لكن ابدأ في عملية التحليل، تر الفرق واضحا، وتعلم كيف يقع كثير من الأخطاء التي يطلقون عليها اسم ميتافيزيقا، فواضح في العبارة الأولى أن «تركيا» باعتبارها قطعة من الأرض لم تكن هي التي حاربت «اليونان» باعتبارها قطعة من الأرض، وإنما المقصود من كلمتي: «تركيا» و«اليونان» مجموعتان من الناس، مجموعة هنا ومجموعة هناك، بل المقصود - بعبارة أدق - جيشان يتألف كل منهما من أفراد معروفين، كانت المعلومات الفردية عن كل منهم مثبتة في قوائم معينة، ولو أردنا وصفا واقعيا كاملا للحوادث التي نطلق عليها عبارة «تركيا حاربت اليونان»؛ لجعلنا نذكر الأفراد الذين كان يتألف منهم الجيشان فردا فردا، لنقول ماذا صنع كل فرد من هؤلاء وأولئك قولا تفصيليا يذكر أعمال الفرد الواحد عملا عملا، ويذكر لكل عمل ظروفه الزمانية والمكانية، حيث يصبح لدينا في النهاية قائمة طويلة من قضايا أولية، صورة كل منها هي: الفرد «س» التركي قام بالعمل «ص» بالنسبة لليوناني «م» ... وهكذا.
فإن كان مثل هذا التحليل مستحيلا من الوجهة العملية، فأقل ما يهدينا إليه هو ألا نخطئ فنظن أن «تركيا» و«اليونان» كلمتان تطلقان على حقيقتين، كل حقيقة منهما قائمة بذاتها، كما هي الحال في قولنا: «زيد قاتل عمرا.» فليست «تركيا» اسما على مسمى بمثل ما يكون «زيد» اسما على مسمى، وكذلك ليست «اليونان» اسما على مسمى كما يكون «عمرو» اسما على مسمى، ليس هنالك كائن قائم بذاته يشار إليه في لحظة معينة ومكان معين، ويقال: هذه هي «تركيا» أو هذه هي «اليونان»، وإذا عرفنا ذلك، أدركنا أن ما نسميه بلفظة «تركيا» أو بلفظة «اليونان»، هو في الحقيقة تركيبة ذهنية ليس لها ما يطابقها في عالم الأشياء الخارجية، ففي عالم الأشياء الخارجية هذا وهذا وذلك من الأفراد الذين يسكنون قطعة معينة من الأرض، فأبني أنا من هذه المفردات بناء خياليا ذهنيا وأسميه «تركيا» - مثلا - تسهيلا للتفاهم.
بهذا نتخلص من الوهم الميتافيزيقي الذي قد يقع فيه الفلاسفة السياسيون حين يفرضون أن «الشعب» له كيان ووجود قائم بذاته على نحو ما يكون لزيد أو لعمرو من الأفراد كيان ووجود، ومصدر الخطأ أن هنالك «أسماء»، فحسبوا أن لكل اسم مسماه، والحقيقة أن هذه الأسماء لا تشير إلى مسميات خارجية، ولا تعدو أن تكون رموزا للتفاهم السريع.
وأمثال هؤلاء الفلاسفة الميتافيزيقيين، حين يتلفتون حولهم فلا يجدون «دولة» أو «شعبا» بين الموجودات الفردية التي تقوم وتقعد وتأكل وتنام وتمرض وتلبس الثياب، تراهم يبعدون في الوهم فيفرضون بأن «الدولة» - مثلا - كائن من طبقة أعلى من طبقة الكائنات الفردية، وكثيرا ما يخلصون من هذا التفكير إلى نتيجة أو نتائج لها كل الخطر على حياة الأفراد، كأن يقولوا مثلا: إن الدولة أعلى من الفرد في سلم الوجود، وإذن فليس للفرد حق مناهضتها أو الثورة عليها، فإذا ما تناول فيلسوف التحليل هذه الميتافيزيقا بمبضعه؛ وجدها قائمة على غلطة منطقية في فهم العبارات وتحليلها لا أكثر ولا أقل، والغلطة هي الظن بأن العبارة التي ترد فيها كلمة «دولة» أو «أمة» أو «شعب» أو ما هو شبيه بذلك، هي كالعبارة التي تتحدث عن فرد من الأفراد، فإذا فككنا كل عبارة فيها لفظة «دولة» - مثلا - إلى قائمة طويلة من العبارات الأولية التي تتحدث كل منها عن فرد واحد في حالة واحدة من حالاته الكثيرة، تبخرت هذه الأشباح الوهمية وزالت من الوجود، وزالت بالتالي الميتافيزيقا القائمة على أساسها.
