نظر الإسلام؛ كيف لا ونحن نردد قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)﴾ [الإسراء: ١] علاوة على الأحاديث الكثيرة التي تشير إلى أهمية هذه المنطقة.
ومن هنا فإن المركز لا يسأم ولا يتردد في إيجاد كل ما من شأنه أن يطرح على الساحة الفكرية لدى الناس ما له صلة بنظام الإسلام لا سيَّما العقدي، والتشريعي منه، فكانت هذه الموسوعة، التي تعد إصدارًا آخر من إصداراته
1 / 1
الفريدة من نوعها، والمتعلقة ببيت المقدس والشام، ليرى القارئ الكريم ذلك السفر العجيب من أحاديث رسولنا الكريم المأثورة حول هذه المنطقة، ليعلم بعد ذلك ما الدور الموكول على عاتقه تجاه تلك المسألة العقدية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المركز -كغيره من الجهود- حريص على عدم ترك تصنيع الساحة الفكرية للمسلمين للأعداء، بل هو يُكَّرِسُ جهده، ويُعدِّد إصداراته، ويُكْثر حواراته حتى يتحقق قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٥ - ٧].
وعلى هذا يكون الهدف من عمل هذه الموسوعة يمكن أن يتبلور فيما يلي:
بيان أهمية بيت المقدس على لسان المصطفى ﷺ.
تنقية التراث الحديثي المقدسي، وذلك ببيان صحيحه من ضعيفه.
لتكون هذه الموسوعة مرجعًا للباحثين وطلاب العلم والدعاة.
إذكاء روح التعلق ببيت المقدس في نفوس المسلمين.
هذا واللَّه نسأل أن يؤول هذا الجهد مبكرًا لتحقيق النبوة الإلهية الواردة في تلك الآيات، وأن يثيبنا على سعينا، ويرشدنا طرق الهداية والرشاد.
وصلى اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 2
تقديم
الحمد للَّه مُعز الإسلام بنصره، ومُذل الشرك بقهره، ومُصَّرف الأمور بأمره، ومُزيد النعم بشكره، ومُستدرج الكافرين بمكره، الذي قدَّر الأيام دولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طلِّه وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والظاهر على خليقته فلا يُنارع، الآمر بما يشاء فلا يُراجَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رافع الشك، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى ﷺ وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين وجامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. (^١)
_________
(^١) هذا المصدر من أول خطبة ألقيت في المسجد الأقصى في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي، ألقاها القاضي محيي الدين بن الزكي، ذكر فيها فضائل المسجد الأقصى وكان أول ما قال: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ عند ذلك تلي التنزيل وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفَّت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس، وطابت النفوس، =
1 / 3
أمَّا بعد
فإن المسجد الأقصى يمثل عند المسلمين عقيدة راسخة لا تزول ولا تتغير؛ فإنه أول القبلتين وثاني المسجدين، لا يشد الرحل بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري بالنبي ﷺ وصلى فيه بالأنبياء والرسل، ومنه كان المعراج إلى السموات العلى، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، فقدره عظيم، وشرفه كبير، والإيمان بفضله وشرفه عقيدة، والجهاد لتحريره عزة، والتخاذل عن نصره ذلة، والرضى بكونه مأسورًا ومدنسًا نفاق وخسة؛ لذا فإن الصراع بيننا وبين اليهود وحلفائهم ليس صراع أرض وحدود، وانما هو صراع عقيدة ووجود، ومن نظر إلى قضية القدس بغير هذا المنظور فهو جاهل ظلوم قد تجاوز الحدود، فاليهود يخوضون ضدنا حربًا دينية، ويتقربون إلى اللَّه -زعموا- بتخريب بلادنا، وافساد أخلاقنا، وتدمير اقتصادنا، ونحن نقاوم ذلك تحت راية القومية العربية، وليست تحت راية الدعوة الإسلامية، حتى هذه القومية المزعومة لم تحرك ساكنًا، أو تغير واقعًا لمَّا ناداهم الأقصى:
نادى على أهله الأقصى فما انتفضت ... إلا الحجارة تفديه وتحميه
يا ألف مليون مخلوق لو ائتلفوا ... لزلزلوا الكون دانيه وقاصيه
لعلَّنا إن سمعنا صوت نائحة .... واإخوتاه انتفضنا كي نلبيه
وفي المقابل ترى اليهود يعلنونها بكل صراحة: إن حربنا معكم مقدسة، في البروتوكول الخامس من بروتوكولات حكماء صهيون يقولون: إننا نقرأ في
_________
= وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعُبد اللَّه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وكبره الراكع والساجد والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، وقد صدرت القول بها تيمنًا لعلَّنا نسمع مثلها عن قريب، ووقتئذٍ يفرح المؤمنون بنصر اللَّه.
