لا شك أن القارئ يعرف هذا المصطلح، ولا شك أنه اطلع على بعض نماذجه أو شاهدها على المسرح. ولعله قد ارتبط في ذهنه باسم واحد من أعظم كتابه في الثلث الثاني من هذا القرن، وهو الشاعر الكاتب المخرج الألماني برتولت برشت (1898-1956م) الذي حدد المصطلح ودعمه بكتاباته النظرية. ولعله أيضا قد قرأه على نحو آخر؛ لأن صاحبه يصفه بأوصاف أخرى كالمسرح العلمي أو الجدلي أو غير الميتافيزيقي أو غير الأرسطي أو مسرح الاحتجاج ... ولكن المسرح الملحمي قديم قدم المسرح الغربي كله، وجذوره ممتدة في تاريخ هذا المسرح، وبعض عناصره نجدها في المسرح الشرقي والصيني بوجه خاص وفي كثير من ظواهر «المسرحة» في الحياة الشعبية والأدب الشعبي عندنا وعند غيرنا من الشعوب، كما أن مسرح برشت ليس هو المسرح الملحمي الوحيد؛ فهناك مسرح يول كلوديل المعاصر له، وهناك جوانب ملحمية كثيرة نلمسها لدى كبار الكتاب المحدثين من أصحاب المسرح الشعري والمسرح الحي ومسرح اللامعقول والمسرح التسجيلي أو مسرح الوثائق ومسرح التجارب اللغوية (عند بيتر هاندكه) ... إلخ. وإذا كان برشت هو الذي حدد هذا المصطلح وأثراه بأعماله الفنية والنقدية في إطار النظرية الاشتراكية، فهو في الحقيقة يصف به بناء دراميا لم يخترعه من العدم، وإنما وجدت الدراما الملحمية أو غير الأرسطية خلال الدراما الغربية وعلى مر العصور، كما أن محاولة الفكاك من النظرية الأرسطية المشهورة لم تتوقف منذ عهد التراجيديا اليونانية نفسها حتى يومنا الحاضر. وإذا كان من العسير علينا في هذا المجال أن نناقش هذه القضايا الكثيرة، فلا أقل من إلقاء نظرة تاريخية عليها؛ لنتبين ملامح الدراما غير الأرسطية وآثارها والجهود التي بذلت للوصول بها إلى التجارب الجديدة التي ما زالت تشق طريقها وتبحث عن أنسب شكل لها. •••
ما زالت الدراما الغربية منذ عهد الرومان خاضعة لتأثير أمها الأولى (وهي التراجيديا الإغريقية)، وما زالت واقعة تحت تأثير النظرية الفنية الفريدة التي ورثناها عنها، وهي النظرية الواردة في كتاب الشعر لأرسطو. ويبدو أن اسم المعلم الأول لا بد أن يظهر في كل نقاش يدور حول نظرية الدراما قديمها وحديثها، وأن التشبث بقواعده أو الثورة عليها هما في الحالتين اعتراف بفضله وسلطانه! فقد دخلت الأجيال على مر العصور في حوار مع نظريته المشهورة (التي أشار إلى بعض أسسها أو استخلصها النقاد من كلامه الموجز وأجملوها في الوحدات الأساس المعروفة كالمكان والزمان والحدث، وعلية التسلسل والاتساق في الفعل المسرحي، وتشابك المشاهد وتداخلها، والأزمة والصراع أو العقدة التي تنتهي بالحل والتكشف). وتمسكت بعض الأجيال بالنظرية، وخرج عليها بعضها الآخر وأخذ يفسرها ويعدل فيها أو يخالفها ويثور عليها متأثرا بمسرح شكسبير (وهو مسرح غير أرسطي بالأصالة ...) وهذا كله أمر طبيعي؛ فلكل عصر مسرحه. وكل عصر ينتظر من المسرح شيئا يخالف العصر السابق أو اللاحق. وقد لا نظلم الحقيقة إذا قلنا إنه كانت هناك على الدوام نظرية أخرى غير أرسطية في بناء الدراما، ظهرت بصورة واضحة في العصور الوسطى المسيحية عندما كتبت المسرحيات الدينية المعروفة بتمثيليات الأسرار، كما ظهرت في العصر الحديث لتثور على نظرية أرسطو عن قصد ووعي في بعض الأحيان، أو عن ضرورة اقتضتها المادة الحديثة والمضمون الجديد في أحيان أخرى. وكلامنا عن الدراما غير الأرسطية لا يعني أنها تعارض تلك معارضة تامة؛ فقد تلتقيان في بعض النقاط، ولكنها تغض النظر عن المكان والزمان ولا تخضع لعلية التسلسل، كما نجد أن بناء المشاهد والمناظر يسير على مبدأ التجاور بحيث تستقل في وحدات قائمة بنفسها، وبحيث يتسع أفق الدراما فيكون رحبا شاملا أقرب إلى أفق الملحمة.
