وحين جاء دورنا ملأنا الصحون وقفلنا راجعين نحو الخيمة، وما عادت نفسي تصبر على هذا الصمت الذي ضيق عليها، فقلت متعمدا فتح المحادثة: «هل لاحظت الرجل الذي كان أمامي في الصف؟ هو مدير بنك الناشيونال سيتي، وإن الصيني الذي كان يحاذيه كان خادما في مقهى «الكلوب» قبل الحرب. سبحان الله! الأميركان يهبوننا الطعام ويساوون بين مواطنهم الذي يرأس مصرفا، والغريب عنهم الذي يخدم في مطعم. فتقززت نفس صديقي وصرخ بي: «هل لاحظت أن فلسفاتك غليظة، وأن لعنة كتاب «مجاني الأدب» التي ركبتني قبل الحرب تثقل الآن رقبتك؟ ... اسمع.»
وجمدنا كلانا إذ انقطعت أغنية «تراك تحبني ...» وخرج من المجهر صوت عسكري: «إن القيادة العامة في جبهة «مانيلا» تذيع أن الجسر الأخير الذي يربط شمالي المدينة بجنوبها هو في أيدينا منذ ربع ساعة، ولقد خسرنا في القتال حوله 38 رجلا، بينهم الماجور هري أندرسون بطل «جواد الكنال» الذي قاد الهجوم. هذا كل شيء.»
ورجع الصوت النسائي يغني:
تراك تحبني في شتاء العمر
مثلما أحببتني في نواره؟
وجثمنا كلانا في خيمتي والصحون ملأى بالطعام، لا نمد إليها أيدينا، غارقين في التفكير، وفجأة انتفض إبراهيم جوهر وانتزع صورة الماجور وطفله من جيبه فمزقها وداسها وصاح شبه مجنون: «لعن الله أندرسون . بقي في الجيش ثلاث سنين يقاتل، أما انتقى ساعة يقتل فيها إلا قبل أن يسلمني حمل الكميونين بضاعة؟!»
ومشى من خيمتي، فرحت أتطلع إلى قامته المبتعدة أحمد الله أن ليس قربي مسدس أو بارودة، وأحدث نفسي: «حبذا لو لم يرجع إبراهيم جعفر مع قافلة اللاجئين. حبذا لو أنه دفن شريفا حبيبا في سراديب معادن الذهب!»
وحين غاب عن عيني تمنيت أن يبقى غائبا عني، ما حييت.
أخيرا، خضع الحيوان الياباني للعلم الأميركي، فسكنت المتفجرات وانقطع أزيز الرصاص، وقلت في شوارع «مانيلا» وجوه الأميركيين الباسمة، وابتدأت كوم الدمار من حجارة وحديد تختفي، وصارت البنايات تنهض هنا وهناك، وأنا خلال ذلك دائب في أعمالي المتواضعة، أشتري من هنا وأبيع هناك، وأرجع في المساء إلى غرفتي حيث أعيش وحيدا تؤنسني أحلامي وذكرياتي، وقد أقنعت نفسي أن إبراهيم جوهر مات على الرغم من أني كنت أرى صورته في الجرائد أحيانا، وأقرأ فيها أنباء حفلات أقامها أو دعي إليها، وأنظر إلى صورته في الصحف صاعدا إلى طائرة أو مترجلا منها؛ فلقد أمسى من الواضح أن الرجل قد صاب في الحياة نجاحا وأصبح ممن يسمونهم علية القوم.
أسابيع، شهور، سنة، سنتان.
অজানা পৃষ্ঠা