1 / 4
شريعة الأنبياء: أننا مختارون من اللَّه لنحكم الأرض. وفي صحيفة يديعوت أحرنوت اليهودية نشرت مقالًا في ١١/ ٣/ ١٩٨٧ م جاء فيه: إنَّ على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة مهمة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عامًا، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدًا عن تلك المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا تلك في استمرار منع استيقاظ الروح الدينية بأي شكل وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف لإخماد أي بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا.
وعندما أُعلنت دولة إسرائيل دولة لها كيانها واستقلالها -لا أقامها اللَّه- قام أول رئيس للوزراء وهو بن جوريون في هيئة الأمم المتحدة وقال على الملأ: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظور سياسي أو قانوني ولكن لنا الحق في فلسطين من منظور ديني، فهي أرض الموعد التي وعدنا اللَّه إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي في أنحاء العالم بعد قيام دولة إسرائيل أن يهاجر إلى فلسطين، فإن كل يهودي لا يهاجر اليوم إلى أرض فلسطين فإنه يكفر كل يوم بالدين اليهودي.
ومع هذا التصريح والبيان من غير تلميح نرى بين صفوفنا قومًا يصرون على أن الدين لا دخل له في صراعنا مع اليهود:
أحل الكفر بالإسلام ضيمًا ... يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح ... وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبًا ... ومسلمة لها حرم سليب
1 / 5
وكم من مسجد جعلوه ديرًا ... على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق ... وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل ... لطفل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر ... وعيش المسلمين إذًا يطيب
أما للَّه والإسلام حق ... يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا ... أجيبوا اللَّه ويحكمُ أجيبوا
فالقدس لن تعود إلا بالمؤمنين أصحاب العقيدة التي تقدس البيت المقدس وتطأ اليهود والشرك المدنس، ولا عزة إلا بهذا.
في العام السادس عشر من الهجرة النبوية تم فتح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁، ولما قدم عمر وصلى في المسجد الأقصى أراد عمر ﵁ أن يجهر بهذه العقيدة، فلما قدم بيت المقدس عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض صنعت كذا وكذا قال: فصك في صدره وقال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم اللَّه بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم اللَّه. نعم واللَّه يا عمر لا عزة ولا نصرة ولا فلاح إلا باللَّه ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (^٢).
وفي محاولة منَّا لنصرة قضية المسلمين في فلسطين شمرنا عن ساعد الجد، لجمع كل ما ورد في كتاب اللَّه وسنة نبيه ﷺ عن هذه البقعة المباركة على وجه الخصوص وعن بلاد الشام قاطبةً على وجه العموم.
فلعل غافلًا ينتبه، وجاهلًا يتعلم، وناسًا يتذكر، وعالمًا يزداد علمًا ويقينًا.
_________
(^٢) المنافقون: ٨.
1 / 6
ولربما استيقظت أمة من سباتها لتسترد مجدًا قد سلب منها، وأرضًا قد حُبسنا عنها، ومسجدًا قد شكى إلى اللَّه منَّا.
