Mawqif al-Shawkani fi Tafsirihi min al-Munasabat
موقف الشوكاني في تفسيره من المناسبات
জনগুলি
إهداء من المؤلف
لمكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية
www.tafsir.net
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، ونصلي ونسلم على الحبيب المصطفى والرسول المجتبى سيد الخلق وحبيب الحق محمد بن عبد الله النبي العربي الأمين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
قالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أيد الله ﷿ بها رسوله ﵊، والخطاب العام الموجه لجميع العقول والأفهام، والعصمة والشفاء من كافة الأدواء والأسقام، والطهارة والبراء من ظلمات الشك والأوهام، خصه تعالى بنزوله مفرقا حسب الحوادث وتدرج الأحكام، وجمعه ﷿ جمعا في غاية الإحكام والانتظام، حتى صار ترتيبه علما من علومه عني به المفسرون القدامى والمحدثون عناية بالغة؛ فمن خلاله نقف على وجه من وجوه إعجاز القرآن فضلا عن فهم المعاني ومعرفة المقاصد والترجيح بين الآراء، وإزالة اللبس، من هذا المنطلق عني به المفسرون القدامى والمحدثون مع اختلاف درجات اهتمامهم ومدى تعمقهم في هذا الموضوع، لكن الإمام الشوكاني كان له موقف آخر حيث دعا إلى الانصراف عنه وزعم أنه لا فائدة منه، وانتقد المهتمين به، ذكر ذلك في مقدمة تفسيره، لكنه لم يثبت على موقفه إذ ذكر بعضا من وجوه المناسبات بين الآيات في ثنايا تفسيره، وفي هذا البحث نعرض لكلامه ثم نرد عليه ردودا إجمالية ونعقبها بردود تفصيلية على أهم القضايا التي أثارها في معرض حديثه عن المناسبات، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أحمد بن محمد الشرقاوي القصيم - عنيزة ١١ شوال ١٤٢٣هـ
أستاذ مشارك بجامعة الأزهر وكلية التربية للبنات عنيزة
Sharkawe٢٠٠٠@yahoo.com
1 / 1
تمهيد
أولا: مع التفسير والمفسر
من روائع كتب التفسير ومن أصولها الجامعة تفسير الإمام الشوكاني المسمى بـ " فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير " هذا التفسير يعتبر مرجعا أساسيا في بابه؛ ذلك لأنه اشتمل على التفسير بالرواية الذي يعتمد على مصادر التفسير المأثور الأربعة:
تفسير القرآن بالقرآن
تفسير القرآن بالسنة
تفسير القرآن بأقوال الصحابة
تفسير القرآن بأقوال التابعين
كما اشتمل هذا التفسير أيضا على التفسير بالرأي، وهو تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد بعد معرفة المفسر باللغة العربية ووقوفه على أسباب النزول ودرايته بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص وغير ذلك من علوم القرآن إلى جانب رجوعه إلى التفسير بالمأثور الذي يعد المرجع الأساسي للمفسر ٠
والإمام الشوكاني غني عن التعريف: فهو علم من أعلام الفقه ورائد من رواد الدعوة والإصلاح في عصره وكاتب موسوعي، يرجع نسبه إلى هجرة شوكان من هجر صنعاء ولد سنة ١١٧٣هـ ونشأ في مدينة صنعاء وحفظ القرآن في مسجدها الجامع، ودرج في بيت علم وفضل فأبوه علي بن محمد بن علي الشوكاني: كان يشغل منصب قاضي صنعاء ولقد نهل من علمه واستفاد من مكتبته الزاخرة بأمهات الكتب في شتى العلوم والفنون، وتنقل الشوكاني بين علماء صنعاء كما تتنقل النحلة من زهرة إلى زهرة ومن بستان إلى بستان، ترتشف الرحيق ليخرج من بطونها شراب مختلف الألوان فيه شفاء للناس.
