مقدمة
...
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله، مُعِزّ الإسلام بنصره، ومُذِلّ الشرك بقهره، ومُصَرِّف الأمور بأمره، ومُسْتَدْرِج العاصين بِمَكْرِهِ، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمَانَع، الظاهر على خلقه فلا يُنَازَع، الحكيم فيما يريد فلا يُدَافَع.
أحمده على إعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وخفضه لأعدائه، حَمْدَ من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ شهادة مَن طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بالمعاداة فيه والموالاة ربَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشك، وخافض الشرك، وقامع الكذب والإفك، اللهم صَلِّ على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(وبعد): فاعلم أيها الطالب للسلامة، الساعي في أسباب تحصيل الفوز والكرامة، أني وقفتُ على رسالة لمن لم يُسَمِّ نفسه، مُشْعِرَة بأنه من بلاد الخَرْج١ متضمنة لأنواع من الكذب والمرج، جامعة لأمور من الباطل، لا يَسَعُ مسلمًا السكوتُ عليها خشيةَ أن يفتن بها بعض الجاهلين فيعتمد عليها، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم.
وقد جعل الله في كل زمان فترة، بقايا من أهل العلم يدعون مَنْ ضَلَّ إلى الهدى، ويُبَصِّرُونَ بدين الله أهل العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أَحْيُوهُ، وتَائِهٍ ضالٍّ قد هَدُوهُ، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم،
_________
١ في بلاد نجد.
1 / 288
وقد عَنَّ لي الجواب؛ لتمييز الخطأ من الصواب، فلا بد من ذكر مقدمة نافعة لتكون هي المقصودة بالذات، رجاء أن تكون سَبَبًا موصلا إلى رضوان الله، يستبصر بها طالب الهُدَى من عباد الله، وذلك بتوفيق الله الذي لا إله سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اعلم أيها المُنْصِفُ أن دين الله القَوِيم، وصراطه المستقيم، إنما يتبين بمعرفة أمور ثلاثة، هي مدار دين الإسلام، وبها يتم العمل بأدلة الشريعة والأحكام، ومتى اخْتَلَّتْ وتَلاشَتْ وقع الخلل في ذلك النظام:
(الأمر الأول): أَنْ تَعْلَمَ أنَّ أصلَ دين الإسلام وأساسه، وعماد الإيمان ورأسه، هو: توحيدُ الله -تعالى- الذي بعث به المرسلين، وأنزل به كتابه المحكم المبين، قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ ١، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أصل دين الإسلام: أن لا يُعْبَد إلا الله، وأن لا يُعْبَد الله إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع.
وقد قال شيخنا -رحمه الله تعالى- إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه. والنهي عن الشرك بالله في عبادته، والتغليظ فيه والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. والمُخَالِف في ذلك أنواع، ذكرها -رحمه الله تعالى-.
نواقض التوحيد
وهذا التوحيد له أركان وفروع، ومقتضيات وفرائض، ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الكمال والتمام إلا بالقيام بها عِلْمًا وعملا.
وله نواقض ومبطلات تُنَافِي ذلك التوحيد، فمن أعظمها أمور ثلاثة:
(الأول): الشرك بالله في عبادته كدعوة غير الله، ورجائه والاستعانة به، والاستغاثة به، والتوكل عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة، فمن صَرَفَ منها شيئا لغير الله كَفَرَ، ولم يصح له عمل، وهذا الشرك هو أعظم
_________
١ سورة هود آية: ١.
1 / 289
مُحْبِطَات الأعمال كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ١. وقوله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين َ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ٢، ففي هذه الآية: نَفْي الشرك وتغليظه، والأمر بعبادة لله وحده. ومعنى قوله: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ ٣ أي: لا غيره، فإن تقديم المَعْمُول يُفيد الحصرَ عند العلماء قديما وحديثا.
(الأمر الثاني من النواقض): انشراح الصدر لمن أشرك بالله ومُوَادَّة أعداء الله ٤ كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ٥ الآية، إلى قوله: ﴿أنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ٦. فمن فعل ذلك فقد أبطل توحيده ولو لم يفعل الشرك بنفسه.
قال الله –تعالى-: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ٧ الآية؛ قال شيخ الإسلام: أخبر –سبحانه- أنه لا يوجد مؤمن يُوَادُّ كافرًا، فمن وَادَّهُ فليس بمؤمن. قال: والمشابهةُ مَظِنَّة الموادَّة، فتكون مُحَرَّمَة.
قال العماد ابن كثير في تفسيره: قيل: نزلتْ في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر، ﴿أَوْ أَبْنَاءَهُم﴾ في الصديق يومئذ هَمَّ بقتل ابنه عبد الرحمن، ﴿أَوْ إِخْوَانَهُم﴾ في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، ﴿أَوْ عَشِيْرَتَهُم﴾ في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبةَ وشيبةَ والوليدَ بن عتبة يومئذ.
