لكن الواقع أن هذه الفكرة البسيطة قد أهملت، وظلت مهملة من عهد البداوة إلى عهود الحضارة الأولى؛ لأن محاسبة الفرد لم يكن لها مرجع إلى سلطان واحد؛ إذ كان الفرد من القبيلة يعتدي على فرد من قبيلة أخرى، ويندر أن ترضى قبيلة المعتدي أن تسلمه إلى قبيلة المعتدى عليه؛ فإن لم تسلمه «تضامنت» في الدفاع عنه، ووقعت الحرب بين القبيلتين، أو تعرض كل فرد من أفراد قبيلة المعتدي لأخذ الثأر منه، وقد يتوارثون الثأر إلى الأبناء والأعقاب.
فمضى نظام القبيلة على «مسئولية» القبيلة كلها عن جميع أفرادها، ثم تطورت القبيلة، وتألف الشعب من جملة قبائل متعارفة على نظامها القديم، فثبتت على عاداتها لصعوبة التغيير في الجماعات التي تقوم على المحافظة ورعاية المأثورات السلفية، وبلغ من ثبات هذه العادات أن رومة - التي كانت تسمى أم الشرائع - جعلت الأب مسئولا عن الأسرة، وأباحت له التصرف في أرواحها وأموالها. وقد ناظرتها في الشرق شريعة حمورابي، فجعلت من حق الرجل الذي تقتل بنته أن يتسلم بنت القاتل ليقتلها كأنها لا تحسب عندهم إنسانا مستقلا بحياته.
وكانت في الهند حضارات تأخذ بمبدأ المسئولية الفردية، ولكنها ترجع بها إلى حياة سابقة متسلسلة من حياة سابقة على مدى الأزمنة التي لا تعرف لها بداءة منذ أزل الآزال، فهو مولود بجرائره وآثامه، وكفارة تلك الجرائر والآثام إلى الأجل المقدور، وليست تبعاته مرهونة بما يعمله بعد ميلاده؛ بل هي سابقة للميلاد لاحقة به آمادا بعد آماد.
وعلى هذا تعاقبت الأجيال على إهمال المسئولية الفردية في أطوار البداوة وأطوار الحضارة، ولم تعرف حضارة واحدة دانت بهذه المسئولية على النحو الذي نفهمه الآن، أو على نحو قريب منه غير الحضارة المصرية في عصور الأسر القديمة، ثم طواها الزمن وطوى معها شرائعها فلم يبق منها إلا اليسير. •••
ولا نطيل في شرح «المسئولية الفردية» كما اعتقدها أناس من المتدينين الكتابيين قبل الإسلام، ولكننا نشير إلى طرف منها للإبانة عما انتهت إليه واستقرت عليه عند ظهور الدعوة الإسلامية.
ففي سفر التكوين أن «نوحا شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا ... فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته ...»
وفي سفر يشوع أن «عاخان» سرق من غنائم القتال في وقعة عاي، فانهزم الإسرائيليون ... «وأجاب عاخان يشوع وقال: حقا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل ... رأيت في الغنيمة رداء شنعاريا نفيسا ومائتي مثقال من الفضة، ولسان ذهب وزنه خمسون مثقالا، فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض وسط خيمتي والفضة تحتها. فأخذ يشوع عاخان بن زارح والفضة والرداء، ولسان الذهب، وبنيه وبناته، وبقره وحميره، وغنمه وخيمته، وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم وادي عجوز ... فقال يشوع: كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم؟ فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار، ورموهم بالحجارة، وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه.» •••
وكان القول الشائع أن عصيان آدم جريرة لا يسأل عنها وحده؛ بل يسأل عنها كل ولد من ذريته. •••
أما الدعوة الإسلامية فالمسئولية الفردية فيها شيء جديد كل الجدة لم يتطور مما تقدمه، ولم يكن نتيجة قط لإحدى هذه المقدمات، ومعجزة المعجزات فيها أنها قامت بالمسئولية الفردية، حيث يصدها كل عرف قائم، ويعوقها كل نظام مصطلح عليه في المعاملات والعقوبات، قامت بها في أعماق الجزيرة العربية ولا قانون فيها غير قانون الثأر، ولا شريعة لها غير شريعة القبيلة، وتعلم الناس لأول مرة في تاريخ البداوة والحضارة:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم: 39]. وأن جيلا من الأجيال لا يؤخذ بجريرة أسلافه، ولا يؤخذ خلفاؤه بجريرته:
অজানা পৃষ্ঠা