وقرأ على شيوخه أمهات الكتب في شتى العلوم في العقيدة والفقه وأصوله واللغة وآدابها والحديث وعلومه والمنطق وأدب البحث والمناظرة وفي التفسير وعلومه وغير ذلك من العلوم التي برع فيها ٠
ولقد ترجم لشيوخه في كتابه البدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع ٠
1 / 2
وله ﵀ مؤلفات عديدة معظمها مطبوع من أهمها تفسيره فتح القدير وكتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، والبدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وتحفة الذاكرين في شرح عدة الحصن الحصين، وغير ذلك. (١)
ثانيا: تعريف علم المناسبات:
المناسبات جمع مناسبة والمناسبة في اللغة المشابهة والمشاكلة والمقاربة (٢)، ومنه النسيب: القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه، ممن بينهم مناسبة أي رابطة تربط بينهم وهي القرابة، وعند الأصوليين: المناسبة فى العلة فى باب القياس وهي الوصف المقارب للحكم لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم (٣)، وعند البلغاء: التناسب الترتيب للمعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافر (٤)
وفي اصطلاح المفسرين: عرفها ابن العربي في كتابه سراج المريدين: بأنها: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحد ة متسقة المعاني منتظمة المباني " (٥)
وعرفها الزركشي في البرهان بأنها: أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. (٦)
فعلم المناسبة علم يعنى بإبراز أوجه الصلة وتناسب الآيات والسور.
المبحث الأول: كلام الشوكاني عن المناسبات
_________
(١) - تراجع ترجمته في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ١١/٥٣ والمجددون في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي ص ٤٧٢
(٢) - يراجع معجم مقاييس اللغة لابن فارس ٥/٣٢٤ والصحاح ١/٤٢٢
(٣) - يراجع أصول الفقه لأبي زهرة ص ٢٤١ ط دار الفكر العربي
(٤) - يراجع معجم المفصل في علوم البلاغة جمع وترتيب د. إنعام عكاوي ضمن سلسلة الخزانة اللغوية ٦ /٤٣٠ ط دار الكتب العلمية
(٥) - سراج المريدين للقاضي أبي بكر ابن العربي نقلا عن الإتقان ٢ / ١٠٨
(٦) - البرهان في علوم القرآن ١ /٣٦
1 / 3
عرض وردود إجمالية
يدعي الشوكاني أن البحث في هذا العلم ضرب من التكلف، وأنه لا فائدة منه، وأنه من التكلم بمحض الرأي المنهي عنه وينعى على البقاعي وغيره عنايتهم بهذا العلم: وفيما يلي عرض لكلامه مع ردود إجمالية عليها:
يقول الشوكاني في مقدمة تفسيره معارضا لعلم المناسبة منكرا له ومنتقدا للمهتمين به: " اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه؛ وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته " (١)
ونحن نوافق الشوكاني في أن التكلف منهي عنه في التفسير أو في غيره، وأنه لا يجوز التكلم بمحض الرأي المنهي عنه، فعلم المناسبات يحتاج إلى تدبر وتفكر لا إلى تكلف وتعسف، وهو علم لا بد منه ولا غنى عنه لأي مفسر، لأنه يعين على فهم المعنى والترجيح بين الآراء ومعرفة المقاصد العامة للآيات والسور وغير ذلك من فوائد، والمناسبة قد تكون واضحة جلية، وقد تحتاج إلى تأمل دقيق وتدبر عميق، فإذا خفيت المناسبة فلا ينبغي إنكارها ونفيها.
وقد قيل:
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
ويتساءل الشوكاني: كيف نطلب للآيات مناسبات وقد نزلت منجمة حسب الأحداث
فلا تناسب بينها إذًاَََ؟
_________
(١) - فتح القدير ١ / ٧٢، ٧٣
1 / 4
وفي هذا يقول الشوكاني: " وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله ﵌ إلى أن قبضه الله ﷿ إليه وكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالا وتحليل أمر كان حراما وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضي وتارة مع من حضر وحينا في عبادة وحينا في معاملة ووقتا في ترغيب ووقتا في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطورا في أمر دنيا وطورا في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي "
1 / 5
ونحو هذا ما قال الإمام العز بن عبد السلام كما نقل عنه الزركشي في البرهان: قال الإمام العز بن عبد السلام ﵀ " المناسبة علم حسن ولكن يشترط فى حسن ارتباط الكلام أن يقع فى أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر قال ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه فإن القرآن نزل فى نيف وعشرين سنة فى أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف الإله فى خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف الملوك والحكام والمفتين وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها فى نفسها واختلاف أوقاتها انتهى ". (١)
إلا أن العز ﵀ لا ينكر وجود المناسبة على الإطلاق ولكنه يستحسنها إذا وقعت بين كلام متحد مرتبط أوله بأخرى.