قال: وفي قوله: ﴿رَضِيَ الله عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ﴾ سرٌ بديعٌ، وهو أنهم لما
_________
١ سورة الأنعام آية: ٨٨.
٢ سورة الزمر آية: ٦٥،٦٦.
٣ سورة الزمر آية: ٦٦.
٤ أي موادتهم وانشراح الصدر لهم؛ لأجل شركهم وعداوتهم؛ لأن تعليق الحكم على المشتق يدل على أنه علة له كما قالوه في آية حد السارق، ولذلك استدل هنا بآية (ولكن من شرح بالكفر صدرا) إلخ، ولا يدخل في ذلك الصحبة بالمعروف؛ لأجل القرابة ونحوها -مع كراهة الكفر نفسه-؛ لقوله -تعالى- في الوالدين المشركين: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) الآية.
٥ سورة النحل آية: ١٠٦.
٦ سورة النحل آية: ١٠٧.
٧ سورة المجادلة آية: ٢٢.
1 / 290
سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضى عنهم، ورضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم، ونَوَّهَ بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك من أنهم حزب الشيطان: ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ١.
(الأمر الثالث): موالاة المشرك، والركون إليه، ونصرته وإعانته باليد، أو اللسان، أو المال كما قال تعالى: ﴿فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ﴾ ٢. وقال: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ ٣. وقال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ٤. وهذا خطاب من الله –تعالى- للمؤمنين في هذه الأمة؛ فانظر أيها السامع أين تقع من هذا الخطاب وحكم هذه الآيات.
ولما أعانت قريش بني بكر على خزاعة سرا، وقد دخلوا في صلح رسول الله ﷺ، انتقضَ عهدهم وغضب رسول الله ﷺ لذلك غضبا شديدا، وتَجَهَّزَ لحربهم، ولم يَنْبِذْ إليهم؛ لما كتب لهم حاطبٌ كتابا يخبرهم بذلك إخبارا أنزل الله –تعالى- في ذلك هذه السورة بكمالها، ابتدأها بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ ٥ إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ ٦.
موالاة المشركين من نواقض الإسلام
ثم أمر تعالى بالتأسي بخليله ﵇ وإخوانه من المرسلين بالعمل بدينه الذي بعثهم به فقال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ ٧ أي: من إخوانه المرسلين: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ ٨.
فذكر أمورا خمسة لا يقوم التوحيد إلا بها علما وعملا، وعند القيام بهذه الخمسة مَيَّزَ الله الناسَ لَمَّا ابْتَلاهم بعَدِّوهم، كما قال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ؟ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
_________
١ سورة المجادلة آية: ١٩.
٢ سورة القصص آية: ٨٦.
٣ سورة القصص آية: ١٧.
٤ سورة الممتحنة آية: ٩.
٥ سورة الممتحنة آية: ١.
٦ سورة الممتحنة آية: ١.
٧ سورة الممتحنة آية: ٤.
٨ سورة الممتحنة آية: ٤.
1 / 291
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ ١.
وحذَّر تعالى عباده عن تَوَلِّيهِمْ عَدُّوَهُم. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ٢.
وقال تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ ٣ الآية. وقال تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ٤.
فتأمل ما في هذه الآيات، وما رتب الله ﷾ على هذا العمل من سخطه، والخلود في عذابه، وسلب الإيمان وغير ذلك؛ وذكر ابن جرير –رحمه الله تعالى- في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ ٥ أنه ردة عن الإسلام. وفي سورة محمد –ﷺ ما يدل على ذلك؛ قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ ٦ إلى قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ﴾ ٧.
والسين: حرف تنفيس؛ تفيد استقبال الفعل، فدل على أنهم وعدوهم ذلك سرا بدليل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ ٨ والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ والمقصود بيان عِظَم هذا الذنب عند الله، وما رتب عليه من العقوبات عاجلا وآجلا. نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان.
وقد ذكر شيخنا -رحمه الله تعالى- في مختصر السيرة له: ذكر الواقدي أن خالد بن الوليد لما قَدِمَ العارض قَدَّمَ مائتي فارس، فأخذوا مجَّاعة بن مُرَارة في ثلاثة عشر رجلا من قومه بني حنيفة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما تقولون في صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله، فضرب أعناقهم، حتى إذا بقي سارية بن عامر قال:
_________
١ سورة العنكبوت آية: ٢.
٢ سورة المائدة آية: ٥٧.
٣ سورة النساء آية: ١٣٨.
٤ سورة المائدة آية:٨٠، ٨١.
٥ سورة آل عمران آية: ٢٨.
٦ سورة محمد آية: ٢٥.
٧ سورة محمد آية: ٢٦.
٨ سورة محمد آية: ٢٦.
