وتبدأ المسرحية عادة بحديث ضاف يشرح الموقف ويقدم للحوار ويأخذ النقاد على هذه الطريقة أن المقدمة كثيرا ما كانت تشتمل على أكثر حوادث الرواية، ولذا فهي تقتل لذة المتفرج. ولكن لذة المسرحية في الواقع تنحصر في الحوار أكثر مما تنحصر في أي شيء آخر. ويتخلل الحوار رقص الجوقة وغناؤها، وكثيرا ما يكون هذا الغناء قليل الصلة بمجرى الحوادث. وهو في الكثير الغالب تعليق شعري على حوادث الرواية لا علاقة له بتطور الموضوع، وسيجد القارئ اليوم، والقارئ العربي خاصة، أن حديث الجوقة ممثل سخيف؛ وذلك لكثرة ما يحتويه من إشارات إلى الأساطير اليونانية القديمة التي انقطعت بيننا وبينها الأسباب. ولكن لهذا الرقص والغناء فائدته في بعض المواقف؛ فهو لون من ألوان الترفيه عن المستمع حين تبلغ المأساة موقفا يدعو إلى الحزن ويثير الألم. والجوقة ساكتة لا تتحرك، تنشد غناءها غالبا على دفعتين؛ لأنها مقسمة إلى فرقتين، وقد تشترك الفرقتان في نشيد واحد.
ويلاحظ على المسرحية اليونانية أنها قليلة الأشخاص، وأن هؤلاء الأشخاص قليلو الحركة على المسرح؛ لأن المسرحية أكثرها حوار، وهي قليلة الحوادث. ولما تبلغ العقدة أشدها، وتصل المسرحية إلى أزمتها تقع الكارثة بعيدا عن المسرح لا يراها المتفرجون، وإنما يرويها لهم رسول حديثه عادة هو قمة المسرحية وبدء انحلال عقدتها. وكثيرا ما تنتهي المسرحية عند يوربديز بظهور إله يختتم الرواية في كلمات موجزة فيها عزاء وسلوى عن الكارثة التي ألمت ببعض أفراد المسرحية، فيغادر المتفرجون المسرح وهم على شيء من راحة النفس والطمأنينة. وآخر ما يسمعه المتفرج نشيد يرتله أفراد الجوقة تعليقا على المأساة.
يوربديز وعصره
عاش يوربديز في عصر البطولة في تاريخ أثينا في الوقت الذي استولى فيه الهلينيون على الإمبراطورية الفارسية الشاسعة، وهزموا جيشها الجرار وأسطولها الضخم في معركة سلامس. وهو يعاصر اثنين من أشهر كتاب المسرحية اليونانية، وهما إيسكلس وسوفوكليز. ولكنه أصغر منهما سنا. وكان سقراط لعهده يسيطر على ميدان الفلسفة ويبعثها بعثا جديدا.
وقد كان إيسكلس جنديا في الجيش، وسوفوكليز رجلا يشترك في سياسة المدينة. أما يوربديز فقد كان يعيش في عزلة من الناس قليل الانسجام مع العصر الذي نشأ فيه، يكره عادات الشعب الأثيني، ويؤثر حياة الريف على حياة المدينة. وكان مبتدعا في فنه مبتكرا. ولعل هذا الابتداع هو الذي جعل أرستوفان يتهكم عليه ويسخر منه في إحدى رواياته؛ وذلك لأن أرستوفان كان محافظا على القديم يمقت كل تجديد. وكان يوربديز رجلا حاقدا على الناس ناقما عليهم، يكره أن يسخر منه أحد. وربما دفعه إلى هذا الحقد أنه تزوج من امرأتين أثبتت كلتاهما الخيانة له. وفي أخريات حياته هجر أثينا نافرا من الحياة فيها، وهبط في مقدونيا؛ حيث كتب مسرحيته الأخيرة «باكي»، وقد قربه الملك إليه، فأثار ذلك غيرة رجال البلاط الذين دبروا له ميتة شنيعة؛ وذلك بأن يهاجمه عدد من الكلاب المتوحشة، وقد أطلقت بالفعل عليه الكلاب وأخذت تنهش لحمه حتى مات.