وأقول لقد نزل القرآن الكريم مفرقا حسب الحوادث والنوازل ومراعاة للتدرج في التشريع ولكنه جمع في الصدور والسطور وفقا لما هو عليه في اللوح المحفوظ حيث كان جبريل ﵇ يعلم رسول الله ﷺ بموضع كل آية في سورتها، إضافة إلى ترتيب السور كما سيأتي بيانه، فإذا كان في نزوله منجما حكم وفوائد لا تخفى فإن في جمعه على هذا الترتيب التوقيفي حكم وفوائد، وإذا كان في نزوله منجما سمة من سماته التي تفرد بها عن الكتب السابقة فإن هذا الترتيب سمة من سماته، وهل يعقل أن يكون ترتيبه في المصحف على غير ترتيب نزوله ثم لا يكون لذلك حكمة؟ ولماذا نجتهد في التماس حكم ومقاصد التشريعات الإلهية ثم نطالب بتجاهل الحكم من الترتيب الإلهي للمصحف الشريف!
_________
(١) - البرهان ١/٣٧
1 / 6
قال الإمام الزركشي في البرهان: " قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا يطلب للآى الكريمة مناسبة لأنها حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما فى الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتى فى أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذ كر آية كل حكم على ما سئل وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى ولا كما نزل مفرقا بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر فإنه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (١) قال: والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شىء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففى ذلك علم جم وهكذا فى السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له " (٢)
وأقول أيضا ليست كل السور القرآنية نزلت منجمة بل إن من السور الطوال ما نزل جملة كسورة الأنعام مثلا، وسورة الفاتحة وغيرها فهل لا نطلب لها مناسبة أيضا؟ (٣)
كما أن بعض السور نزلت منها مقاطع كبيرة جملة واحدة فهل نترك الحديث عن ترابطها وتناسبها؟
_________
(١) - سورة هود ١
(٢) - البرهان في علوم القرآن ١ / ٣٨
(٣)؟ - فعن أسماء بنت يزيد قالت نزلت سورة الأنعام على النبي ﷺ جملة واحدة إن كادت من ثقلها لتكسر عظم الناقة رواه الطبراني وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق مجمع الزوائد ٧/٢٠
ورواه الحاكم في المستدرك بسنده عن جابر ﵁ قال ثم لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله ﷺ ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق هذا حديث صحيح على شرط مسلم فإن إسماعيل هذا هو السدي ولم يخرجه البخاري ٠ المستدرك على الصحيحين ٢/ ٣٤٤ - ٣٢٢٦
1 / 7
كما أقول: أليس من العجيب أن ينتقد الشوكاني البقاعي بسبب اهتمامه بهذا العلم في تفسيره نظم الدرر؟ ثم نراه يثني على هذا التفسير وعلى مسلك صاحبه فيه فيقول في كتابه البدر الطالع خلال ترجمته له: " ومن أمعن النظر في كتابه المترجم له في التفسير الذي جعله في المناسبات بين الآي والسور علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علم المعقول والمنقول، وكثير ما يشكل على شيء في الكتاب فأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها فلا أجد ما يشفي وأرجع إلى هذا الكتاب - نظم الدرر - فأجد فيه ما يفيد في الغالب ". (١)
ويزعم الشوكاني أن البحث في هذا العلم ما هو إلا " فتح لأبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا أمر لا بد منه وأنه لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة وتبين الأمر الموجب للارتباط فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفا محضا وتعسفا بينا انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة " (٢)
أقول إن تناسب الآيات والسور جانب من جوانب البلاغة القرآنية حيث جودة السبك وروعة النظم وجمال التراكيب وبراعة الأساليب وهذا التناسب وجه من وجوه الإعجاز ولم يقل أحد أن الإعجاز قائم عليه وحده، أو أن البلاغة القرآنية لا تتمثل إلا فيه فجوانب الإعجاز متعددة، وبلاغة القرآن متشعبة وأساليبها وألوانها عديدة ٠
_________
(١) - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ٢/١
(٢) - فتح القدير ١/ المقدمة
1 / 8
وهل قال أحد بأن البحث في الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم قد يوهم بأنه لا إعجاز إلا من هذا الجانب؟ فلا ينبغي البحث في بلاغة القرآن حتى لا يتوهم أحد أن القرآن لن يكون معجزا إلا إذا بحثنا في بلاغته؟
بل إن البحث في هذا العلم يزداد به المؤمن إيمانا ويقينا ويفند مزاعم أهل الكفر والضلال الذين يزعمون أن القرآن لا ترتيب له.