1 / 292
يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاسْتَبْقِ مجَّاعة، وكان شريفا، فلم يقتله وترك سارية أيضا، فأمر بهما فَأُوثِقَا في مَجَامع من حديد، فكان يدعو مجَّاعة، وهو كذلك، فيتحدث معه، وهو يظن أن خالدا يقتله، فقال يا ابن المغيرة: إن لي إسلاما، والله ما كفرت، فقال خالد: إن بين القتل والترك منْزلة، وهي الحبس حتى يقضي الله في أمرنا ما هو قاض. ودفعه إلى أم مُتَمِّم زوجته، وأمرها أن تُحْسِن إِسَارَهُ، فظن مجَّاعة أن خالدا يريد حبسه ليخبره عن عدوه، وقال: يا خالد قد علمتَ أني قدمت على رسول الله ﷺ فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه بالأمس. فإن يَكُ كَذَّابٌ قد خرج فينا، فإن الله يقول: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ١. فقال: يا مجَّاعة تركت اليوم ما كنتَ عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه، وأنت من أعز أهل اليمامة إقرارًا له ورضاء بما جاء به، فهل أبديتَ عُذْرًا، فتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم ثُمَامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكريّ، فإن قلتَ: أخاف قومي، فهلا عمدتَ إليَّ أو بعثتَ إليَّ رسولا؟
فتأمل كيف جعل خالدٌ سكوتَ مجَّاعة رِضًى بما جاء به مسيلمة وإقرارًا، فأين هذا ممن أظهر الرضاء، وظاهر، وأعان وجد، وشمَّر مع أولئك الذين أشركوا مع الله في عبادته، وأفسدوا في أرضه؟ فالله المستعان.
لا يثبت الإسلام ولا يتحقق إلا بالعمل بشرائعه
(الأمر الثاني): من الأمور التي لا يصلح الإسلام إلا بها: العملُ بشرائعه وأحكامه، وبالقيام بذلك يقوم الدين وتستقيم الأعمال كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ ٢ الآية، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرا ً؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ٤ الآية.
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
_________
١ سورة الأنعام آية: ١٦٤.
٢ سورة النساء آية: ٦٦.
٣ سورة النساء آية:٥٨، ٥٩.
٤ سورة الشورى آية: ١٠.
1 / 293
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ ١. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ٢ وقال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ٣ الآية، وقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ٤.
وفي هذا المعنى قال أبو تمام:
بالدين مثل عبادة الأوثان
وعبادة الأهواء في تطويحها
هذا هو الغالب على كثير من الناس: رَدُّ الحق؛ لمخالفة الهوى ومعارضته بالآراء، وهذا من نقص الدين وضعف الإيمان واليقين.
مما يثبت به الإسلام أداء الأمانات واجتناب المحرمات
(الأمر الثالث): أداء الأمانات، واجتناب المحرمات والشهوات، والجد في أداء الفرائض، والعبادات الواجبات، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، وقد وقع الخلل العظيم في ذلك كما قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ ٥ الآية، وبذلك وقعت الغفلة والإعراض عن كتاب الله -تعالى- واشتغل أكثر الناس بدنياهم عن طاعة مولاهم، وزهدوا في كل ما يعود نفعه إليهم في دنياهم وأخراهم مما يوجب رضى ربهم ومولاهم؛ فيجب على مَن نصح نفسه ممن جعل الله له القدرة والسلطان ونفوذ الكلمة أن يهتم بحفظ هذه الثغور الثلاثة، فإنها ثغور الإسلام، وقد سعى في خرابها مَن ليس من أهلها.
ومن أسباب حفظها: الإخلاص لله، والصدق، واللُّجْء إليه، وتعظيم أمره ونهيه، والتوكل عليه، وتمييز الخبيث من الطيب. فإن الله -تعالى- مَيَّزَهم لعباده؛ لَمَّا ابتلاهم؛ فعليك بِبُغْضِ أعداء الله، والاهتمام بما يرضيه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، وخشيته ومراقبته، والله المستعان.
_________
١ سورة الأحزاب آية: ٣٦.
٢ سورة النور آية: ٤٨.
٣ سورة القصص آية: ٥٠.
٤ سورة الفرقان آية: ٤٣.
٥ سورة مريم آية: ٥٩.
1 / 294
المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال
...
فصل: في الإشارة إلى ما تضمنَتْهُ لا إله إلا الله من نَفْيِ الشرك وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى والإشارة إلى بعض ما تُنْتَقَضُ به عُرَى الدين الذي بعث الله به المرسلين
والباعث لذلك: ما بلغني عن رجل كان قبل طُرُوق الفتن يغلو في التكفير، ويُكَفِّر بأشياء لم يُكَفِّر بها أحدٌ من أهل العلم، ثم إنه بعد ذلك قال: من قال: لا إله إلا الله فهو المسلم المعصوم، وإن قال ما قال.
