فلا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه السكر وينام وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ويسمع جلبته وإنشاده ففقد صوته ليال فسأل عنه، فقيل أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى صلاة الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير، فقال ائذنوا له وأقبلوا به راكبًا حتى يطأ البساط ففعل لك به فوسع له الأمير في مجلسه وقال له ما حاجتك؟ فقال لي جارًا سكاف أخذه العسس منذ ثلاثة ليال فتأمر بتخليته، فقال نعم وكل من أخذ من تلك الليلة إلى يومنا هذا، ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وتبعه جاره الاسكاف فلما وصل إلى داره قال له أبو حنيفة أترانا أضعناك، فقال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرًا عن صحبة الجوار ورعاية الحق ولله علي أن لا أشرب خمرًا ابدًا فتاب ولم يعد إلى ما كان عليه.
قلت: وقد ضمن هذا البيت الشيخ برهان الدين القيراطي تضمينًا حسنًا (ومولده سنة ست وعشرين وشبعمائة، ووفاته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة):
فقال دعاني منيتي لكريه راح ... ورشف الثغر منه عقيب سكر
فقلت له دعوت فتى يرجى ... ليوم كريهة وسداد ثغر
ونقلت من المستجاد في فعلات الأجواد عرض محمد بن الجهم دارًا بخمسين ألف درهم فلما حضروا ليشتروا قال بكم تشتروا مني جوار سعيد بن العاص وكان بجواره فقالوا وإن الجوار ليباع، فقال وكيف لا يباع ويفرد بثمن وهو جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتدأك، وإن أسأت أحسن فبلغ ذلك سعيدًا فوجه إليه بمائة ألف درهم وقال أمسك عليك دارك.
وعلى ذكر الجار فما أحسن قول الشيخ جمال الدين بن نباتة (ومولده سنة ست وستمائة، ووفاته سنة ثمان وستين وسبعمائة) .
بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري
كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري
وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب (ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة، ووفاته سنة ثمان وثمانين وسبعمائة) وقد انتقل النيل السعيد عن بر مصر إلى البر الغربي شط الجيزة.
يا أيها السلطان إن النيل عن ... مصر تنقل بعد طول جوار
فاحفظ لنا جريانه وجواره ... فالله قد أوصى بحفظ الجار
وأنشدني سيدي وأخي الجناب المجدي فضل الله بن مكانس أبقاه الله_تعالى_من موشحة لنفسه
أجريت ما بين دموعي الغزار*مثل البحار*ولم يدع لي طول دهري قرار
هجر حبيبي وهو مني قريب*مع الرقيب*قد صيراني بين قومي غريب
دأبي النحيب*فآه من جورك يا ذا الحبيب*على الكثيب
وما احتيالي في قريب الديار*ونائي المزار*هو على الحالين يا قلب جار
رجع إلى ما كنا فيه: كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له يا هذا إنك قد اخترتني جارًا واخترت داري دارًا فجناية يدك على دونك وإن جنيت عليك فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء قال رجل يا رسول الله إن لي جارًا يؤذيني قال انطلق وأخرج متاعك إلى الطريق، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس إليه فقالوا ما شأنك؟ قال لي جار يؤذيني فجعلوا يقولون الله العنه اللهم اخزه اللهم أخرجه، فبلغه ذلك فأتاه فقال ارجع إلى بيتك فوالله لا أوذيك بعدها. وهذه من الحيل التي أباحها الشرع الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده.
وورد أن أبا مسلم الخراساني صاحب الدعوة عرض عليه فرس سابق فقال لأصحابه لما يصلح هذا الفرس؟ فقالوا ليوم الحرب، فقال كلا ولكن ليهرب عليه من جار السوء.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: "ثلاث كن في الجاهلية الإسلام أولى بها: كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف سعى له أهل البيت كبيرهم وصغيرهم حتى ينقلب وهو راض، وكان الرجل منهم إذا طال ثواء امرأته معه كره طلاقها لئلا تذل بعده، وكان الرجل إذا جنى جاره جريمة باع فيها ولو ولده حتى ينقذ جاره.
الباب الرابع
في الباب
الباب يجمع على أبواب وقد قالوا فيه أبوبة للازدواج، وقيل أبواب مبوبة كما قيل أصناف مصنفة، ولبعضهم فيما يكتب عليه.
لذ بذا الباب كلما ... خفت ضيق المناهج
فهو باب مجرب لقضاء الحوايج
وأنشد الأصمعي وفي أبيات المعاني قول بعض العرب:
وذي رجلين لا يمشي عليها ... ولكن في القيام له صلاح
1 / 5