ويقول الشوكاني ظانا بأن هذا العلم لا فائدة منه "وما أقل نفع مثل هذا وأنذر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عن من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس " (١)
وأقول إن لهذا العلم فوائد جمة إذ من خلاله يتجلى لنا وجه من وجوه الإعجاز القرآني وسمة من سماته والحكمة من ترتيبه، كما نستعين به في تدبر كلام الله عزوجل ودراسته، وفهم معانيه ومقاصده وغير ذلك من الفوائد التي نتحدث عتها في موضعها إن شاء الله، وهو من تدبر كلام الله ﷿ وبه نستخلص العبر والعظات ونتعرف على مقاصد السور والآيات وقد أمرنا الله ﷿ بالتدبر في كتابه الكريم قال تعالى ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴿٨٢﴾﴾ وقال سبحانه ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ ﴿٢٩﴾﴾
_________
(١) - نفس المرجع - المقدمة
1 / 9
ويقول الشوكاني أيضا منكرا لإمكانية الربط بين الآيات والسور والتماس الوحدة الموضوعية للقرآن " وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا وأخرى هجاء وحينا نسيبا وحينا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله متلاعبا بأوقاته عابثا بعمره الذي هو رأس ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به في الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلا عن المقامين فضلا عن المقامات فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك شاعرهم ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم ﵇ فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله قلنا لا كيف
فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل ". (١)
أقول: وهل من المعقول أن يقاس كلام البشر على كلام خالق البشر؟ هل هذا الأمر مقبول؟ وهل يستوي وحي من الله منزل وقافية في العالمين شرود
_________
(١) - نفس المرجع
1 / 10
هل نقارن كلام البشر الذي لا يخلو من الخلل والقصور مع كلام اللطيف الخبير العليم بذات الصدور؟ هل نسوي بين هذا وذاك؟ والله تعالى يقول عن كتابه الكريم
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴿١﴾﴾ [سورة هود]
فهو كتاب محكم في نظمه محكم في مقاصده محكم في بنائه محكم في اتساقه.
وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في روعة الأساليب ودقة الألفاظ وسمو المقاصد ووحدة البناء وتناسب الآيات وترابط السور قال تعالى في سورة ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٢٣﴾﴾
هذا رد إجمالي على كلام الإمام الشوكاني ﵀، وإن خفاء أوجه المناسبة ليس حجة في إنكارها
وقد قيل
فإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
ومن العجيب أنه مع موقفه المانع للمناسبة كما هو واضح من كلامه نراه في تفسيره قد أورد عديدا من المناسبات لنا معها وقفة إن شاء الله ٠
من خلال المبحث اللاحق حيث نقدم ردودا تفصيلية على بعض القضايا المثارة.