فأقول -وبالله التوفيق-: اعلم أنَّ لا إله إلا الله: كلمةُ الإسلام، ومفتاحُ دار السلام، وقد سمَّاها الله –تعالى- كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص التي جعلها إبراهيم الخليل ﵇ كلمة باقية في عَقِبِهِ.
ومضمونها: نَفْيُ الإلهية عما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ١، وقال عن يوسف ﵇: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ٢ وقال بعدها: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ٣. وقال تعالى لخاتم رسله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ﴾ ٤ الآية، وقال: ﴿أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾ ٥. وقال: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِد رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ ٦.
وقد تفاوت الناس في هذه الكلمة بحسب حالهم علما وعملا، فمنهم من يقولها وهو يجهل مدلولها ومقتضاها، فلا يعرف الإله المنفي بأداة النفي، ولا الإلهية المثبتة لله –تعالى-، فهذا لا تنفعه بلا ريب، تجده يأتي بما يناقضها وهو لا يدري.
شروط كلمة التوحيد
واعلم أن لها شروطا ثقالا: (منها): العلم بمدلولها ومقتضاها وحقوقها ولوازمها ومُكَمِّلاتها. ومن شروطها: الصدق واليقين، وإرادة وجه الله، والكفر بما يُعْبَدُ من
_________
١ سورة الزخرف آية: ٢٦، ٢٧.
٢ سورة يوسف آية: ٣٨.
٣ سورة يوسف آية: ٤٠.
٤ سورة الرعد آية: ٣٦.
٥ سورة هود آية: ٢.
٦ سورة الصافات آية: ٤.
1 / 295
دون الله كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ١ قال ابن جرير: يعلمون حقيقة ما شهدوا به. وقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ ٢ وصحت الأحاديث عن النبي ﷺ بذكر هذه الشروط كلها، ومن لم يكن كذلك لم تنفعه لا إله إلا الله؛ لأن القول بلا علم هباءٌ.
قال شيخ الإسلام: ومَنْ فَقَدَ الدليلَ: ضَلَّ السبيلُ، وكذلك من يقولها، وهو لا يجهل مضمونها ومقتضاها، لكن يمنعه مِن قَصْد ذلك واتِّبَاع الحق، والعمل به مَوَانِعٌ من آفات النفوس. فتجده ينكر التوحيد تارة، ويبغض أهله، ويُحب الشرك وأهله، كحال الذين قالوا: ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ ٣ قال الله -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ ٤.
فلو أن مجرد القول ينفع بدون الإخلاص والصدق واليقين القلبي لنفع هؤلاء، فكذلك من يقول ظَانًّا أنه أتى بمضمونها ومقتضاها، ويأتي بما يناقضها من موالاة المشركين، ومظاهرتهم على المسلمين والاستبشار بنصرهم وظهورهم، وغير ذلك من الأمور التي عَدَّهَا العلماء من نواقض الإسلام.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾ ٥ الآية، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ٦، ومعنى: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ ٧ أي: إلى توحيده واتباع أمره وترك نهيه، ثم قال: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ ٨.
بعض أعمال المنافقين وأقوالهم التي عُدَّت كفرا
فذكر أمورا أربعة، كلها تُنَافِي قول لا إله إلا الله. يحقق ذلك نَهْيُ الله ﵎ عبادَهُ المؤمنين عن موالاة أعدائه في أول سورة الممتحنة وفي غيرها، وقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ ٩.
وتدبر تلك الآيات، وما رتب الله –تعالى- من الوعيد الأكيد والعذاب الشديد
_________
١ سورة الزخرف آية: ٨٦.
٢ سورة محمد آية: ١٩.
٣ سورة المنافقون آية: ١.
٤ سورة المنافقون آية: ١.
٥ سورة الأحزاب آية: ٢٦.
٦ سورة القصص آية: ٨٦.
٧ سورة القصص آية: ٨٦.
٨ سورة القصص آية: ٨٨.
٩ سورة الممتحنة آية: ١.
1 / 296
ونفي الإيمان، وحبوط الأعمال على هذه الأمور التي لا يَعُدُّهَا مَنْ وقعتْ منه كبيرَ ذنب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبالجملة فلو بقي لهؤلاء دين -مع ذلك- لسلموا من العقوبات؛ لأن الإيمان أمن، والإسلام سلامة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ١؛ فإن تدارك الله من شاء منهم بتوبة نصوح فهو فضله سبحانه وإلا فيا خسرهم.
وقد بَيَّنَ الله –تعالى- في كتابه كثيرا من نواقض الإسلام والإيمان؛ فإن سبب نزول قوله تعالى: ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ٢ أن أناسا كانوا مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك يجاهدون عدوه، فقال رجل منهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء، فأنزل الله هذه الآية.
والقصة مشهورة في التفسير وكتب الحديث، فانظر كيف أبطلوا إيمانهم وكفروا بربهم، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله، ولا صلاتهم، ولا جهادهم مع رسول الله ﷺ.