فجمعنا في ذلك ما ورد من الآيات، وما ثبت أو لم يثبت عن كل الأنبياء، وما أُثر عن الصحابة والتابعين والعلماء؛ ليكتمل البناء، ويتضح المقال، وينكشف ما كان مخبأً في ثنايا السطور والمصنفات، فغدت هذه الموسوعة بحمد اللَّه جامعةً لكل الفضائل والآيات، ومبينة فضل هذه البلاد على غيرها من الجارات سوى مكة والمدينة؛ فهما موطن الشرف ومهبط الوحي والفرقان.
1 / 7
تنبيه ونصيحة
اعلم أن اللَّه ﵎ قد شرَّف بقاعًا على بقاع، ومواضع على مواضع، وشرَّف أمكنة بفضائل متعددة، وأخرى لا نصيب لها من أي فضيلة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، وليست العبرة بذكر هذه الفضائل وحسب، إنما بانتفاع الإنسان بها، والحرص على الخير أينما حلّ وارتحل.
فلو جاور عند الكعبة وهي أشرف البقاع وعمد إلى المعاصي وغفل عن الطاعات فإنه لا ينتفع بشرف هذه المجاورة؛ فالفضل الذي لا خلاف فيه إنما يكمن في طاعة اللَّه وطاعة رسوله ﷺ أي مكان كان، في أي بقعة كانت.
قال شيخ الإسلام ﵀: الإقامة في كل موضع يكون الإنسان فيه أطوع للَّه ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له، أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة اللَّه ورسوله دون ذلك. هذا هو الأصل الجامع؛ فإن أكرم الخلق عند اللَّه أتقاهم.
والتقوى هي: ما فسّرها اللَّه تعالى في قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .﴾ إلى قوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (^٣)، وجماعها فعل ما أمر اللَّه به ورسوله، وترك ما نهى اللَّه عنه ورسوله ﷺ.
وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان، فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل إذا كان مجاهدًا في سبيل اللَّه بيده أو لسانه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلَّت حسناته، ولم يكن فيها مجاهدًا، وإن كان أروح قلبًا، وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع.
_________
(^٣) البقرة: ١٧٧.
1 / 8
ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل اللَّه تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء؛ فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، كما قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .﴾ الآية (^٤).
وسُئل النبي ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:"حَجٌّ مَبْرُورٌ".
وهكذا لو كان عاجزًا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل الذي لو انتقل إليه لكانت الطاعة عليه أهون، وطاعة اللَّه ورسوله في الموضعين واحدة؛ لكنها هناك أشق عليه، فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضل؛ وبهذا ناظَر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم، فقالوا: كنا عند البغضاء البعداء وأنتم عند رسول اللَّه ﷺ يعلِّم جاهلكم، ويطعم جائعكم، وذلك في ذات اللَّه.
وأمَّا إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق؛ فإن أكثرهم لا يدافعون؛ بل يكونون على دين الجمهور.
فإن كون الأرض "دار كفر" أو "دار إسلام أو إيمان" أو "دار سلم" أو "حرب" أو "دار طاعة" أو "معصية" أو "دار المؤمنين" أو "الفاسقين" أوصاف عارضة، لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس.
وأمَّا الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح، كما
_________
(^٤) التوبة: ١٩ - ٢٠.
1 / 9
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .﴾ الآية (^٥). وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآية (^٦).
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ (^٧).
وإسلام الوجه للَّه تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه كما قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (^٨)، وقال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (^٩)، وقال تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (^١٠).
ومنذ أقام اللَّه حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسول ﷺ وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، واتباع شريعته ومنهاجه، فأفضل الخلق وأعلمهم وأتبعهم لما جاء به علمًا، وحالًا، وقولًا، وعملًا، هم أتقى الخلق. وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه؛ وإن كان الأفضل في حق غيره شيئًا آخر. ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل
_________
(^٥) البقرة: ٦٢.
(^٦) البقرة: ١١١ - ١١٢.
(^٧) النساء: ١٢٥.
(^٨) الفاتحة: ٥.