المبحث الثاني ردود تفصيلية
المطلب الأول: زعمه أن المناسبات علم بلا فائدة
يدعي الإمام الشوكاني أن علم المناسبات علم بلا فائدة، والحق أن لهذا العلم فوائد عديدة وثمرات نافعة عنها نتحدث في هذا المبحث إن شاء الله:
فنقول وبالله التوفيق: من فوائد دراسة هذا العلم:
معرفة وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم:
القرآن الكريم: حجة الله البالغة وآياته المتجددة ومعجزة الرسول الخالدة، معجزة لكل جيل وقبيل، معجزة في كل عصر ومصر، معجزة للبشرية جمعاء في شتى أطوار حياتها بل معجزة أيضا للجن
1 / 11
قال تعالى ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴿٨٨﴾ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴿٨٩﴾﴾
ومن أبرز وجوه إعجاز القرآن الكريم: إعجازه بحسب تناسب آياته وتناسق وتعانق سوره، فالقرآن الكريم وحدة موضوعية واحدة وآياته وسوره بناء واحد:
كالدر يزداد حسنا وهْوَ منتظم وليس ينقص قدرا غير منتظم
ولقد ذكر السيوطي في كتابه معترك الأقران في إعجاز القرآن من ضمن وجوه الإعجاز [الوجه الرابع من وجوه الإعجاز: مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني] لكنه كرر في هذا المقام ما سبق وأن ذكره في الإتقان (١)
وقال الإمام الرازي في تفسيره لسورة البقرة: " ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضا بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار صورته * والذنب للطرف لا للنجم في الصغر " (٢) .
ويقول الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن: " والوجه الثالث من وجوه إعجازه: " أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. ".
_________
(١) - معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه الرابع ١ /٥٤ ويراجع الإتقان ٢ / ٢٨٨
(٢) - مفاتيح الغيب ٧ /١٨٣..
1 / 12
ويقول أيضا " ... وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه (١) التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والرصف لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا ويختلف اختلافا كبيرا ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت " (٢)
ويقول أيضا: " فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض وتستولي به على الأمد وتصل به إلى المقصد وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر وأقرب عليك الغامض وأسهل عليك العسير، واعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب. (٣)
_________
(١) - يعني بذلك ما ورد في القرآن من قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها
(٢) - إعجاز القرآن للباقلاني ص ٣٧ باختصار
(٣) - نفس المرجع ص ١٨٥، ١٨٤..
1 / 13
ثم يذكر الباقلاني نماذج عديدة تدل على روعة النظم القرآني نذكر منها ما يلي: " تأمل السورة التي يذكر فيها النمل وانظر فيها كلمة كلمة وفصلا فصلا؛ بدأ بذكر السورة إلى أن بين أن القرآن من عنده فقال تعالى (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) ثم وصل بذلك قصة موسى ﵇ وأنه رأى نارا (فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) وقال في سورة طه في هذه القصة (لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) وفي موضع (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) قد تصرف في وجوه وأتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك ولهذا قال (فليأتوا بحديث مثله) ليكون أبلغ في تعجيزهم وأظهر للحجة عليهم، وكل كلمة من هذه الكلمات وإن أنبأت عن قصة فهي بليغة بنفسها تامة في معناها ثم قال ﴿فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين﴾ فانظر إلى ما أجرى له الكلام من علو أمر هذا النداء وعظم شأن هذا الثناء وكيف انتظم مع الكلام الأول وكيف اتصل بتلك المقدمة وكيف وصل بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية وما دل به عليها من قلب العصا حية وجعلها دليلا يدله عليه ومعجزة تهديه إليه، وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ثم ما شفع به هذه الآية وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء، ثم انظر فيه آية آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية وفي الدلالة آية فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها مما تجري في الحسن مجراها وتأخذ في معناها، ثم من قصة إلى قصة ومن باب إلى باب من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل وحتى يصور لك الفصل وصلا ببديع التأليف وبليغ التنزيل، وإن أردت أن تتبين ما