وقال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ ٣ نزلت -على ما ذكره المفسرون- في الجلاس بن عمرو، قال: إن كان ما يقول محمدٌ حَقًّا فنحن شر من الحمير، ولو يقولها أحد في زماننا هذا لم يعد كافرا ولا عاصيا. ولا ريب أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويزكون ويجاهدون، ولم يُظَاهِرُوا على المسلمين عدوا.
وكذلك أهل مسجد الضرار كانوا من جملة الأنصار، وفعلوا ما هو في الظاهر قربة، فلما أضمروا خلاف ما أظهروا أنزل الله في شأنهم: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًَا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ ٤، وهو أبو عامر الفاسق.
قال الله –تعالى-: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
_________
١ سورة الأنعام آية: ٨٢.
٢ سورة التوبة آية: ٦٦.
٣ سورة التوبة آية: ٧٤.
٤ سورة التوبة آية: ١٠٧.
1 / 297
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ١.
إلى قوله تعالى: ﴿لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ ٢ أي: بالموت.
أيظن مَن عرف موقع كتاب الله وآياته أنه ينفع مَن أحب المشركين قولٌ يقوله، أو عملٌ يعمله؟ وهو يعلم ما وقع بهؤلاء من عقوبة الله على ما أسروه؟ هذا لا يظنه مَن له مِسْكَة من عقل؛ لأن ما كلف به عوقب به من بعدهم على مثل ما عُوقبوا به بلا ريب، اللهم إلا أن يتدارك الله -تعالى- من شاء بتوبة ماحِية، وإلا فالخطر عظيم.
وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ ٣ وسبب نزولها، ومن نزلت فيه معروف في كتب التفسير.
دعوة الرسل والأنبياء أقوامهم إلى عبادة الله وحده
ومن زعم أن المراد من لا إله إلا الله: مجرد القول، فقد خالف ما جاءت به الرسل والأنبياء من دين الله، واتبع غير سبيل المؤمنين، قال الله –تعالى- عن نوح ﵇ أنه قال لقومه: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ ٤، فأجابوه بقولهم: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا﴾ ٥ الآية. علموا- على كفرهم وضلالهم- أنه لم يُرِدْ منهم مجرد الإقرار، وإنما أراد منهم الاتباع، والعمل، وترك عبادة الأصنام، وأخبر تعالى عن هود ﵇ أنه قال لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ٦، وذكر تعالى عنهم في جوابهم له: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ ٧؛ علموا أنه أراد منهم قصر العبادة على الله، وترك عبادة من سوى الله، وهذا هو مضمون لا إله إلا الله ومعناها.
ولما دعا الخليل ﵇ أباه إلى التوحيد بقوله: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ ٨، أجابه بقوله: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ ٩. عرف أنه أراد ترك عبادة ما سوى الله، والرغبة عن ذلك إلى إخلاص العبادة لله وحده، ثم قال الخليل ﵇:
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
_________
١ سورة التوبة آية: ١٠٧.
٢ سورة التوبة آية: ١١٠.
٣ سورة التوبة آية: ٧٧.
٤ سورة نوح آية: ٢.
٥ سورة نوح آية: ٢٣.
٦ سورة الأعراف آية: ٦٥.
٧ سورة الأعراف آية: ٧٠.
٨ سورة مريم آية: ٤٢.
٩ سورة مريم آية: ٤٦.
1 / 298
اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي﴾ ١ فذكر مضمون لا إله إلا الله ولازمها.
كما ذكر تعالى مثل ذلك عن أهل الكهف في قولهم: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ ٢؛ وقال تعالى عن صاحب ياسين: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ٣.
وتأمل أيضا قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ ٤. عرفوا- وهم كفار- أن مطلوب النبي ﷺ من قولهم: "لا إله إلا الله"، أنه ترك عبادة الأوثان، فيا له من بيان ما أوضحه!
القرآن تحقيق لمعنى كلمة التوحيد
والمقصود أن القرآن من أوله إلى آخره يُحَقِّق معنى لا إله إلا الله بنفي الشرك وتوابعه، ويقرر الإخلاص وشرائعه. لكن لما اشتدت غُرْبَة الدين بهجوم المفسدين وقع الريب والشك بعد اليقين، وانتقض أكثر عرى الإسلام، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
ومما انتقض من عُرَاه: الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة والموالاة لله، كما في الحديث الصحيح: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" ٥. وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه وبغضه لهواه، فلا يسكن إلا إلى ما يلائم طبعه، ويوافق هواه، ولو غَرَّه وأغواه، فتأمل: تجد هذا هو الواقع، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
والحاصل أن كل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه: فهو من مدلول كلمة الإخلاص، فدلالتها على الدين كله إما مطابقة، وإما تضمنا، وإما التزاما، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى، والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي وإخلاص العبادة لله واتباع أمره على ما شرعه، وقد فسرها ابن مسعود
_________
١ سورة مريم آية: ٤٨.