وأهم مشكلة عالجها «مور» بهذه الطريقة التحليلية، هي مشكلة العالم الخارجي، إذ ترى أصحاب التفكير الميتافيزيقي يتساءلون: هل العالم الخارجي موجود حقيقة؟ وإن كان موجودا فهل هو واحد أم كثير؟
أتدري كيف أقام «مور» البرهان على هذه المشكلة المزعومة؟ أقامه هكذا: «أستطيع الآن أن أقيم البرهان - مثلا - على أن يدين بشريتين موجودتان، كيف؟ بأن أرفع كلتا يدي، قائلا - وأنا أشير إشارة خاصة بيدي اليمنى: «هذه يد واحدة.» ثم أضيف إلى ذلك قولي - وأنا أشير إشارة خاصة بيدي اليسرى: «وهذه يد أخرى».»
18
هذا في رأى «مور» برهان كاف على أن العالم الخارجي موجود أو على أنه متكثر، وهو برهان لأن المقدمات فيه غير النتيجة (المقدمتان هما: (1) هذه يد. (2) وهذه أخرى. والنتيجة هنالك يدان موجودتان، وقد اعتبر النتيجة مختلفة عن المقدمتين؛ لأنها قد تكون في ذاتها صوابا مع خطأ المقدمتين، إذ تستطيع - مثلا - أن ترفع قلما وتقول هذه يد، ثم ترفع كتابا وتقول: وهذه يد أخرى، ثم تستنتج النتيجة: إذن هنالك يدان موجودتان، فتكون النتيجة صوابا والمقدمتان خطأ، وعلى ذلك فقولي: هذه يد، وتلك أخرى زعم يختلف عن الزعم المثبت في النتيجة وهو: هنالك يدان موجودتان). أقول: إن هذا في رأى «مور» برهان كاف على وجود العالم الخارجي، وعلى أن هذا العالم كثير؛ لأنه مؤلف من مقدمتين ونتيجة، ولأن المقدمتين ثابت صدقهما على أساس «الفهم المشترك»، وإذن تكون النتيجة هي الأخرى صوابا، لكن النتيجة تثبت وجود أكثر من يد واحدة، إذن هنالك - على الأقل - شيئان، هما هاتان اليدان.
لقد توهم الميتافيزيقيون وجود المشكلة؛ لأنهم - كما يبدو - حين تساءلوا: هل العالم الخارجي موجود؟ حسبوا أن هاتين اليدين البشريتين اللتين أعلم بوجودهما علما - يثور علي «الفهم المشترك» لو أنكرت صحته - حسبوا أن هاتين اليدين البشريتين ليستا من الضخامة والفخامة بحيث تكفيان أن تكونا عالما خارجيا، حسبوا أن العالم الخارجي كلمة مجيدة عظيمة غير هذه الأشياء الجزئية اليسيرة التي أعلم بوجودها، لكن فيلسوف التحليل يفك بمشرطه هذه العقدة إلى خيوطها، فإذا هي أيسر جدا مما توهم الميتافيزيقيون.
هكذا جعل «مور» مهمة الفلسفة تحليل العبارات تحليلا منطقيا وتحليلا فلسفيا، توضيحا لمعناها حتى يزلزل الأرض التي تستند عليها الفلسفة التأملية؛ لأن هذه الفلسفة - كما قد أظهر التحليل - قائمة كلها على أغلاط منطقية في فهم العبارات اللغوية. أقول: إن التحليل هو المهمة الرئيسية التي جعلها «مور» شغل الفلسفة وشاغل القائمين بها، فشق بذلك طريقا أمام مدرسة فكرية جديدة، هي التي تستطيع أن تسميها بالمدرسة الفلسفية المعاصرة.
অজানা পৃষ্ঠা