1 / 14
قلناه فضل تبين وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص وحديث من هذه الأحاديث فعبر عنه بعبارة من جهتك وأخبر عنه بألفاظ من عندك حتى تري فيما جئت به النقص الظاهر وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر ". (١)
وقال الأستاذ الرافعي (٢) في كتابه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: " من أعجب ما اتفق في هذا القرآن من وجوه إعجازه أن معانيه تجري في إحكام النظم مجرى ألفاظه على ما بيناه من أمرها -يعني ما سبق أن ذكره عن جمالها وروعتها وبلاغتها -[إن هذا الإعجاز في معني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه وهو أبلغ في معناه إذا انتبهت إلى أن السورة لم تنزل على هذا الترتيب فكان الأحرى ان لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضا وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب، ولكنه روح من أمر الله تفرق معجزا فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولوا الألباب] (٣)
ويقول ﵀ [وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمع لما في نفسك وأين لهذه الحقيقة غير كلمة الإعجاز] (٤)
ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز ﵀: " لعمري لئن كان للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءته الصادقة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات، لعمري إنه في ترتيب آياته معجزة المعجزات " (٥)
الاستعانة بعلم المناسبات في فهم المعنى:
_________
(١) - -نفس المرجع ص ٤٠
(٢) - مصطفى صادق الرافعي: أديب ومفكر مصري راحل
(٣) - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص ٢٧٨
(٤) - نفس المرجع ص ٢٨٠
(٥) - النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز ﵀ ص ٢٠٩..
1 / 15
لا غنى للمفسر عن دراسة هذا العلم والتعمق فيه فمن خلاله يستعين على فهم المعنى أو الترجيح بين الآراء في ضوء السياق، أو إزالة لبس أو إشكال، أو دفع إيهام، أو معرفة الحكمة من إيراد القصص القرآني، أو غير ذلك من الفوائد؛ لذا فلا بد من النظرة الكلية الشاملة والتأمل في مقاصد السورة وتعيين المحور العام الذي تدور حوله، وتقسيم الآيات إلى مقاطع كل مقطع يمثل وحدة موضوعية واحدة مترابطة ومستمسكة ومتناسقة مع سابقها ولاحقها.
يقول الإمام الرازي ﵀ " علم المناسبات علم عظيم أودع فيه كثير من لطائف القرآن وروائعه وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ". (١)
وقال الزركشي: " والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شىء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففى ذلك علم جم وهكذا فى السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له " (٢)
الوقوف على سمة خاصة من سمات القرآن الكريم:
كما تفرد القرآن الكريم بنزوله منجما - حسب الحوادث والنوازل - على غير ما هو معهود في الكتب السابقة التي نزلت جملة واحدة: فلقد تميز القرآن المجيد بهذا النظم الفريد، وهذا السبك النضيد، وهذا التصريف العجيب، وهذا التنوع في الأساليب، والثراء في الأداء، والانتقال من موضوع إلى موضوع ومن حكمة إلى حكمة ومن قصة إلى قصة ومن مثل إلى مثل، دون أن يؤدي ذلك إلى اضطراب أو خلل، أوسآمة أو ملل، أو تناقض أو اختلاف، بل تناسق وائتلاف، مراعاة لطبيعة النفوس وتيسيرا على القراء وتبصرة وتذكرة للألباء.
_________
(١) - البرهان ١ /٣٥
(٢) ٢- البرهان في علوم القرآن ١ / ٣٨..
1 / 16
مائدة عامرة زاخرة، وحدائق ذات بهجة، ناضرة مزهرة، غناء مثمرة، تسر العيون الناظرة، قد تشابكت أغصانها وتعانقت أزهارها وتآلفت أطيارها وتشابهت ثمارها، وامتزجت جداولها وانتظمت دررها واتسقت جواهرها في عقد نظيم:
كالدر يزداد حسنا وهو منتظم..... وليس ينقص قدرا غير منتظم
قال تعالى في سورة الإسراء ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴿٤١﴾﴾ وقال تعالى في سورة طه ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴿١١٣﴾﴾ وقال سبحانه في سورة الفرقان مبينا الحكمة من نزول القرآن منجما ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ﴿٣٢﴾﴾
فمجيء القرآن منجما على مدار ثلاث وعشرين سنة حسب ما تقتضيه الحوادث والنوازل وما يتناسب مع الظروف والأحوال وما يتواكب مع المراحل التي مرت بها الدعوة ثم ترتيبه حسب ما هو موجود في اللوح المحفوظ بهذه الحكمة والروعة: سمة من سمات هذا القرآن،وخاصية من خصائصه التي تفرد بها عن الكتب السابقة التي نزلت جملة ...