٢ سورة الكهف آية: ١٦.
٣ سورة يس آية: ٢٠: ٢٤.
٤ سورة الصافات آية: ٣٥.
٥ أبو داود: السنة (٤٥٩٩) .
1 / 299
﵁"أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن زيد عن النبي ﷺ قال: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يَدَع ما لا بأس به حَذَرًا مما به بأس" ١.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:؟ ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ٢. قال أبو بكر الصديق: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، أي لم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء، ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله، ولا يحبون إلا لله. اهـ.
من يقاتل الوهابية ومن يُكَفِّرون
وقال شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى-: سألني الشريف عما نقاتل عليه وما نُكَفِّر به؟ فقلت في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:
الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر الذي هو دين غالب الناس اليوم، أنه الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه، وقتال أهله ليكون الدين كله لله، ولم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك فيه الشرك، فهذا كافر نقاتله؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين المشركين فلم يتركه، مع أنه لم يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه.
_________
١ الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٥١)، وابن ماجه: الزهد (٤٢١٥) .
٢سورة الأحقاف آية: ١٣.
1 / 300
النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكن تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر وأبي علي والخضر، وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم كفرا من الأول، وفيه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ ١ الآية. وممن قال الله فيهم: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ ٢ الآية.
النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه، لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا كافر وفيه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ ٣.
النوع الرابع: من سلِم من هذا كله لكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم، وعذره أنّ ترك وطنه يشق عليه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضا كافر؛لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل.
وأما موافقته على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله ﷺ فأكبر مما ذكرنا بكثير، فهذا أيضا كافر ممن قال الله فيهم: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ﴾ ٤ الآية، والله ﷾ أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
_________
١ سورة البقرة آية: ٨٩.
٢ سورة التوبة آية: ١٢.
٣ سورة محمد آية: ٩.
٤ سورة النساء آية: ٩١.
1 / 301
فصل
في إيذاء أهل الباطل لأهل الحق
وهذا شروع في الجواب المشار إليه سابقا، وقد كنت عزمت أن أتتبع كلامه وأجيب عنه تفصيلا، ثم إنه عرض لي ما يجب أن يكون هو المقصود بالذات مما قدمته حماية لجانب التوحيد والشريعة.
ثم بدا لي أن أقتصر في جواب الرجل لما في الاقتصار من رعاية الصبر والاصطبار؛ لأنا لو أجبناه بكل ما يليق في الجواب لم نسلم من أمثاله ممن ينسج على منواله، كما هو الواقع من أكثر البشر قديما وحديثا مع كل من قام بالحق أو نطق بالصدق. فكل من كان أقوم في دين الله كان أذى الناس إليه أسرع والعداوة له أشد وأفظع. وأفضل خلق الله رسله وقد عالجوا من الناس أشد الأذى، حكمة بالغة. قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ ١ والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا. ينبئك عن تفصيل هذا ما ذكره الله تعالى في كتابه عن أنبيائه لما دعوا أممهم إلى التوحيد كيف قيل لهم؟ وما خوطبوا به؟.
وتأمل ما جرى لخيار هذه الأمة كالخلفاء الراشدين وسادات أصحاب سيد المرسلين من أعدائهم كالرافضة والخوارج ونحوهم، وما جرى لأعيان التابعين ومن بعدهم من أعيان الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وأحمد بن نصر الخزاعي وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم، ولو ذكرنا جنس ما جرى لهم من الأذى لطال الجواب. والقصد هو الاقتصار، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بالسيَر والتاريخ ولله درّ أبي تمام حيث يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
وقال أبو الطيب:
وشأن صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابَق معوج بمعتدل؟
_________
١ سورة الفرقان آية: ٣١.
1 / 302
إذا علمت ذلك، فإن هذا الرجل ذكر عن الشيخ عبد الرحمن بن حسين أنه لا يصلي بهم، ولا يقدم من يهوونه، ولا يقطع خصومة، وعدوه من نظر في كتاب أو نطق بصواب. هذا كلامه فيه. عد هذه الأمور من المثالب.
والبصير إذا تأمل رآها من المناقب؛ لأن المسلم لا يجوز أن يحمل إلا على الخير فيما خفي عذره فيه حتى يتبين ما يرفع الاحتمال. وهذه العيوب الخمسة محتملة لأمور:
(الأول): منها يحتمل أنه فعله تأثما من الصلاة بالناس لعذر خفي يوجب ذلك، فإن الأعذار عن الإمامة كثيرة.
(الثاني): يحتمل نصحه لهم فيختار لهم من يصلح لذلك المقام، ونظره لهم خير من نظرهم لأنفسهم.
(والثالث): فيه التثبت في الفتيا بالنظر والتأمل والمراجعة في كتب الأحكام، وهذا مطلوب من كل مفتٍ لا سيما في هذا الوقت.