(^٩) هود: ١٢٣.
(^١٠) هود: ٨٨.
1 / 10
في حقه، فإن تساوت الحسنات والمصالح التي حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء، وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما.
وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب "المساجد الثلاثة" علمًا وإيمانًا ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم. فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقًا، بل يعطي كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب، ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال؛ كإعانة مكة حرسها اللَّه تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو ذلك، وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولًا: مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات (^١١).
_________
(^١١) "مجموع الفتاوى" (٢٧/ ٣٩ - ٤٧) بتصرف.
1 / 11
اعتقاد الفضل لبقعة بغير دليل افتراء وضلال وقول عليل
زيَّن الشيطان لكثير من الناس تقديس مواضع وأمكنة بغير برهان أو دليل، فانطلت على الجمع الغفير روايات موضوعة ذات خطر كبير، فالتساهل قد دبَّ في مثل هذه المواطن بغير نكير.
قال الشوكاني:
توسَّع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان، ولا سيما بلدانهم؛ فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل، ويذكرون الموضوع، ولا ينبِّهون عليه، كما فعل الديبع في تاريخه الذي سماه: "قرة العيون بأخبار اليمن الميمون"، وتاريخه الآخر الذي سماه: "بغية المستفيد بأخبار مدينة زبيد" مع كونه من أهل الحديث وممن لا يخفى عليه بطلان ذلك، فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها أو روايته؛ فإن الكذب في هذا قد كثر، وجاوز الحد، وسببه: ما جبلت عليه القلوب من حب الأوطان والشغف بالمنشأ. اهـ. (^١٢)
فأمر الفضائل موقوف على ثبوت النص وما لا فلا، فإنها ليست من باب الاجتهاد ولا دخل لها بالعقل والرأي، إنما مردها إلى اللَّه وإلى رسوله ﷺ.
فلما غفل الناس عن هذا الأصل تقربوا إلى اللَّه تعالى -زعموا- بالذهاب إلى أماكن ومواضع ظنوا أنها فاضلة فاتخذوها مهاجرًا وعيدًا، قصدوا الخير لكنهم ضلوا السبيل.
قال شيخ الإسلام:
فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها، أو قناة
_________
(^١٢) "الفوائد المجموعة" (ص ٤٣٦ - ٤٣٧).
1 / 12
جارية، أو جبلًا، أو مغارةً، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر اللَّه سبحانه عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوعٍ من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به، لا عينًا ولا نوعًا.
وأقبح من ذلك: أن ينذر لتلك البقعة دهنًا لتنوَّر به، ويقول: إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين. فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم: أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: أنه يستغفر اللَّه من هذا النذر، ولا شيء عليه. والمسألة معروفة.
وكذلك إذا نذر طعامًا من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر، وكذلك إذا نذر مالًا من النقد أو غيره للسدنة، أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة الذين كانوا للَّاتِ والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللَّه، والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم الخليل إبراهيم إمام الحنفاء ﷺ: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ (^١٣) ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (^١٤) والذين أتى عليهم موسى ﵇ وقومه بعد مجاوزتهم البحر كما قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ (^١٥).
فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين فيها: نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين
_________
(^١٣) الأنبياء: ٥٢.
(^١٤) الشعراء: ٧٥ - ٧٧.
(^١٥) الأعراف: ١٣٨.
1 / 13
عندها، أو سدنة الأبداد التي بالهند والمجاورين عندها.
ثم هذا المال المنذور: إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل أن يصرفه في عمارة المساجد، أو للصالحين من فقراء المسلمين الذين يستعينون بالمال على عبادة اللَّه وحده لا شريك له كان حسنًا.
فمن هذه الأمكنة: ما يظن أنه قبر نبي، أو رجل صالح، وليس كذلك، يظن أنه مقام له وليس كذلك.
فأمَّا ما كان قبرًا له أو مقامًا: فهذا من النوع الثاني، وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه.
فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل: مشهد أُبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم: أن أُبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق. واللَّه أعلم قبر من هو؟ لكنه ليس بقبر أُبي بن كعب صاحب رسول اللَّه ﷺ بلا شك.
وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال: إن فيه قبر هود ﵇، وما علمت أحدًا من أهل العلم ذكر أن هودًا النبي مات بدمشق، بل قد قيل إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، فإن مبعثه كان باليمن، ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة، فأما الشام فلا هي داره ولا مهاجره. فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه في غاية البعد.
وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق يقال: إنه قبر أويس القرني، وما علمت أن أحدًا ذكر أن أويسًا مات بدمشق، ولا هو متوجه أيضًا؛ فإن أويسًا قدم من اليمن إلى أرض العراق. وقد قيل: إنه قتل بصفين، وقيل: إنه مات بنواحي أرض فارس، وقيل: غير ذلك. وأما الشام فما ذكر أحد أنه قدم إليها، فضلًا عن الممات بها.
1 / 14
ومن ذلك أيضًا: قبر يقال له قبر أم سلمة زوج النبي ﷺ، ولا خلاف أنها ﵂ ماتت بالمدينة لا بالشام. ولم تقدم الشام أيضًا، فإن أم سلمة زوج النبي ﷺ لم تكن تسافر بعد رسول اللَّه ﷺ. بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، فإن أهل الشام: كشهر بن حوشب ونحوه كانوا إذا حدثوا عنها قالوا: أم سلمة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وهي من أعيان الصحابيات. ومن ذوات الفقه والدين منهن، أو لعلها أم سلمة امرأة يزيد ابن معاوية وهو بعيد، فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين، وما أكثر الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيَّرة.
ومن ذلك: مشهد بقاهرة مصر، يقال: إنه فيه رأس الحسين بن علي ﵄، وأصله المكذوب: أنه كان بعسقلان مشهد يقال: إن فيه رأس الحسين فحمل -فيما قيل- الرأس من هناك إلى مصر، وهو باطل باتفاق أهل العلم لم يقل أحد من أهل العلم أن رأس الحسين كان بعسقلان، بل فيه أقوال ليس هذا منها، فإنه حمل رأسه إلى قدام عُبَيد اللَّه بن زياد بالكوفة حتى روى له عن النبي ﷺ ما يغيظه، وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام ولا يثبت ذلك، فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق، وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين قد علم أنها ليست بمقابرهم.
فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلًا، وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة؛ اللهم إلا أن يكون قبرًا لرجل مسلم فيكون كسائر المسلمين ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجهال، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادًا. ولا أن يفعل فيها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة، أو تكون قبرًا لرجل صالح غير المسمى فيكون من القسم الثاني.
1 / 15
ومن هذا الباب أيضًا: مواضع يقال: إن فيها أثر النبي ﷺ أو غيرها ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة، كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس من أن فيها أثرًا من وطء قدم النبي ﷺ، وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب ﷾ فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم.
وفي مسجد قبلي دمشق يسمى مسجد القدم به أيضًا أثر يقال: إن ذاك أثر قدم موسى ﵇، وهذا باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى دمشق ولا ما حولها.
وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناءً على أنه روي في المنام هناك، ورؤية النبي أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين. وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب، وربما صوروا فيها صورة النبي أو الرجل الصالح، أو بعض أعضائه مضاهاةً لأهل الكتاب كما كان في بعض مساجد دمشق مسجد يسمى مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب ﵁ حتى هدم اللَّه ذلك الوثن.
وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد.
وفي الحجاز منها مواضع: كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي أوى النبي ﷺ إليه هو وأبو بكر، وأنه الغار الذي ذكره اللَّه في قوله: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ (^١٦)، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار المذكور في القرآن الكريم إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم.
فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من الإسلام تعظيمها
_________
(^١٦) التوبة: ٤٠.