ولما بدأ يوربديز الكتابة المسرحية كان إيمان الأثينيين بالآلهة قد تزعزع. وقد كانت قدرة الآلهة وسلطانها أساس مسرحيات أيسكلس. ولكن عهد الإيمان قد انقضى وتولى، فلا عجب أن نجد يوربديز يغض من شأنهم أحيانا من خلال مسرحياته. واختار يوربديز أشخاص رواياته من الرجال والنساء مخالفا في ذلك من سبقه من كتاب المسرحية؛ إذ كانوا يجرون كثيرا من حوار المسرحية على ألسنة الآلهة، ولهذا يعتبر يوربديز بحق أبا للمسرحية.
وبرغم اختلافه مع أبناء عصره في الرأي في كثير من الأمور، كان يشاركهم الشك في الآلهة، وقد دفعه إلى هذا الشك ما كان يروى من أعمال الآلهة الوضيعة التي لا تتفق وقواعد الأخلاق. فإن صح ما يروى فالآلهة لا يستحقون التقديس والعبادة، وإن لم يصح انهارت أركان العقيدة فيهم؛ لأن هذه الأساطير المروية هي لحمة العقائد وسداها، ولا نعرف إن كان يوربديز يؤمن بالخلود أو لا يؤمن. ومهما يكن من شيء، فقد كان أرستوفان يعتقد أنه كافر ملحد، وقد يكون مصيبا في عقيدته؛ لأن الشك كان يلتهم قلب الرجل التهاما. بيد أن يوربديز كان يعتقد أن عدم الإيمان بالآلهة لا ينافي الأخلاق الكريمة وكمال الشخصية. ولنذكر أنه كان يونانيا؛ فهو يحب الفضيلة لجمالها لا لما يعقبها من مثوبة أو جزاء أو سعادة باقية.
وأكثر مسرحيات يوربديز يدور حول العلاقة بين الرجل والمرأة. وقد برع في تحليل الشخصية، وبخاصة شخصية المرأة. وهذا الفهم الدقيق لعقلية النساء هو الذي جعل المستر جلبرت مري الذي نقل أكثر رواياته إلى الإنجليزية يطلق عليه «أبسن الإغريق»؛ وذلك لما بينه وبين أبسن الكاتب المسرحي النرويجي الحديث من مشابهة في فهم النفوس وما يجيش في صدور الناس من عواطف.
وقد كتب يوربديز ما ينيف على خمس وسبعين مسرحية، بقي لنا منها ثماني عشرة. وقد أثنى أرسطو على عبقرية الرجل، وحزن عليه سوفوكليز بعد مماته، وبموته انقضى عهد الدراما اليونانية الزاهر العظيم.
ويجدر بالقارئ أن يعلم أن أرستقراط أثينا لعهد يوربديز كانوا يقضون العمر في خدمة الدولة وفي الرياضة البدنية والذهنية، أما التجار والمزارعون والعمال فكانوا كقرنائهم في أي عهد من العهود وأي قطر من الأقطار. وكان الرق منتشرا، غير أن أكثر الرقيق كانوا يعيشون عيشة رضية ميسرة. وكانت النساء لعهد هومر - وذلك قبل يوربديز بنحو سبعة قرون - أحرارا في ذهابهن وإيابهن، يقفن مع الرجال على قدم المساواة في كل شيء ما خلا الحرب؛ فهي من شأن الرجال وحدهم. وقد تبدلت الحال في أثينا لعهد يوربديز وتدهور مركز المرأة بالنسبة إلى الرجل، وتكبلت بكثير من القيود، ولعل هذا هو السبب أن إكليز يكاد يصعق حينما تكلمه كيلتمنسترا، ولهذا أيضا لا تدافع أفجنيا عن نفسها أمام البطل في المسرحية. ولكن الكاهنات والقيان كن في حل من هذه القيود. وكان البنات يتزوجن في سن مبكرة، فلا غرابة في أن تقترن أفجنيا وهي بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة.
অজানা পৃষ্ঠা