(والرابع والخامس): فيه حماية جانب العلم عمن يجهل، ولا يدري أنه يجهل، والمطلوب سد أبواب الاختلاف في أحكام الدين، فإن الله ذمه في كتابه، فإذا حمل مثله على غير ذلك أوقع في اغتياب المسلم، وقد حرمه الله في كتابه، فإن عده المغتاب له نصيحة فقد أحل ما حرمه الله ورسوله، وهو أمر عظيم، وفيه تشيين المسلم بما يحتمل ضد ذلك.
الرد على من طعن في الشيخ عبد الرحمن بن حسين
وأما تحذير هذا الرجل للإمام من أولاد الشيخ كلهم وأنه لا يجوز له أن يصغي إليهم ولا يدين لهم جانبا.
(فالجواب): نعم هذا رأيه للإمام وهو الذي يحبه له ويرضاه، لكن رأي المسلمين خصوصا من ينسب منهم إلى الدين، والحب في الله والبغض فيه، وكذلك العقلاء، يخالفونه في ذلك. وفي نصيحة المسلمين للإمام الحث على طاعة أولئك
1 / 303
والأخذ منهم، وقبول نصيحتهم ورأيهم كما هو الواقع من الإمام.
فلا يخلو إما أن يكون الصواب مع هذا الرجل، وأما أن يكون مع أعيان المسلمين وأهل الدين الذين لهم لسان صدق ومحبة في الناس ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ ١.
حل جوائز السلطان
وأما قوله: إن ابن ثنيان يلقمهم الحرام.
(فالجواب): أن يقال: وهل شاهدت ذلك وعرفت أن ما أعطاهم حرام بعينه، أو رأى ذلك من يوثق بخبره؟ هذا أمر لا يقدر هو ولا غيره أن يثبت ذلك لكنه كما قيل:
يقولون أقوالا ولا يعلمونها ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
والذي يأخذون منه ومن غيره من الأئمة هو مما أفاء الله على المسلمين المسمى بيت المال أو من الزكاة ونحوها، وهذا لا يقول أحد من العلماء أنه حرام. والذي نص عليه الفقهاء من أهل الحديث وغيرهم أنه يجوز الأخذ لمن يستحقه ما لم يعلم أنه حرام بعينه، ذكره ابن رجب عن الزهري ومكحول، قال: ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه حرام بعينه.
قال: وروي في ذلك آثار كثيرة عن السلف، وكان النبي ﷺ وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله.
قال: وروى الحارث عن علي ﵁ أنه قال- في جوائز السلطان-: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وقال ابن مسعود: إنما الهناء لكم والوِزر عليهم.
وذكر في المغني أن الحسن البصري أخذ جائزة عمرو بن هبيرة وردها ابن سيرين، فعتب الحسن عليه ذلك. ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: جوائز السلطان
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٢٠.
1 / 304
أحب إليّ من الصدقة. يعني أن الصدقة أوساخ الناس صين عنها آل رسول الله ﷺ ولم يصانوا عن جوائز السلطان.
وذكر عنه أيضا أنه احتج بأن جماعة من الصحابة تنْزهوا عن مال السلطان، منهم حذيفة وأبو عبيدة ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر، قال: ولم يرَ أبو عبد الله ذلك حراما، فإنه سئل فقيل له: مال السلطان حرام؟ قال: لا. وفي رواية قال: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق، فكيف أقول سحت؟ وقد كان الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكثير من الصحابة يقبلون جوائز معاوية.
قال: ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل، فإن لها جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرهما اهـ.
أخذ العلماء أرزاقهم من بيت المال
(قلت): وما زال العلماء في كل عصر يأخذون أرزاقهم من بيت المال ولم ينكر ذلك أحد من أهل الورع ولا غيرهم، ويرونه حلالا.
أما أولئك الظلمة الذين جاروا على أهل نجد بغيا وعدوانا، فلا ريب أن ما أخذوه كله ظلم؛ لأنهم إنما جاؤوا بالباطل والظلم والعدوان، فلا يسوغ لهم أخذ شيء مما أباح الله لولاة أهل الإسلام أخذه من زكاة وفيء أو غير ذلك، فما أخذه أولئك ظلم بحت. فلينظر في حال هذا الطاعن على أهل العلم وأمثاله، فإن كانوا قد كرهوا ما أخذه هؤلاء المسرفون المعتدون ولم يقبلوا شيئا منه ولم يبق إلا أنهم جهلوا حكم أموال الفيء، فالمصيبة أهون.
وأما إذا كانوا أخذوا من أولئك من تلك الأموال على الوجه الذي ذكرناه، فالمصيبة أعظم، وذلك أنهم حرموا على علماء المسلمين أن يأخذوا ما حل لهم، ويأخذونه من أولئك ويأكلونه حراما صرفا من غير تأويل.