1 / 16
بأي نوع من التعظيم، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها، وكما ينهى عن إفراد الجمعة وسرر شعبان بالصوم وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم.
فإن ما كان مقصودًا بالتخصيص مع النهي عن ذلك ينهى عن تخصيصه أيضًا بالفعل.
وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي ﴿أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ (^١٧). فإن ذلك المسجد لما بني: ﴿ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ (^١٨). نهى اللَّه نبيه ﷺ عن الصلاة فيه، وأمر بهدمه.
وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاةً لبيوت اللَّه وتعظيمًا لما لم يعظمه اللَّه وعكوفًا على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصدًّا للخلق عن سبيل اللَّه، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه اللَّه على لسان رسوله ﷺ، واتخاذها عيدًا، والاجتماع عندها واعتياد قصدها فإن العيد من المعاودة.
ويلتحق بهذا الضرب -ولكنه ليس منه- مواضع تدعى له خصائص لا تثبت مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي، أو قبر صالح، أو مقام نبي، أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقًا وقد يكون كذبًا.
_________
(^١٧) التوبة: ١٠٩.
(^١٨) التوبة: ١٠٧.
1 / 17
وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب، فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدًّا.
وكان غير واحد من أهل العلم يقول: لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد ﷺ وغيره قد يثبت غير هذا أيضًا، مثل قبر إبراهيم الخليل ﵊، وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق، فإن الأرض غيرت مرات فتعيين قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق خاصة، وان كان لو ثبت به حكم شرعي مما قد أحدث عندها.
ولكن الغرض أن نبين هذا القسم الأول من تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها: إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها، أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة؛ إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه، كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أُهمل، ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ.
وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عن السدنة والمجاورين لها، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللَّه.
وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلًا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى اللَّه حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك، وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام.
فإن القوم كانوا أحيانًا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضى حوائجهم إذا قصدوها؛ ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع اللَّه تعظيمه من بيته المحجوج، والحجر الأسود الذي شرع
1 / 18
اللَّه استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته.
وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض.
وقد صحَّ عن النبي ﷺ أنه نهى عن النذر وقال: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ". فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع.
وأمَّا إجابة الدعاء: فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه، وقد يكون سببه مجرد رحمة اللَّه له، وقد يكون أمرًا قضاه اللَّه لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي.
فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون، ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها.
وقد قال اللَّه تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (^١٩).
وقال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ (^٢٠).
وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها ليس هذا موضع تفصيلها.
وإنما على الخلق اتباع ما بعث اللَّه به المرسلين والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ولعلِّي إن شاء اللَّه أبيِّن بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر (^٢١).
_________
(^١٩) الإسراء: ٢٠.
(^٢٠) الجن: ٦.
(^٢١) "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" (ص ٢٩٠ - ٢٩٦).
1 / 19
حكم رواية الإسرائيليات
سترى في ثنايا هذه الموسوعة كمًّا عظيمًا من أحاديث بني إسرائيل،، والذي أثبتناه هنا إنما وضع للعلم والبيان، وليس للحجة والاعتماد، فبحمد اللَّه شريعتنا فيها الغُنية والكفاية، وشريعة من قبلنا محرفة ومبدلة بلا نهاية. ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (^٢٢).
وقد فصل أهل العلم المرويات المنقولة عن بني إسرائيل إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة، والقرآن هو الكتاب المهيمن، والشاهد على الكتب السماوية قبله، فما وافقه فهو حق وصدق، وما خالفه فهو باطل وكذب، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (^٢٣).
وهذ االقسم صحيح، وفيما عندنا غنية عنه، ولكن يجوز ذكره وروايته للاستشهاد به، ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم، وذلك مثل ما ذكر في صاحب موسى ﵇ وأنه الخضر، فقد ورد في الحديث الصحيح، ومثل ما يتعلق بالبشارة
_________
(^٢٢) البقرة: ٧٩.
(^٢٣) المائدة: ٤٨ - ٤٩.
1 / 20