1 / 17
ومع تنوع موضوعات السورة الواحدة حيث الأحكام والعقيدة والقصص والأمثال والوعد والوعيد إلا أننا نجدها مجتمعة في سياق واحد متناسبة متناسقة تصب كلها في هدف واحد وتدور كلها حول محور واحد وينظمها عقد واحد، ويربطها رابط واحد فلا تناقض ولا اضطراب ولا تفكك ولا تنافر بين الموضوعات، فهذا الترتيب متوافق مع الهدف العام للقرآن وهو التذكير المتجدد مصداقا لقوله ﷿ ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴿١١٣﴾﴾ سورة طه
1 / 18
وعن ذلك يقول صاحب مناهل العرفان مبينا خاصية من خواص القرآن وهي: " جودة سبكه وإحكام سرده: ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجمله وآياته وسوره مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه، ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة الواحدة من التناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعانقة الآيات وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا حسن السمت قرءانا عربيا غير ذي عوج فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار على حين أنها مؤلفة من حلقات لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء ولكل جزء موضع خاص من الحلقة ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها، يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك. " (١)
الرد على شبهات أثارها أعداء الإسلام حول الوحدة الموضوعية للقرآن؛
_________
(١) - مناهل العرفان ٢ / ٢٢٨، ٢٢٩..
1 / 19
فلقد طعن كثير من المستشرقين والمنصّرين في الوحدة، وزعموا أن آيات القرآن لا يجمعها سياق وليس بينها وفاق، وأوصوا بإعادة ترتيب القرآن وفق أسباب نزوله تيسيرا للقارئ وإعانة له على فهم المعنى –على حسب زعمهم الباطل وفهمهم السقيم –
يقول المستشرق الفرنسي بلاشير (١): " إن إعادة ترتيب السور الذي اقترحه [نولدكه] (٢) ينال هنا كامل الأهمية لأنه يلقي على المصحف أضواء مطمئنة ويرد وضع النصوص إلى آفاق سهلة الإدراك لكونها مقرونة إلى السياق التاريخي المعقول [يعني وفق نزولها] ٠ "
ويقول بلاشير أيضا: " ويتوصل القارئ الغربي إذ ذاك بمنطق لا تكلف فيه إلى الاقتناع بأن الحياة قد أعيدت للصحف فما عاد يظهر على شكل متتابع مصطنع وغير منتظم للنصوص بل على شكل سلسلة من الموضوعات عالجها محمد خلال عشرين عاما وفقا لمقتضيات دعوته ٠" ثم يقول في الموضوع نفسه " والمهم منذ تلك اللحظة أن يقبل قارئ القرآن بالانقياد وتدل التجربة فيما يبدو أن التقيد بالمراحل الزمنية للترتيب الذي اقترحه نولدكه وأخذ به بعض المترجمين يجعل قراءة المصحف سهلة بل ممتعة " (٣)
_________
(١) - مستشرق فرنسي من أشهر كتبه تاريخ الأدب العربي وكتابه القرآن: نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره -تراجع ترجمته في كتاب المستشرقون للأستاذ / نجيب العقيقي ١/٣٠٩:٣١٢ ط دار المعارف
(٢) - مستشرق ألماني ت١٩٣٠م له مؤلفات عديدة منها تاريخ النص القرآني -تراجع ترجمته في كتاب المستشرقون للأستاذ / نجيب العقيقي ٢/ ٣٧٩:٣٨٣
(٣) - القرآن: نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره -لبلاشير ترجمة رضا سعادة ص٢٣:٤٤
1 / 20