وعلى كل حال؛ فإنهم لما رأوا هؤلاء الأشياخ من أقرب الناس دعوة إلى التوحيد وإرشادا إلى طاعة ربهم واتباع نبيهم، فتوصل شرار أهل نجد بمسبتهم إلى مسبة
1 / 305
الدين لمخالفته أهواءهم، ولا ريب أن هذا تحته كل عيب، ويستدل به العارف على أنه إنما صدر منهم عن شك في حقيقة الإسلام وريب.
الوهابية لا يكفرون إلا بما أجمع العلماء على أنه كفر
ثم إن هذا المعترض قال في سبابه لأهل العلم المشار إليهم سابقا: إنهم نظروا إلى سد باب القبلة ومصر ولم ينظروا إلى أبواب السماء. يشير إلى أنهم وسعوا للمتولي أمرهم في مداهنة تلك الجهات.
(فالجواب): إنه لا يخلو إما أن يكون هذا الرجل من أشد الناس غباوة وأجهلهم بأحوال الناس، ولا معرفة له بالواقع أصلا، وإما أنه تعمد الكذب والتشيين لأولئك الأئمة وهو يعرف أنه قد كذب عليهم وافترى، فإن من المعلوم من طريقتهم ورأيهم ونصحهم أنهم لا يجوزون المداهنة في الدين، ولا يرضون ذلك من كبير ولا صغير.
ولهذا صار الأعداء يطعنون عليهم بذلك عند مبغضيهم ويقولون: إنهم يكفّرونكم، وحقيقة أمرهم أنهم لا يكفّرون أحدا إلا بعمل صرح القرآن بتكفير فاعله، ولا يقولون على شخص بعينه إنه كافر ولا على جماعة إنهم كفار إلا إذا ارتكبوا أعمالا من المكفّرات وثبت ذلك بطريق من طرق العلم، إما مشاهدة أو سماعا أو تواترا. وقد تقدم عن شيخنا إمام الدعوة الإسلامية أنه قال في جوابه للشريف: إنا لا نكفر إلا بما أجمع العلماء عليه أنه كُفر.
وعلى هذا فيقال لهذا الرجل: إذا كان هذا الذي تنسبه إليهم من مداهنة أهل القبلة ومصر عيبا يعاب به من فعله، فأنت ممن داهنهم وأطاعهم وتابعهم وخدمهم، فهلا عبت على نفسك هذا الذي اعترفت بأنه عيب كبير؟ وما مثلك إلا كما قيل في المثل: رمتني بدائها وانسلت.
فيقال لإمام المسلمين -أعزه الله بالدين-: تأمل ما ذكره الله في كتابه المبين، واتبِعه، فإن هذا هو الواجب على كل أحد، لا سيما من ولاه الله أمر الناس، فإن الله
1 / 306
افترض عليه أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فإنه لا صلاح لهم بدون ذلك أصلا، علما وعملا. وعليه أن يصلح نفسه بما يرضي الله من إقامة دينه وأن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن يحب في الله ويبغض فيه ويوالي لله ويعادي فيه، وأن يميز الناس بتمييز الله، فإن الله ميز أولياءه من أعدائه.
ولا شك أن هذا من فرائض التوحيد، وليكن على حذر من الناس وأهوائهم؛ فإنهم لا يرضون إلا بمتابعة أهوائهم، وقد قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ١.
واعتبِرْ بما جرى من أكثر الناس من أنواع الشرك والظلم والفساد كما قد جرى فيما مضى، كما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول:
إسلام شركا ظاهر التبيان ... ولقد رأينا من فريق يدعي ال
ووهم به في الحب لا السلطان ... جعلوا له شركاء والوهم وسا
زادوا لهم حبا بلا كتمان ... والله ما ساووهمو بالله بل
فشو الشرك بالدعاء والاستغاثة بغير الله
وهذا وأمثاله هو الواقع في هذه الأزمنة، يعرفه من تدبر القرآن وفهم أدلة التوحيد، فلقد كثر هذا الشرك بنوعيه من دعوة غير الله والاستغاثة به وتعظيمه والحلف به، حتى إن بعض الجهال يستنكفون من قول القائل: محمد عبد الله ورسوله فينكرون قوله: عبد الله. ولا ريب أن الله ﵎ شرفه بعبوديته له الخاصة والرسالة.
وأما أهل الإسلام على الحقيقة والإيمان فيخلصون إرادتهم وأعمالهم لله -تعالى- وحده دون من سواه، فلا يدعون ولا يرجون ولا يستغيثون ولا يتوكلون ولا يتقربون بنوع من أنواع العبادة إلا إلى ربهم ومليكهم وخالقهم والقائم عليهم والمتصرف فيهم بمشيئته وإرادته، ويعملون بما شرعه لهم في كتابه، وسنه لهم نبيهم ﷺ من شريعته، معتصمون
_________
١ سورة الجاثية آية:١٨، ١٩.
1 / 307