يقول «كانت»: «في الرياضة وعلم الطبيعة - وهما العلمان اللذان يقدم العقل فيهما معرفة نظرية - يتعين الهدف قبل المضي في طريق البحث، فالرياضة تفعل ذلك معتمدة على العقل الخالص، وأما علم الطبيعة فلا بد له - إلى حد ما على الأقل - أن يعول على مصادر أخرى للمعرفة غير العقل.»
5 «بدأت الرياضة سيرها على الطريق القويمة للعلم، منذ أقدم العصور التي يمكن الرجوع إليها بتاريخ العقل البشري، وأعني به العصر الذي عاش فيه ذلك الشعب العجيب، شعب اليونان، ولا ينبغي لظان أن يظن بأن الأمر [كان هينا ميسورا] ... إذ لم يكن من اليسير على الرياضة أن تهتدي إلى طريق العلم، أو قل: إنه لم يكن من اليسير عليها أن تشق لنفسها طريقها السلطاني المستقيم، بل الأمر على نقيض ذلك، فعقيدتي هي أن الرياضة قد لبثت أمدا طويلا - وبخاصة عند المصريين - في مرحلة التحسس، ولا بد أن يكون التحول في طريقها [من طريق التحسس إلى الطريق العلمي] قد جاء نتيجة لانقلاب أحدثته فكرة مواتية طرأت لواحد من الناس، فاصطنع لها تجربة بعينها، فكان هذا [أي ورود الفكرة أولا واصطناع التجربة لها ثانيا] هو العلامة التي ميزت الطريق الذي لا بد للعلم أن يبدأ السير فيه ... إن التاريخ لم يحفظ لنا الوقت الذي حدثت فيه هذه الثورة العقلية - وهي أهم بكثير جدا من كشف الطريق حول رأس الرجاء الصالح - كذلك لم يحفظ لنا التاريخ من هو صاحب هذه الثورة الموفق ... فلقد لمع شعاع جديد من الضوء على عقل الرائد الأول (وليكن هذا الرائد طاليس أو غيره) الذي أقام البرهان على خصائص المثلث المتساوي الساقين.»
6
فالطريقة الصحيحة التي التمسها ذلك الرائد الأول في البرهان الرياضي، لم تكن في أن يرسم مثلثا أمامه، ثم يبحث في خصائصه التي يراها بعينيه، بل هي أن ترد على عقله فكرة بالنسبة إلى هذا المثلث، ثم يسأل نفسه الأسئلة عما يترتب على هذه الفكرة من نتائج، على فرض أنها فكرة صحيحة، وبعدئذ إذا ما رسم مثلثا أمامه ليثبت عليه ما قد رآه بعقله بادئ ذي بدء، فلا يكون هذا المثلث المرسوم إلا بمثابة جزئية تمثل الفكرة التي سبقت إلى ذهنه . «ولبث العلم الطبيعي أمدا أطول بكثير جدا [مما لبثته الرياضة] حتى بدأ سيره في الطريق السوية للعلم، فالحق أن العلم الطبيعي لم يقض في هذه الطريق العلمية إلا قرنا ونصف قرن، وكان ذلك منذ بيكن، إذ اهتدى إلى هذا الكشف بفضل آرائه الفذة ... ففي حالة العلم الطبيعي أيضا، يمكن تفسير الكشف الجديد بأنه النتيجة المباغتة لثورة عقلية ...
إن جاليليو حين أقام التجربة لكرات كان قد سبق له تصميم أوزانها، بحيث تتدحرج هابطة على سطح منحدر، وإن «تورشلي» حين جعل الهواء يحمل ثقلا، كان قد حسب مقداره بفكرة سابقة، وهو أن يكون الثقل مساويا لوزن عمود معين من الماء ... عندئذ أشرق شعاع من الضوء على دارسي الطبيعة، إذ علموا أن العقل لا يدرك في الأشياء إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه ... فلا بد للعقل أن يشق هو الطريق أولا بمبادئ يقيمها ... ثم يضطر الطبيعة بعد ذلك اضطرارا أن تجيب له عن أسئلة صاغها العقل نفسه، فالملاحظات العابرة التي لا تتم وفق خطة سابقة مدبرة، يستحيل أن تنتهي إلى قانون ضروري، فالقانون الضروري [أي الذي تكون صحته مؤكدة يقينية] لا يكشف عنه إلا العقل وحده.» «أما الميتافيزيقا؛ فلم يواتها الحظ السعيد بعد لتبدأ سيرها في طريق العلم المأمون ... فترى الباحثين في الميتافيزيقا أبعد ما يكونون عما يشبه إجماع الرأي، مما يجعل الميتافيزيقا توشك أن تكون ميدانا للقتال، ولم ينجح أحد من المتقاتلين في كسب شبر واحد من الأرض، وهذا يدل - بغير شك - على أن الطريقة التي اتبعتها الميتافيزيقا إلى الآن، قد كانت مجرد خبط عشوائي، فما الذي اعترض سبيل الباحثين دون الكشف عن الطريق العلمي القويم في هذا الميدان [ميدان الميتافيزيقا]؟ أيكون هذا الطريق مستحيلا كشفه على الإنسان؟ أم أنا أخفقنا حتى الآن، ولكن هنالك من الدلائل ما يبرر لنا الأمل في أننا إذا بذلنا جهدا جديدا، فربما كنا أحسن حظا من أسلافنا في ذلك؟»
7
3
بهذا الأمل كتب «كانت» كتابه في «نقد العقل»، إذ أراد به أن يمهد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم في المستقبل خالية من أوزار الماضي وأخطائه، إنه لم يرد بكتابه في «نقد العقل» أن يقدم تفكيرا ميتافيزيقيا إيجابيا، بل أراد أن يتخذ منه أداة تعينه على كشف الطريق السوي للبحث الميتافيزيقي المنتج، وهذا البحث الميتافيزيقي - كما قال في المقدمة - إنما يدور حول موضوعات ثلاثة؛ هي: الله والحرية والخلود.
لقد بدأ «كانت» عمله هذا بوعد قطعه على نفسه، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانبا - وهي عنده البحث في الله والحرية والخلود - حتى يفرغ من تحليله لبناء العلم الرياضي وبناء العلم الطبيعي، وبعدئذ يعود إلى البحث الميتافيزيقي؛ ليقيمه على نفس الأسس التي رآها في ذينك العلمين، لكنه فرغ من «نقده» للرياضة وعلم الطبيعة، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما، ولما سئل في ذلك، قال: إنه وجد أن «النقد» هو نفسه الميتافيزيقا التي أرادها،
8
অজানা পৃষ্ঠা