ونحن نشير بهذا الكلام عن الملحمة والدراما إلى مشكلة من أدق المشكلات التي عرضت للنقد الحديث وهي مشكلة الأنواع الأدبية. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نتعرض لها بالتفصيل في هذا المجال. ولكننا نلاحظ بوجه عام أن المناقشات الطويلة التي دارت ولا تزال دائرة حولها قد سارت في طريقين. أحدهما يتابع تراث النقد المعياري وينظر إلى الأنواع الأدبية نظرة ثابتة مطلقة، والآخر ينظر إليها نظرة جدلية متأثرا بفلسفة هيجل الذي أدخل التفكير التاريخي والجدلي على علم الجمال مما أدى إلى التوحيد بين الشكل والمضمون والنظر إلى الأنواع الأدبية نظرة تاريخية تخضعها للتطور الذي يسري على المجتمع والفكر والوجود. ولعل الرسائل الرائعة التي تبادلها الشاعران الكبيران جوته وشيلر أن تكون أهم وثيقة أدبية سجلت الأزمة الدائرة حول مشكلة الأنواع الأدبية. وعبرت عن الآلام التي كابداها في أعمالهما المتأخرة (مثل فاوست لجوته، وعذراء أورليانز أو جان دارك لشيلر، ومسرحياته الأخيرة التي تركها بغير أن تتم). لقد حاولا المحافظة على الشكل الموروث والقواعد الأرسطية التي التزما بها أو رغبا على الأقل في الالتزام بها. ولكنهما وجدا أنفسهما مع ذلك مدفوعين دفعا إلى الخروج عليها، بحيث اقتنعا في النهاية - كما يقول شيلر في رسالة إلى صاحبه بتاريخ 26 من يوليو سنة 1800 - بأن الشاعر يجب ألا يتقيد بفكرة عامة، وإنما يجب عليه، وهو يواجه المادة الجديدة، أن يغامر بالبحث عن الشكل الجديد ويجعل فكرة النوع الأدبي فكرة مرنة ... وقد أدت بهما هذه المناقشة إلى الاشتراك في كتابة بيان هام عن «الأدب الملحمي والأدب الدرامي» حددا فيه طبيعة كل منهما، وذهبا إلى ضرورة امتزاجهما وتداخلهما؛ الأمر الذي نلمسه كما تقدم في «فاوست» التي تعد في الواقع قصيدة ملحمية كبيرة اختفى منها عنصر التوتر الدرامي أو كاد، وأصبح حلقة واحدة من حلقات متصلة تؤلف بينها رؤية متزنة شاملة للكون والإنسان والمصير. •••
لنحاول الآن أن نتبين بعض ملامح البناء غير الأرسطي في الدراما الغربية. ولا مناص لنا من البدء بالسؤال عن أصل التراجيديا. وهو موضوع لا يزال يحيط به الغموض ويثور حوله الجدل. ولعلنا لن نصل فيه إلى جواب يقيني حتى يتم الكشف عن نصوص مسرحية كتبها مؤلفون سابقون على الشعراء الإغريق المعروفين. والشيء المؤكد على كل حال هو أن الشكل الأرسطي للتراجيديا قد جاء نتيجة تطور تم في مرحلة متأخرة، وأن هذه التراجيديا قد نشأت عن روح الموسيقى، كما يقول نيتشه في كتابه المعروف عن مولد التراجيديا.
كانت التراجيديا ذات طابع طقوسي تعبر عنه بالرقص والموسيقى. وكانت هذه الطقوس تتم في صورة إنشاد متبادل بين الكورس (الجوقة) وقائده الذي يجسد الإله أو البطل. وارتبطت هذه الطقوس بعبادة ديونيزيوس، رب الخمر والنشوة، التي بلغت أوجها في القرن السادس قبل الميلاد، ثم دخلت الكلمة المنطوقة لأول مرة - ويروى أن ثيسبيس هو الذي فعل هذا! - فجعلت المنشد الذي كان يقوم بالرد على الكورس هو المتحدث الوحيد، كما وضعت بذلك أول حجر في البناء الدرامي ...
كانت التراجيديا القديمة احتفالا طقوسيا لا يمكننا أن نصفه بأنه تراجيدي إلا على سبيل التجاوز أو على سبيل المجاز. فقد كانت هذه الطقوس تحتوي على عناصر شعبية وديونيسية توضع بعضها بجوار بعض في حرية وبغير تقيد بموضوع أو غرض معين. ثم استخدمت بعد ذلك - على نحو ما يروي أرسطو - موضوعات من الأساطير كيفما اتفق أو كيفما أحب الناس. حتى إذا جاء الشعراء المتأخرون اختيرت أساطير يمكن أن توصف بأنها تراجيدية. وبدأت مع إيسخيلوس - الذي أدخل الممثل الثاني - مرحلة يمكن أن نسميها «درامية» تمثلت في تبادل الحوار والأخذ والرد واستغراق الكورس في تأملاته الطويلة. ولو نظرنا إلى «الفرس» لإيسخيلوس لوجدناها خالية من أي حدث مسرحي؛ فنحن نسمع أخبار المعركة وهي تروى أمامنا، فترد عليها الشخصيات والكورس بالتفجع والشكوى. الحدث إذا غير مرئي، والدراما - إن جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة للدلالة على نوع أدبي معين - تقوم على عناصر ملحمية وغنائية تؤلف في مجموعها أحد الطقوس التي أشرنا إليها. ونفس الشيء ينطبق على مسرحيته الأخرى «السبعة ضد طيبة».
هذه العناصر الملحمية الغنائية التي أخذت تقل لمصلحة الحدث الدرامي - في مسرحيات سوفوكليس ومسرحيات إيسخيلوس المتأخرة - لم تختف بعد ذلك ولم تنقطع عن القيام بدورها. فقد ظلت رواية الخبر وظل التأمل الشاعري عنصرين أساسين من عناصر الدراما. ومن يقرأ كتاب نيتشة السابق الذكر يجد كيف شاعت الجوانب الملحمية في أعمال يوريبيدز، وكيف ربط نيتشه هذه الملحمية بما سماه التنوير السقراطي الذي جعله علامة على ضمور التراجيدية أو الديونيسية الأصلية وظهور المرحلة «الأبولونية» أو العقلانية التي كانت بداية انحلال الروح اليوناني البطولي وتدهوره ... •••
يبدو أن الدراما الغربية قد ولدت ولادة ثانية عن طقوس العبادات، ونقصد بهذا نشوء ما يسمى بتمثيليات الأسرار في العصور الوسطى عن القداس المسيحي.
كانت الطقوس المسيحية الأولى تصور الأحداث الواردة في الأناجيل الأربعة في صورة رمزية، كموت المسيح بعد العشاء الأخير وصلبه وقيامته. ثم دخلت عليها بالتدريج ألوان من الزخرفة والتمثيل الصامت أو المنطوق. وفي القرن التاسع كانت تتخلل تلاوة نص القداس إضافات نثرية تلقى بطريقة تمثيلية منغمة، كما كانت إشارات القساوسة والرهبان وحركاتهم الرمزية - من مسير إلى الأمام والخلف وتبخير المكان، وتسليم الأكفان تمهيدا للقيام بتمثيلية عيد الفصح - تتزايد شيئا فشيئا وتحفل بألوان من الزينة في الملبس والإشارة للتأثير على جمهور المصلين. ثم دخل عليها نوع من «الدرامية» بإضافة أصوات أخرى لم تكن قائمة من قبل، فانضمت إلى الإنشاد المتبادل بين القسس والمصلين أصوات أخرى تغني على لسان الملائكة والرسل والنساء كل على حدة، وكان الرهبان والصبية الذين يمثلون الجوقة ينشدون هذه الأدوار من المكان المعد للجوقة.
ثم اتسع الأمر في القرن الرابع عشر عندما أضيفت إلى الأحداث التي تصور عيد الفصح أحداث أخرى مستمدة من الأناجيل، مما أدى بطبيعة الحال إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يؤدونها. ولا ينبغي أن يغيب عنا أن هذه النزعة الدرامية المتزايدة كانت تعتمد باستمرار على طقوس القداس التي كانت تقطعها بين الحين والحين تراتيل يتبادلها القسيس والمصلون، وتأملات شاعرية في نصوص الإنجيل أو أناشيد المصلين ... وعلى هذا الأساس الملحمي من نصوص الإنجيل - التي تروى غناء على لسان الرسل وتمثل حركات وإشارات وإيماءات يتخللها حوار بين أشخاص مختلفين - نشأ شكل تمثيلي قريب من الأوراتوريوم المعروف في عصر الباروك.
অজানা পৃষ্ঠা